U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "العمى" لساراماجو

 






 

كُلُّ شيء بدأ عند شارة المرور الكَهرمانيَّة. إنَّها تَشعّ بالضَّوء الأحمر. السَّيَّارات مُتراصَّة باستسلام تنتظر إشعاع الضَّوء الأخضر. وعندما يضيء ينطلق جميعها إِلَّا واحدة. صرخت أبواق السَّيَّارات العالقة خلف هذه السَّيَّارة التي لا تتَحرَّك... "خرج بعض السَّائقين من سَيَّاراتهم وقد استَعدُّوا لدفع السَّيَّارة الجانحة إلى مكان لا تعوق فيه حركة المرور. خبطوا غاضبين على زجاج نوافذها المغلقة، والرَّجل في داخل السَّيَّارة يتَلفَّت برأسه ذات اليمين وذات الشِّمال. من الواضح أنَّه كان يصرخ بشيء ما، ومن حركة شفتيه بدا أنَّه يُكرِّر بضع كلمات، ثلاث كلمات تحديدًا، أنا أعمى، كما اتَّضح لاحقًا عندما نجح شخص ما بفتح باب السَّيَّارة أخيرًا"... يساعده أحد المَارَّة مِمَّن تَجمَّعوا بدورهم لاستطلاع الأمر، عندما يتَبرَّع بقيادة السَّيَّارة ومرافقة هذا الرَّجل المكلوم حتَّى بيته. في البيت تُفاجأ زوجته بهذه المصيبة. تذهب به إلى عيادة طبيب عيون. بعد إنهاء جميع ما يلزم من إجراءات الكشف على عيني الرَّجل يُصاب الطَّبيب بالحيرة، العينان عُضويًّا سليمتان تمامًا، فما سبب هذا العمى الذي أصابه؟ ثُمَّ إنَّه عمى لم يسبق لعلوم الطِّبِّ الإشارة إليه، ولا صادفه طوال مزاولته لمهنة طِبِّ العيون. إنَّه عمى أبيض! 

مع الوقت يتَّضح للجميع أنَّهم قد سقطوا في براثن كارثة كبرى لم تكن في الحسبان. إذ كان هذا العمى معديًا! لقد عمى الرَّجل الذي ساعد قائد السَّيَّارة، وعميت زوجته. كما عمي الطَّبيب، كذلك زُوَّار الطَّبيب من مرضاه. وهكذا تسلسل العمى انشطَاريًّا ليصيب الجميع، كُلَّ سُكَّان المدينة، وكُلَّ مواطني الدَّولة، وربما كُلّ شعوب العالم، عدا زوجة الطَّبيب! إنَّها الوحيدة، دونما سبب مفهوم، التي لم يصبها العمى!

في المراحل الأولى سارعت الحكومة باتِّخاذ الإجراءات المعتادة إزاء ظهور الأمراض المعدية والوباءات، فاختارت أحد مبانيها الرَّسميَّة المهجورة حجرًا صِحِّيًّا، لتحجز في جانب منه الذين أصيبوا فعلًا بالعمى، وفي الجَّانب المواجه محتملي العمى. وأقامت على هذا الحجر الحراسات المُشدَّدة.

بدأ عميان الحجر في استكشاف طرق التَّعامل مع عماهم، والتَّعامل فيما بينهم، خصوصًا في مسألة الحصول على الطَّعام، الذي كانت الحكومة تَمدّهم بحصص غير كافية منه، وتقسيمه بطريقة عادلة. لم تكن زوجة الطَّبيب، رغم قدرتها على الرُّؤية، تستطع التَّدخُّل في أي شأن، حتَّى لا يكتشف العميان ذلك فيرهقونها بما لا تستطيع تلبيته من طلباتهم التي لن تنتهي حتمًا. يتَطوَّر الأمر، دونما سبب مفهوم أيضًا، عندما ينبثق فجأة، بين مجموعة عميان جدد كانت قد وفدت إلى العنبر المجاور، عدد منهم ليَتَّخذ العنف وسيلة للاستئثار بكُلِّ حصص الطَّعام وتوزيعها حسبما ارتأوا، ثُمَّ يُصعِّدون الأمور إلى استلاب ممتلكات الغير بالقُوَّة، قبل أن يرفعوا مستوى القهر إلى ذروته عندما يطالبون الرِّجال بإرسال نسائهم إليهم ليقوموا بممارسة الجنس معهم. وبالفعل، يضطر الرِّجال إلى الرُّضوخ لهذا المطلب المُذلّ. وبعد ممارسات جِنسيَّة مزرية، ومهينة، تُقدم زوجة الطَّبيب المبصرة، أخيرًا، على اتخاذ خطوة إيجَابيَّة، فتقتل زعيم هذه المجموعة. قبل أن يقوم مُتمرِّد آخر بإشعال النَّار في عنبرهم، لتمتد ألسنتها وتتطاول فتحرق الحجر الصِّحيَّ بأكمله.

تفلح زوجة الطَّبيب في قيادة مجموعتها، التي تُمثِّل أشخاص الرِّواية الرَّئيسة، إلى الخارج، وإنقاذها من التَّفحُّم. ليكتشفوا أنَّ المدينة قد أصابها العمى، ما أّدَّى بها إلى الخراب المكتمل، حيث الخوف والجوع وأكل جثث الموتى! وجماعات العميان تُطوِّف في الشَّوارع بصورة مرعبة تشبه جماعات الزُّومبي في الأفلام الأَمريكيَّة. بدت المدينة، في نهاية الأمر، مدينة منكوبة، كأنَّ زلزالًا مريعًا أَلمَّ بها، أو أنَّها فُجِّرت بسلاح دمار شامل.

تجتهد زوجة الطَّبيب، بصفتها المبصرة الوحيدة، في البحث عن طعام، بعد أن جمعت أفراد مجموعتها في بيتها، وأسبغت عليهم من عنايتها واهتمامها الشَّيء الكثير. ثُمَّ. ثُمَّ لا شيئ!

فكما تَسلَّل العمى إلى المدينة، دونما سبب مفهوم، رحل عنها أيضًا.

وتنتهي الرِّواية.

كانت تلك هي فكرة، وقِصَّة، رواية "العمى"، التي كتبها الأديب البُرتغاليُّ الشَّهير "جوزيه ساراماجو"، بعد أن أُوحِيَت إليه أثناء انتظار وجبته المُفضَّلة في أحد المطاعم. فربما، بينما يجلس على منضدته، تَصرَّف أحد المحيطين له كالأعمى، فخطر له فجأة: ماذا لو كانوا كُلُّهم عميانًا؟

ثم استطرد، في الحوار الذي أجرته معه صحافية تدعى "دونزيلينا بارروسو"، وهو الحوار الذي سيكون بمثابة حجر زاوية بنية وجهة نظري بخصوص هذا النَّصّ، بالأَخصِّ هذا المجتزأ، عندما استطرد قائلًا: كانت هذه بذرة الرِّواية، بعد ذلك كان عَليَّ فقط تَصوُّر الظُّروف الأَساسيَّة، والسَّماح للعواقب أن تكبر، إنَّها عواقب وأحداث مخيفة، لكنَّها أيضًا مَبنيَّة على أساس مَنطقيٍّ. ليس هناك أَيّ خيال جامح في "العمى"، هي فقط تطبيق مُنظَّم للسَّبب وما يتَرتَّب عليه.

فهل كانت هذه "العواقب" و"الأحداث المخيفة" النَّاتجة عن تلك "الظُّروف الأسَاسيَّة" مَبنيَّة فعلًا على أساس مَنطقيٍّ، ما ينفي عنها صفة الخيال الجامح؟

بمعنى: هل استطاع "ساراماجو"، فعلًا، بناء تَصوُّر مَنطقيٍّ وحَقيقيٍّ، أو أقرب للحَقيقيّ، لعالم أصابه العمى؟ هذا العمى المَرضيّ، غير المَجازيّ، البعيد عن الخيال الرِّوائيِّ الجامح، وعن الإسقاطات والتَّرميزات المستهدفة بالكتابة الأَدبيَّة؟ هل نجح في ما أطلق عليه "التَّطبيق المُنظَّم للسَّبب وما يتَرتَّب عليه"؟

يجب أن تكون إجابة هذا السُّؤال، دون شَكٍّ: نعم. فـ"ساراماجو"، حسب مقولة النَّاقد الأَمريكيِّ هارولد بلوم، تلك التي تثبت أنَّ المبالغة والتَّهويل ليسا فَنَّين عَربيَّين خالصين، أعظم الرَّوائيِّين الموجودين على قيد الحياة! وكان لم يرحل بعد. لكن، لو أنَّ عقولنا نحت بعيدًا عن منهج النَّقد  القطعاني، ولم تسلم قيادها للصَّوت الجَمعيِّ الذي اعتاد التَّهليل تقديسًا لإفرازات "نوبل" الحَوليَّة مهما كانت على غير المستوى. لكانت إجابة سؤالنا أعلاه: لا.

فلو أنَّ هذه الرِّواية سمحت حقيقة لعواقب ظهور العمى بالتَّطوُّر الطَّبيعيِّ "على أساس مَنطقيٍّ خال من أَيِّ خيال جامح"، لتكون "تطبيقًا مُنظَّمًا للسَّبب وما يتَرتَّب عليه". لخرجت "العمى" على غير شكلها الحالي! إذ أنَّ المَنطقيَّ فور اكتشاف تَحوُّل العمى من مرض يصيب الأفراد إلى وباء يطيح بالمجتمعات مسارعة المُؤسَّسات الطِّبيَّة للعمل بشكل سريع وحاسم، لتتضافر جهود جميع الجهات المسؤولة عن الأمن القَوميِّ من أجل التَّعامل مع هذه المشكلة الكبيرة بطريقة فَعَّالة، وستبحث في إيجاد حلول، كإن كان توزيع أجهزة رؤية مُتطوِّرة تُوضع على العين لتمنع العدوى أمر ممكن. وأثناء العمل على إيجاد مثل هذه الحلول لن يُترك العميان يتَخبَّطون بهذا الشَّكل اللا إنسَانيِّ، الذي عرضته الرِّواية، داخل أماكن الحجر الصَّحيِّ، بل سيجد المسؤولون العديد من الطُّرق لإرشاد العميان إلى حياة آدَميَّة داخل معازلهم. كما أنَّ العميان أنفسهم، وهم بالأساس مدَنيُّون متَحضِّرون، لن يتَوقَّفوا عن ابتكار حلولهم الإنسَانيَّة المحترمة، وإن كانت مُؤقَّتة، لما يطرأ عليهم من تبعات العمى، فبَديهيٌّ أنَّ الحاجة أُمُّ الابتكار. ما يعني أنَّه مهما كان العمى طاغيًا فلن يكون هناك أبدًا كُلُّ هذا الخراء والعفن الذي تناثر في الطُّرقات بين عنابر الحجر الصِّحيِّ! لن يكون هذا النِّزاع الحَيوانيُّ حول حصص الطَّعام. كما أنَّ تلك المجموعة من العميان الأشرار لن تنبت هكذا فجأة! فالمعلوم من الإنسان بالضَّرورة أنَّ الكوارث الكبرى تغسل رداءته، وتزيل صدأه، فيَتَّضح معدنه الأفضل، لا العكس. كما أنَّ "الأساس المَنطقيُّ"، الذي تَكلَّم عنه ساراماجو في حواره، لم يكن مقنعًا لي لأهضم، بأريَحيَّة، مَنطقيَّته الدَّاعية إلى أنَّه يمكن لمن فقد بصره ممارسة عمليات السَّلب والنَّهب بالقُوَّة! خَاصَّة وأنَّ هذا المغتصب الأعمى لا، ولن، يعرف كَيفيَّة إنفاقها في عالم كُفَّ بصره!

وأتَصوَّر أنَّه مهما أُصيب العالم بالعمى فلن يعود رديئًا حقيرًا. مهما تَجرَّد الإنسان من إمكَانيَّاته وجميع حَواسِّه، دون إرادته في الحياة، فلن يكون شيطانًا، ولن يكون أَقلَّ من أصناف الحشرات والكائنات التي سرعان ما تتوافق مع ما يُفرض عليها من ظروف، مهما كانت بالغة السَّوء، لتواصل حياتها بشكل مُنظَّم ومُرتَّب. على ذلك أخفقت هذه الرِّواية في تقديم صورة مَنطقيَّة لعالم أعمى. وقد أخفقت لثلاثة أسباب: أَوَّلهما: هو أنَّ ساراماجو لم يستطع أن يكون أعمى حَقيقيًّا أثناء كتابة هذه الرِّواية. وثانيهما: هو عدم إخلاص ساراماجو لفكرته الأسَاسيَّة، وهي "تقديم نموذج مَنطقيٍّ وَاقعيِّ ليس خَياليًّا لعالم أعمى" لينحاز إلى التَّرميز والإسقاط. أَمَّا ثالثهما فهو اختياره للكتابة عن عالم لم يَستقرّ بعماه بعد، بل في مرحلة المفاجأة به، مرحلة الارتباك والتَّخبُّط. وهي مرحلة لن تعكس، بحال من الأحوال، حقيقة الإنسان الأصيلة كمخلوق لا يتَوقَّف عن صنع الحضارة مهما كانت الظُّروف قاسية.  

وأن ينحاز الرِّوائيُّ إلى التَّرميز والإسقاط فهذا يعني أنَّه لا يستهدف بروايته بناء عالم مختلف بقدر ما يستهدف رسم عالم مواز، وشَتَّان الفرق بين عالم مختلف وعالم مواز. العالم المختلف له قواعد وأصول مغايرة تمامًا لقواعد وأصول الواقع، يخترع السَّارد قوانين وجوده اختراعًا، بجِدَّة وفرادة تليقان بعالم يُخلَق بِدعًا. أَمَّا العالم الموازي، وإن اختلف في بعض نواحيه عن الواقع، فيمكن الإسقاط والتَّرميز به، لأنَّ أسَاسيَّات نشأته تَتَّفق مع قواعد وأصول الواقع. وهكذا، بالقياس، فإنَّ "العمى" قَدَّمت عالما موازيًا، لا عالمًا مختلفًا.

فما الذي دفع ساراماجو للانحراف عن خلق عالم إلي نقل عالم؟ عن التَّصوير والإعمار إلى التَّرميز والإسقاط؟ لماذا حاد عن الذي هو خير إلى الذي هو أدنى؟

للإجابة علينا العودة إلى قراءة السَّبب الأَوَّل من الأسباب الثَّلاثة التي أَدَّت إلى فشل "العمى" في نقل صورة حَقيقيَّة تعكسها ترتيبات مَنطقيَّة لعالم أعمى. نتَذكَّر أنَّ ذلك السَّبب قد أشار إلى أنَّ ساراماجو لم يكن أعمى حَقيقيًّا أثناء كتابة هذه الرِّواية. ربما حاول أن يفعل، وعندما واجهته صعوبة الأمر، إلى حدَّ الاستحالة، اضطر إلى استخدام شَخصيَّة مبصرة، لتصف بعينيها وقائع عمى العالم من حولها. كانت زوجة الطَّبيب.

سألت دونزيلينا بارروسو، في الحوار المشار إليه، جوزيه ساراماجو عن أَيّ شَخصيَّاته الرِّوائيَّة يَحبّ رؤيتها كشخص في الواقع. فبدأ إجابته بشكل تَقليديٍّ، مشيرًا إلى أنَّ شَخصيَّاته الرِّوائية ما هي إِلَّا انعكاس لشَخصيَّات وَاقعيَّة و. و. و. ثُمَّ قال: "زوجة الطَّبيب في رواية العمى هي شَخصيَّة مُتميِّزة جِدًّا، لدَيَّ شَخصيًّا صورة مَرئيَّة ومُحدَّدة لها...".

وأزعم أنَّ ساراماجو لم يكن صادقًا في إجابته هذه، بل ربما تجاوز الصِّدق إلى المناورة والخداع! لأن القارئ الحصيف لن يحتاج لكثير جهد ليكتشف أنَّ زوجة الطَّبيب شَخصيَّة مُدَّعاة، دخيلة على عالم ليس عالمها، فهي الوحيدة التي لم تُصَب بعدوى العمى دونما مُبرِّر مفهوم، فلا هي المؤمنة الصَّالحة التي تنقذها العناية الإِلهيَّة من سخط رَبَّاني حَلَّ على العالم في صورة عمى ولا هي استخدمت وسائل وقَائيَّة ذات قدرات خَاصَّة، ولا أَيّ شيء. فهل اطَّلع ساراماجو على قُرَّاء روايته المُستقبليِّين، فرآهم عميانًا بدورهم، يقرأون قطعانًا، لا يستطيعون التَّمييز بين عالم رِوائيٍّ فانتَازيٍّ مُمنطق، وبين العبث الرِّوائي. وعلى ذلك لم يكن مُهمًّا أن يُمنطِق وجود امرأة مبصرة وحيدة في عالم أعمى؟

على كُلِّ حال، ومهما امتنع ساراماجو عن مَنطَقة وجود شَخصيَّة زوجة الطَّبيب في روايته "العمى" فقد فعل النُّقَّاد، الذين اكتشفوا، بعماهم الأبيض، كيف أنَّ هذه الرِّواية بلغت عمقًا لم تبلغه رواية من قبل أو من بعد. وليجاهر أحدهم بأنَّ ساراماجو أعظم روَائيٍّ على قيد الحياة! ثُمَّ يعمل النَّقد القُطعانيُّ عمله على مستوى العالم الأبيض! دون التفات من أحدهم إلى الخلل الفظيع الماثل في شَخصيَّة زوجة الطَّبيب.

ولم يكن عدم مَنطقيَّة وجود هذه الشَّخصيَّة هو خلل الرِّواية الوحيد، بل كان وصف عالم العميان بعينيها خللًا أشنع. عندما أَدَّى هذا الخلل إلى انهيار الفكرة الرَّئيسة للرِّواية رأسًا على عقب. فمهما وصف علماء الأحياء رؤية الأسد للغابة سيبقى وصفهم قاصرًا عَمَّا لو تَمكَّن الأسد ذاته من وصف الغابة برؤيته. ومهما حاولت عيون المبصرين وصف العالم كما يراه العميان فلن تصفه كما "يراه" العميان بالفعل. لأنَّ العميان، وإن تعَطَّلت لديهم آلة واحدة من آلات التَّعرُّف، فإنَّهم يلجأون إلى تشغيل العديد من الآلات الأخرى للتَّعرُّف على العالم، والتَّعامل معه، كالأنف، والسَّمع، والأنامل، والحدس، وغيرها. لذلك كان شَاذًّا جِدًّا أن تتناول رواية، كـ"العمى"، عالم العميان دون أن نلمس أدوارًا فاعلة لهذه الأدوات الأسَاسيَّة التي لا يمكن لأعمى العيش دون تفعيلها! أَمَّا سبب هذا الخلل فمعروف، إنَّه السَّيِّدة المبصرة زوجة الطَّبيب! فعلام تشغيل الأدوات البديلة التي لا بد للأعمى من استعمالها ولدينا زوجة طبيب مبصرة يمكن بواسطة عينيها نقل صورة للعالم الأعمى دونما إجهاد!

وليت ما خَلَّفه وجود هذه الشَّخصيَّة من مثالب داخل الرِّواية انتهى عند هذا الحَدّ. فقد كانت زوجة الطَّبيب، طوال الوقت، قادرة على التَّدخُّل والتَّصرُّف إزاء الأزمات التي تَعرَّض لها العميان في الحجر الصَّحيِّ بما لا يجعلهم يكابدون كُلَّ هذا التَّخبُّط، أو لا يُعرِّضهم لهذا الحجم من المهانة والإذلال، لكنَّها لم تفعل، وما كان لها أن تفعل. فلو أنَّ ساراماجو أرسل لها العنان، تاركًا إِيَّاها على سَجيَّتها، كي تتَدخَّل وتفعل لما كان هناك صراع، ما يعني أنَّه لن تكون هناك رواية بالأساس. لذلك كان على ساراماجو، الذي أمل في أنَّ قُرَّاءه قد يصابون بعدوى العمى الأبيض فلا يرون خطاياه السَّرديَّة الواضحة وضوح الشَّمس، تقييد هذه الشَّخصيَّة بسبب قَويٍّ يُمنطِق عدم تَدخُّلها لصالح رفاقها في الحجر الصِّحيِّ. ومن المؤسف أن هذا السَّبب خرج للعيان لا أخلَاقيٌّ؛ إذ ادَّعت زوجة الطَّبيب العمى خشية أن يرهقها العميان بطلباتهم فيما لو أدركوا أنَّها مبصرة! إنَّه ليس سببًا لا أخلَاقيًّا فقط، بل واهيًا أيضًا.

وأجدني، الآن، راغبًا في إرشاد القارئ إلى طريقة بسيطة يمكنه بها الكشف عن مدى جودة "العمى"، وإن كانت رواية عظيمة حقًا أم إنَّها رواية والسَّلام. امسك عزيزي القارئ بقلم رصاص، وافصل جَيِّدًا بين أحداث الرِّواية وتَدخُّلات الرَّاوي العليم، وهو هنا ليس راويًا عليمًا فقط، بل حكيمًا أيضًا! الق تَدخُّلات الرَّواي جانبًا وأعد قراءة الأحداث. ستفاجأ بالنَّتيجة عندما تجد نفسك بمواجهة قِصَّة رديئة من قصص الخيال العِلميِّ.

هنا سندرك سبب ولع ساراماجو بالتَّدخل أثناء السَّرد، وإلقاء الحكم العظيمة. إنَّه يفعل ذلك لسبب غاية في الأهمية: أن ينقذ أفكاره الإبدَاعيَّة الفارقة من تناوله الرِّوائيِّ الهش. فربما يكون هذا البُرتغاليّ سَيِّد الأفكار الإبدَاعيَّة المختلفة، لكن من المُؤكَّد أنَّه لم يُؤت ملكة سَرديَّة تواكب قريحته الابدَاعيَّة.

لكن، كما قال أحدهم، وأَظنّه جابريل جارثيا ماركيز: "الكلام عن الموسيقى أجمل من الموسيقى". وهكذا كلام النُّقَّاد عن ساراماجو أجمل من ساراماجو.

 

 

 

 

       

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة