U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

هَنُ الكلبة، وهَوجل الكلب

 


 




ما معنى "هَنُ" و"هَوجل" في العنوان أعلاه ؟

اصبر وستعرف معناهما من سياق الكلام (الجاي).

 

والكلام عن قاضي قضاة شهير، عاش في المئة الثالثة العظيمة من سني الأندلس الباهرة؛ كان جريئا في قول الحق، لا يهاب سلطانا، ولا يمالئ حكاما، ولا يتحسس لكلامه طريقا، بل يدفعه من فمه (بلدوزر) يُعبِّد به للحق المُستحَق؛ وسنة الله في البشر أنهم إذا استقووا للحق، مِش عليه، ولم يخشوا فيه ملاما، أضعف لهم الطواغيت، ولين الجرانيت، وروض وحيدي القرن الخراتيت؛ فكان أن ليَّن الله قلب ملك الأندلس وقتها، عبدالرحمن الناصر، فعيَّن قاضينا الجرئ إمامًا لأكبر مساجد أعظم مدن الحاضرة العربيَّة الفقيدة، قرطبة.

قاضينا اسمه المنذر بن سعيد. ولم يكن مجرد قاض جريء، إذ قد تكون الجرأة استعراضا، ليست لوجه الله، يريد الجريء أن يقال عنه شجاع؛ لكن بلغ من إخلاص الرَّجل لوجه الله أن كان يُستسقى به إذا الحال أمحلت، والغيطان أقحلت، فيسقيهم الله بطلعة مولانا المبارك ودعائه.

العجيب أنَّه مع تمتعه بالورع العميق تمتع أيضا بخفة دم، ومرح، وقدرة على التقاط الفكاهة الجريئة.

أو قل: الفكاهة الوقحة!

حُكي في كتاب المقَّريّ "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" أن مولانا المنذر كان بصحبة مجموعة من الرُّفقاء في مشوار للنظر في قضية بصفته قاضي القضاة، والرفقاء يسيرون خلفه في تهيب وتوقير عظيمين؛ فإذا بـ(شوية) كلاب يطوفون بكلبة ممحونة، وهم يهتبرون هَنَها، ويلعقونه بشبق وشراهة.

واللعق : اللحس.

والهَنُ : الملحوس، الذي يا رب تكون عرفته.

كتب المقَّريُّ بالنص، نقلا عن بعض مرافقي قاضي القضاة المنذر بن سعيد: "فوقف، وصرف وجهه إلينا، وقال: ترَون يا أصحابنا! ما أبَرَّ الكلاب بالهَنِ الذي تلعقه وتكرمه، ونحن لا نفعل ذلك؛ ثُمَّ لوى عِنان دابَّته وقد أضحكنا، وبقينا مُتعجبِّين من هزله".

وفكاهته الوقحة ـ بحسب رؤية مغاليق التَّديُّن ـ لم تكن فلتة وانتهينا، لكن لمولانا ابن سعيد العديد والعديد من مثلها.

منها مثلا وقعة الهَوجل. 

وللهوجل معاني كثيرة جدا، منها : الهلب، يلقى في عمق البحر لتثبيت السفينة.

استمر الملك الحَكَم المستنصر على بر أبيه الناصر بمولانا المنذر بن سعيد، فمولانا دمه خفيف، والسلاطين تحب خفيفي الدم، لذلك دعاه إلى مجالسته في يوم شديد الحرارة، وعزم عليه يغطس في البيسين (كان اسمه صهريج، أو بِركة) ليبرد جسمه، ومولانا لا يُحسن العوم، وليس من الإحسان رد دعوة السلطان. 

رأى السلطان أن مولانا خائف من النزول في الماء، فدفع بالحاجب يسبقه إلى النزول تشجيعا له، وفعل، ففعل مولانا؛ بيد أنه لم يلق بجسمه في الماء أبدا، فقط نزل درج البيسين واحدة واحدة، بتثاقل شديد، ثم بالنهاية كمن واقفا عند آخر درجة، والحاجب يسبح، ويغطس، ويبحر، ويمخر، في خفة الفراشة، يبدي من فنون العوم أعاجيب، ويحاول جاهدا سحب مولانا إلى العمق، ومولانا ثابت في مكانه طودا لا يتزعزع، وجبلا لا يتتعتع.

يكتب المقَّريُّ بالنَّص: "إلى أن كلمه الحَكَم: ما لك لا تساعد الحاجب في فعله، وتتقَبَّل صنعه؟ فمن أجلك نزل، وبسببك تبَذَّل؛ فقال له: يا سَيِّدي يا أمير المؤمنين، الحاجب سَلَّمه الله تعالى لا هَوجل معه، وأنا بهذا الهَوجل الذي معي يعقلني، ويمنعني من أن أجول معه مجاله؛ يعني أنَّ الحاجب خَصيٌّ لا هَوجل معه".

أظنك عرفت معنى الهَوجل.

كان هذا هزل قاضي القضاة الورع في الأندلس العظيم، وقت قوة المسلمين وسيادتهم، أما في زماننا، زمن الضعاف الخفاف الهذال الزلال، المُتسيَّد عليهم، فيأتون من جد التورع ما يغتت الحياة، ويثقلها، ويثبتها بكل هواجل ثقل الدم والغلاسة.

فيظهر للدين العظيم كارهون، ومستنورون.

  

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة