U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "في غرفة العنكبوت" لمحمد عبدالنبي

 

 




تَظنّ الغَالبيَّة العظمى من البشر أنَّ العنكبوت من الحشرات، في حين يُؤكِّد العلم على أنَّه أبعد ما يكون عنها، بل حيوان ينتمي للمِفصليَّات!

وفي الوقت الذي يكره الإنسان العنكبوت كرهًا عظيمًا، معتبرًا إِيَّاه رمزًا للخديعة والخراب، فيحاربه بجميع أنواع المُنظِّفات التي تبيده، تثبت الأبحاث العِلميَّة الفضل لهذا الكائن المِفصليّ في استمرَاريَّة بقاء الإنسان على الأرض آمنًا من شَرِّ الحشرات. فلولا أنَّ آلاف الأنواع منه تتَغذَّى بشراهة على جميع صنوف الحشرات لتكاثرت بشكل يجعل حياة الإنسان في هذا العالم جحيمًا لا يطاق.

ثُمَّ إنَّ علوم تفسير الأحلام تُبشِّر رائي العنكبوت في المنام بالخير والسَّعادة، بتحقيق انتصارات ونجاحات، بتحصيل أموال.

وهكذا يمكن اعتبار الإحساس الإِنسانيِّ المُتحفِّز ضِدّ العنكبوت إحساسًا خاطئًا، أو: ليس في مَحلّه على طول الخَطِّ.

ومع ما سبق من فضائل العنكبوت يبقى، في محيطه البِيئيِّ، قاتلًا صبورًا، ومحترفًا، يُعدّ الفخاخ المميتة بهدوء وأناة، ويبتلع ضحاياه مَصًّا مُتروِّيًا، أو تمزيقا فَتَّاكًا.

لذلك أظن أنَّ القارئ الذي يرغب في قراءة رواية تحمل عنوان "في غرفة العنكبوت" ربما سيتَوقَّع منها، وقد انطبعت في ذهنه أجواء الخديعة والخراب التي توحي بها كلمة "عنكبوت"، أن تعرض عليه أحوالًا كَابوسيَّة لضَحيَّة سقطت في شباكه، وأنَّ هذا الكائن المخيف سيتَجلَّى، في هذه الرِّواية، بأحد أشكاله الاعتِباريَّة المرعبة.

على أنَّ هذه الرِّواية لن تُقدِّم مثل هذا العنكبوت المُتوقَّع. فليس فيها من عناكب غير عنكبوت صغير للغاية يحاول "هاني محفوظ"، الشَّخصيَّة الرَّئيسة، إقامة علاقة صداقة معه، فيضعه في درج الكوميدينو بعد أن يفضفض له بما تَيسَّر من حكايته البائسة. وعنكبوت آخر، أسود ضخم، يَقضّ مضجع البطل عندما يغزو أحلامه بالمُفزعات. خلاف ذلك لا يوحي ظاهر الرِّواية بوجود عناكب أخرى! وإن كانت الحقيقة على غير ذلك، إذ تناول الرِّوائيُّ المِصريُّ "محمَّد عبدالنَّبيِّ" بروايته هذه نوعًا من الشَّخصيَّات الإِنسانيَّة المربكة، تشابه العنكبوت تمامًا، تراه الغَالبيَّة العظمى من البشر شَرًّا مطلقًا، فيما تُؤكِّد العلوم النَّفسيَّة والاجتمَاعيَّة على أنَّه ليس كذلك، بل هو إنسان كأَيّ إنسان، له إيجَابيَّاته وعليه سَلبيَّاته الطَّبيعيَّين، وإن انحرفت رغباته الجِنسيَّة عن مَصبَّاتها الطَّبيعيَّة. تدور أحداث الرِّواية حول "هاني محفوظ"، لوطِيُّ سَلبيُّ، الذي يحكي عن نشأته، وكيف أنَّه ترعرع طفلًا في بيئة تصلح لصناعة مُخنَّث مِثليٍّ، فجَدُّه يرث أتيليه أزياء، في وسط القاهرة، عن امرأة يَهوديَّة اسمها "بيبا"، كانت قد عشقته بعد أن عمل معها في صنعة الخياطة، ولفرط ثقتها به، واعتمادها التَّام عليه، ظَنَّت زبوناتها أنَّه يَهوديٌّ مثلها، ومن ثَمَّ أُطلق عليه لقب خواجه، ليتَحوَّل اسم الجَدِّ من منطوق رصين، "محمَّد محفوظ" إلى منطوق آخر مائع، الخواجة "ميدا"! وبينما تعاني آلام الشَّيخوخة المُستهلَّة للموت تنقل "بيبا" مِلكيَّة الأتيليه باسم عشيقها المِصريِّ، الذي يُحوِّله مع الوقت من أتيليه صغير لزبائن مخصوصة إلى ورشة كبيرة يعمل فيها العديد من التَّرزيَّة وصنايعية مهنة الحياكة. كان "هاني" يمارس طفولته بين النِّساء من زبائن الأتيليه، وحتَّى بعد وفاة الجَدِّ، وانتقال الملكية إلى ابنه، والد "هاني"، ظَلَّ هذا الأخير مُتعلِّقًا بهذا المكان، وكان أن أضاف إلى متعة اللعب بين النِّساء متعة التلصص على العمال وهم يقفون على المباول ليرى أعضاءهم. وكان أن تَلصَّص على أبيه أيضًا، الذي لم ينهره، بل ضحك وهو يخبره بأنَّه عندما يكبر سيصير لديه عضوًا ضخمًا أيضًا. بينما "بدرية"، أُمُّه، تُحلِّق خلف حلمها البَرَّاق بأن تصبح مُمثِّلة مشهورة، لتنشغل عن ابنها. وهكذا يتحالف إهمال الوالدين مع البيئة المُخنَّثة ليدفعا بالولد إلى أَوَّل مُمارسة لُوطيَّة، كطرف سالب، مع واحد من عمال الورشة كان قد انتبه إلى شغف الولد بالنَّظر إلى عضوه!

وإن كانت الممارسات الشَّاذَّة الأولى قد تَمَّت على عواهنها، دون تخطيط مسبق، وحسبما تكون الظُّروف، إِلَّا إنَّها أسقطت "هاني محفوظ" في جُبِّ حُبِّ الرِّجال، ليكتسب مع مرور السَّنوات، وبالمزيد من الممارسات، خبرة كبيرة في كَيفيَّة التَّعرُّف على غير الطَّبيعيِّين، وطرق الحصول على الآمن منهم، الذي يُؤدِّي المُهمَّة ثُمَّ يذهب بعيدًا بفم مغلق على السِّرِّ. ولمزيد من الاحتياط يتَزوَّج إحدى زميلاته في العمل، وينجب منها بنتًا، لكنَّه يبقى كارهًا للمرأة راغبًا في الرِّجال، يتَبدَّل فيما بينهم، حتَّى تسوق الظُّروف إليه الشَّاب "عبدالعزيز"، فيسقط "هاني" في غرامه كما تسقط أَيّ أنثى في غرام رجل، ليصبح عاشقًا حَقيقيًّا له. وليعاني من آلام الهجر وليستمتع بلذة الوصال حتى يتم القبض عليهما ضمن مجموعة من الشواذ تم اتهام عناصرها بممارسة اللوطية وازدراء الأديان وعبادة الشَّيطان.

وبعد سبعة أشهر من المعاناة يخرج "هاني محفوظ" فاقدًا النُّطق لهول ما عايشه خلف الأسوار من تعذيب وإهدار لكُلِّ المعاني الإِنسانيَّة. فيعتزل المجتمع محاولا تجميع شتات نفسه، منهمكا في اجترار عذاباته ليطرحها على الورق في شكل رِوائيٍّ، كما نصحه معالجه النَّفسيُّ. هذا غير فصفصته المتواصلة لعنكبوته الصَّغير حبيس درج الكوميدينو، إلى أن يتمكن بالفعل من استعادة قدرته على الكلام.

على أنَّ التَّخلُّص من آلامه النَّابعة من شذوذه ومِثليَّته لم يكن هدف الكتابة الرَّئيسيِّ، كما لم يكن إطلاع المجتمع الإِنسانيِّ على معاناة هؤلاء ومن ثَمَّ المطالبة بضرورة البحث عن حلول لمشاكلهم. لم يكن الهدف سوى كتابة قصته ليقرأها معشوقه "عبدالعزيز"! فهل كانت القِصَّة تَستحقّ الكتابة؟

كًلّ شيء يستَحقّ الكتابة مهما كان حقيرًا إن كان حَقيقيًّا مدموغًا بالصِّدق، وكُلُّ شيء لا يستَحقّ الكتابة مهما كان عظيمًا إن كان كذبًا موصومًا بالادِّعاء. والشُّذوذ الجِنسيُّ، بالخصوص المِثليَّة الذُّكوريَّة، سلوك إنسَانيُّ حقير، ليس لأنَّه مخالف للطَّبائع، فمخالفة الطبائع في حد ذاتها أصل كل عبقرية، وإنما لأنَّه مفض إلى متعة تلزم العفن والوسخ، بالأداة الخطأ في الموضع الخطأ، مع ذلك يبقى هذا الشُّذوذ قَضيَّة حَقيقيَّة تحترق بنيرانها طائفة من البشر، تتلظى على الحقيقة، تفتك بأرواحهم، يتَمنَّون لو لم يكونوا كذلك، لكنَّهم لأسباب مجهولة، وإن علمت فغير مفهومة، كانوا. لتنهشهم الأسئلة الجٌوَّانيَّة: لم هم من كانوا كذلك دون غيرهم؟ وهل عليهم تَحمُّل العقوبات الوخيمة، المَعنويّ منها قبل المَاديّ، بسبب حال لم يختاروها لأنفسهم؟ 

وعليه فإنَّه ليس من أجل تَفهُّم قَضيَّة هؤلاء فقط كانت هذه القِصَّة تَستحقّ الكتابة، كأنَّنا نتَأمَّل كائنات غريبة الطِّباع معزولة عَنَّا، نحاول تَفهُّمهما فقط مَنًّا عليها وإحسانًا إليها. بل يجب علينا قراءة هذه القِصَّة لإعمال الوَعيّ، والانتباه. فقد يصيب هذا الوباء أولادنا لو لم نحرص على تَفهُّم صفات البيئة التي تستنبته، والظُّروف المحيطة التي تُهيِّئ له النُّموَّ والتَّطور. من هذا المنطلق فقط، بوجهة نظري، استَحقَّت هذه الرِّواية الكتابة فعلًا. وكانت، على ما أعلم، الأولى، مِصريًّا وعَربيًّا، التي تناولت عالم المِثليِّين بصدق كبير، وبلا مغالاة، ودون ادِّعاء، ومن غير المطالبة بشيء، ودون توجيه إدانة لأحد. كأنَّها كُتبت لتكون فعلًا اعترَافيًّا تَطهيريًّا يمنح صاحبه مزيدًا من الثَّبات النَّفسي في مواجهة مجتمع يصر على رؤيته عنكبوتًا تَخريبيًّا.

وكما يغزل العنكبوت بمهارة خيوطًا تبدو واهية لكنَّها نِسبيًّا أقوى من الفولاذ، غزل "عبدالنَّبي" سطور روايته. كانت لغته إخبَاريَّة تَوصيليَّة، في حين كان الأسلوب رشيقًا، سريعًا ومُشوِّقًا، فرغم بُكائيَّة الألم العميق لم يسقط الرَّاوي في فَخِّ العديد والنَّوح، بل انساب الخيط تلو الخيط، مصبوغًا بالشَّجن الإنسَانيِّ الشَّفيف، لتكتمل شبكة صيد رِوائيَّة جَيِّدة الإتقان.

مع ذلك لم تسر الرُّوح الإبدَاعيَّة الخَلَّاقة في هذه الرِّواية، التي لو نُفخِت فيها لنقلتها إلى مَصافِّ الرِّوايات الفائقة، تلك التي تتَقمَّص قارئها ويتَقمَّصها، فإذا ما انتهى منها لم ينته من نفسه التي استغرقتها حَدَّ التَّوحُّد، يحاول الخلاص منها فلا يستطيع قبل أن يهذب زوائده الذِّهنيَّة المُعوِّقة. مع عدم سريان هذه الرُّوح الخَلَّاقة تَحوَّلت "في غرفة العنكبوت" إلى قِصَّة تُقرأ للعقل، لا للرُّوح. للحذر، لا للفهم. للاطِّلاع، لا للامتزاج. لهذا لم يكن ممكنًا التَّجاوز عن بعض العيوب اللافتة، كتلك المُتعلِّقة ببناء بعض الشَّخصيَّات. فشَخصيَّة البرنس، كمثال، على ما لها من أَهميَّة، وما تملكه من مساحة تسمح للسَّرد بالانطلاق دون أَعنَّة، إِلَّا أنَّ تركيز الرَّاوي على توصيل أفعال هذه الشَّخصيَّة، لا تفصيلها فَنِّيًا، أَدَّى بها إلى أن تكون مبتسرة، أو بالأَدقِّ ليست ذات كثافة تليق بدورها داخل الرِّواية. كما أنَّ شَخصيَّة كشَخصيَّة سمير بركات، الذي حاول تأسيس دينًا للوطِيَّة يكون نَبيَّه أبو نواس، وكتب له كُتيِّبًا مُقدَّسًا يحوى التَّعاليم والنَّصائح المِثليَّة، لم يكن جديرًا بها مُجرَّد الحكي عنها، وإنَّما لو استُغلِّت بروح الخلق الإِبداعيِّ لكانت بين أيدينا رواية تتجاوز حَدَّ الجودة إلى حَدِّ الاختلاف والمفارقة. لا تُقرأ ثُمَّ ينقضي الأمر، بل تُقرأ فتنقلب الأمور رأسًا على عقب.

كما كان لافتًا أنَّ الرِّواية قد انتهت بالسَّطر الأخير من الفصل الـ37، ما يعني أنَّ الفصلين الأخيرين، الـ38 والـ39 بتماميهما، ليسا غير زيادة سَرديَّة مرهقة، باعثة على الملل، لا تليق برواية جميلة وماتعة في مجملها. 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة