U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

السِّـــر


 

  كان زمان.. لا تقال كلمة "سر" إلا لـ"سر"، فكان لها وقع حادث مجلجل . 

ـ أقول لك سرا.

فينتبه الذي سيُسَر له انتباهة ابن "آدم"، في وقت الغرغرة، لملك الموت، ينسى الدنيا وما عليها، ويطرطق أذنيه جيدا، ويفتح قلبه وعقله، ويقول وقد قطب جبينه: هيه.. قُل.. سرك في بئر.

وفعلا، يكون السر سرا، شيئا ضاغطا على حياة المُسِر، شيئا ثقيلا يريد أن يشاركه أحد في حمله ليلقي به في أقرب مقلب قمامة، عند أول منحني من منحنيات شوارع دنيا القلب.

وكان المُسَر إليه دائما أمينا، يذهب عند أول بئر مهجورة، ليس فيها ماء، ويلقي السر فيها، ويردم عليه.

هذا كان في البدء، عندما كانت الكلمة لها وزن، و تخرج من حناجر رجال.

في هذه الأيام الغبراء، هناك من يرى طلوع الشمس من المشرق سرا عظيما! فيذهب بحمله، الثقيل، إلى رجل من رجال هذه الأيام الغبراء، ويقول له: عايز أقول لك سر.

والرجل الذي يُسَر إليه مشغول بمصائب الدنيا، مشغول درجة ألو جاءه ملك الموت ليقبض روحه لما انتبه، لذلك يقول وهو قرفان: اخلص قول.. دماغي اليومين دولا موش رايقه.

فيقول المُسِر: بس الكلام دا ميطلعش لمخلوق.. في بير يعني.

فيقول له: في بير يا خويا.

ويفضفض الرجل، ويمضي، ويكون هناك من يراقب ميل الفم إلى الأذن، وفور ذهاب القدمين، تسعي قدمان أخرتان، ويميل فم آخر إلى نفس الأذنين، ويفح: هوَّ كان بيقولك إيه؟

ـ عجيب أمرك يا أخي.. الرجل استأمني على سر.

ـ إيه هوَّ؟

ـ قال لي إن الشمس بتطلع من الشرق!

هذا يجري الآن، لمَّا صارت الكلمة عِهنا منفوشا، يلعب بها أشباه رجال، لعب الصبيان بالكرة.

وإذا كان هناك، من الأحداث الضاغطة على روح المرء، ما يمكن الخلاص منه على هيئة "سر"، فهناك دائما ما لا يمكن البوح به، وقد يصل من الخطورة ألا يصح حتى أن يكون حديث نفس، وغالبا تكون هذه من أسرار زمن الطفولة، وربما تكون أيضا من أسرار المراهقة، وهي أسرار حقيقية، من تلك النوعية التي ترقد في الأعماق البعيدة من روح الإنسان، ترقد بسلام، يتذكرها الآدمي فيضحك، وربما يبكي، لكنه يتعايش معها ببساطة، لأن مبرر ارتكابها معقول جدا، ومريح جدا جدا، يقول لنفسه: كنَّا عيال وقتها وموش فاهمين حاجة.

لكن العجيب، بالنسبة لي، أن للسر لون الليل، ما أسمع كلمة "سر" حتى أرى الليل وأحواله، فالسر حدث لا يجب أن يُرى، والأشياء لا تصير غير مرئية إلا ليلا، فهذا هو وقت الظلام، وما يجري في الظلام، أو يُدبر بليل، إما سخيف، أو مخيف، وكلاهما مقرف.

والسر ينتقل عبر النجوى، بالصوت الخفيض الهامس، وأنا لا أحب الأصوات الخفيضة الهامسة، وإنما أعشق الأصوات الواضحة، وكنت ذات مرة مع حبيبة سمراء، نجلس تحت ظل شجرة على الـ"كورنيش"، ناحية برج "القاهرة"، وكانت تهمس لي، وكنت أصخب لها، فقالت لي: وطي صوتك.. الناس يسمعونا.

قلت: علِّي صوتك.. خلِّي الناس يسمعونا.

فالصوت الخفيض، على ما أرى، أصحابه ثلاثة: إما ماكر أو ماكرة، وإما خائف أو خائفة، وإما مِسَهْوَك أو مسهوكة، وجميعهم أراذل.

وهناك صاحب سر الحروب، وهذا رجل داهية، لا يطيقه إلا من هو مثله، وهؤلاء يهريقون الدماء، ويهدمون ما بناه الله، ويخربون ما بناه الإنسان، يشربون الدم، ويأكلون لحوم البشر.

إنهم بشر لونهم هو اللون الأحمر القاني، لون مقيت لا أحبه.

لكن يبدو لي أن الأسرار الثقيلة على القلب، ليست تلك التي يُحمِّلك إياها الآخرون، وإنما هذه التي تُحمِّلها أنت لنفسك، ولن تستطيع أبدا أن تبوح بها لغيرك، هذه النوعية من الأسرار تبقي تصرخ في أعماق روحك، كي لا تشعر بسلام أبدا.

فكيف يمكن أن يتحدث امرؤ ما، عن أمه، وقد رآها، يوما ما، وهو طفل، تغلق باب البيت خلف أبيه، لتفتحه لرجل غريب، ثم تسحبه إلى غرفة النوم؟! هذا سر مهلك.

وهل يمكن لامرئ ما أن يتكلم عن حدث كان بمثابة نصل سكين رُشق في قلبه، يوم اكتشف أن لزوجته عشيقا يطارحها الغرام؟!

هل يمكن أن يتحدث عن ابنته، السافلة، التي ضحك عليها أحد الذئاب، فسلبها الغالي، والرخيص، دون أن يشعر أحد؟

هل يمكن أن يتحدث، هو نفسه، عن هذه العلاقة الملتهبة التي تتأجج بينه وزميلته في العمل، والتي أدت بهما للجلوس متخفيين تحت جدائل الأشجار الضخمة التب تخبئ تحت أغصانها أرائك العشاق؟

وهل يستطيع أن يتحدث عن انصياعه لنزوات مشبوبة، تدفعه دفعا لفتح المواقع الإباحية على الـ"نت"، ليرى العري الفاضح، المثير، والجنس الحداثي، الغريب؟

على أن الحياة قد لا تكون بنفس رونقها لو لم تكن تعج بالأسرار، بل ربما الحياة نفسها هي ليست أكثر من سر كبير، يقضي الإنسان عمره في محاولة فك رموز طلسمه، وهو مدفوع بحب الكشف عن المختبئ، وإظهار المكتمن، والوصول إلى نهاية ما، لذلك، حسب رؤيتي، يبقي المستقبل دائما هو سر الأسرار الحقيقي، وعلى الإنسان أن يتخلص من هذا الوهم الكبير، الذي يجعله يعتقد أنه يصنع مستقبله، فالحقيقة أنه يكتشفه فقط.

وسيكون، هناك، عبر كل الأزمنة، أناس يحاولون دوما الإستفادة من أسرار الناس، من أجل ذلك يتعلمون كيف يتحولون إلى قراصنة، فيجيدون اختراق الذوات البشرية عبر العديد من الوسائل، مستغلين الشهوة التي جُبل عليها الإنسان، شهوة حب الفضفضة.

وقرصان الأسرار يمكن أن يكون صديقك الحميم، بحكم هذه الصداقة يظل يلح عليك في معرفة الأمر الذي يشغلك، وإذا لم تفضفض له يعيب على الصداقة الهشة، التي ما أمكنها أن تؤتمن على سر، ولا كانت مهيأة للإصغاء لبوح.

كما يمكن أن يتحور قرصان الأسرار ليأخذ شكل زوجة محبة، عطوف، لن يهدأ لها بال طالما رأتك تائها، سارحا.

لكن أسوأ قراصنة الأسرار هم هؤلاء الذين يغتصبون أسرارك باسم الله، وكان هذا منتشرا في ديانات كثيرة قديمة، طقوس تشبه الإعتراف في الكنيسة، حيث يجب أن تجلس للكاهن، وتحكي له عن بلاويك السوداء، لأن هذا سيطهر روحك أيها العاصي!

قال لي أحد المسيحيين الناقمين على الكنيسة: إنهم يعرفون أسرارنا لنظل دائما في حالة انكسار لهم.

وهناك، في ديانات أخرى، من يريد السيطرة على أتباعه بصناعة سر عظيم، فتنتشر تعبيرات مخيفة، مرهبة، مثل "سر الأسرار"، و"قدس الأقداس". عبارات تسوقك، سوقا، إلى التزام حدك لو حاول فكرك أن يغامر بسفينة العقل.

وهناك أسرار في غاية الطرافة، ليست في أصلها بِسِر، ولا أحد يهتم بها إن كانت، بالفعل، سرا. مثل سر الوصفة التي تجعل البشرة ناعمة. والسر الذي يوضع في وصفات بلدية ليهيج السعادة الزوجية. وسر الخلطة المتبلة التي يضعها "ماكدونالدز"، أو "كنتاكي"، أو "أبو شقرة"، في أطعمته. ثم هذا السر المهول، سر النجاح!

ـ طيب.. بس كدا!؟ هذا هو كل ما تعرفه عن الأسرار!؟

ـ لا.. يمكنني معرفة المزيد في لحظات.

ـ كيف؟

ـ سأخبرك.. لكن يجب أن يبقى ما سأخبرك به سرا.

ـ لك هذا.. هاه.. قُل.

ـ سأكمل بقية الموضوع من الـ"نت".

ليس ما يدهش على الشبكة العنكبوتية عن السر، فليس هناك جديد، لكن حكايات كثيرة، لا تحصى، عن الأسرار بمختلف فصائلها.

كتاب "روندا بايرن"، في الموضوع بدا مختلفا، العنوان على الغلاف "السر"، والسر الذي اكتشفته "روندا" هو إن الإنسان يملك حقيقة، لا خيالا، مفتاح سعادته ونجاحه، فالعقل عنده مهيأ لتحقيق كل ما يحبه الإنسان لنفسه، لو فقط أحسن الإنسان توجيه عقله.

ـ إزاي يعني؟!

كدا: وراؤك ميعاد مهم، غدا، في الساعة العاشرة صباحا. إذن لا تقل لنفسك: سأضبط المنبه.. أخشى أن أتأخر.

ولكن قل لنفسك: سأضبط المنبه لأذهب مبكرا.

ما الفرق بين الجملتين؟! تقول لك " الست الهانم" إن العقل يتعامل مع اللفظ، فهو لا يهمه مسألة ضبط المنبه، ولكن يهمه كلمتي "التبكير" و"التأخير". لو لفظت بكلمة "التأخير" ستتأخر. بينما لو تلفظت بكلمة "التبكير" ستبكر!

في الحقيقة "روندا" وضعت يدي على اكتشاف مهم، يوضح لماذا يتخبط الإنسان في دنياه، يبحث عن شيء هو طول الوقت موجود تحت قدميه! لأن الشيء، الذي يجب أن يهديه إلي الصواب، نقصد عقله، اتضح من كلام الهانم أنه أحمق.

والكتابة سر، لأنها تتعامل مع الكلمة، والكلمة سر الأسرار، ما عرف أحد من البشر حتى الآن، رغم اختلافهم على طبيعتها منذ مئات السنين، إن كانت الكلمة من روح الله الأزلية، أم أنها مخلوقة، لكن المؤكد أن للكلمة سطوتها، فبالكلمة تسير أمور الإنسان، مستعظمها ومستدقها.

والأديب هو هذا الواحد من البشر، الذي وهبه الله ملكة التعامل مع الكلمة، أعطاه بعضا من سرها، وبقدر ما يسع صدره من هذا السر، بقدر ما تصير كتابته ألمعية، ومبهرة، لذلك لا يستوون، فليس كل أديب مبدعا، في حين أن كل مبدع أديب.

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة