U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

الأقصر / القاهرة / الأقصر.. بالموتوسيكل.


 

ربما كان سفري، بـ"الموتوسيكل"، من "الأقصر" إلي "القاهرة"، بالنسبة لأبي جنونا، بل الحقيقة أنه كان جنونا ليس بالنسبة لأبي فقط، وإنما لكل الناس، فما من أحد، علم برغبتي هذه، إلا وقال لي: هو انت مجنون؟!

كنت بدوري اسألهم: هو اللي يسافر "القاهرة" بـ"الموتوسيكل" مجنون؟!

فكانوا يضربون الأكف، ويزعقون: بـ"الموتوسيكل"؟ بـ"الموتوسيكل"؟! بـ"الموتوسيكل؟!!

لكن واحدا منهم قدم مبررا معقولا لاندهاشه: الأيام دي أيام ثورة وانفلات أمني.. ممكن يطلع عليك حد وياخد منك فلوسك وموتوسيكلك.

قلت له: إن شاء الله خير.

أنا أعرف أنه لن تكون معي أموال بالقدر الذي توحي به لفظة "أموال". لكن الموتوسيكل! فقلت في نفسي: إن شاء الله خير.

 

موتوسيكلي قوي رغم أنه صيني، كنت قد جربت مقدرته علي السفر، سافرت به إلي "طهطا" من "الأقصر" ـ وهي مسافة تقترب من الثلاثمائة كيلو مترـ ثلاث مرات، وسافرت به من "الأقصر" إلى "أسوان" مرة واحدة، وهي مسافة تزيد عن المائتين كيلو متر بقليل، وسافرت به إلي "قنا"، التي تبعد عن "الأقصر" مسافة ستين كيلو متر بالضبط، مرة واحدة.

إنه موتوسيكل قوي حقا، فلماذا لا أسافر به إلي "القاهرة"؟!

زعق أبي في وجهي وهو يشوح بذراعيه من فرط ذهوله: "سوهاج" غير "مصر"! دي "مصر"!.. ماااااصر.

المسافة بين "الأقصر" و"القاهرة" تقترب من السبعمائة كيلو متر. همست: فعلا.. دي "مصر".

وقلت مرة ثالثة: إن شاء الله خير.

 

مارست مع "الموتوسيكل" طقوس ما قبل السفر، أولا الذهاب به في دورة صيانة، والإطمئنان عند أحد الميكانيكية علي حالة موتوره، والتأكد من تثبيته في الشاسيه، ثم ضبط ضغط الهواء في عجلاته، ثم تغيير الزيت، وملئ "التنك" بالبنزين، ثم أوقفه أمام البيت وأبدأ في إعطائه دشا متكاملا.

وأنا أعطيه الدش، أشعر وكأني أنظف فرسا عربيا أصيلا، والمح في كشافه نظرة صبورة، وأحرص على أن أنظف أدق تفاصيله، وأخاله يهز جادونه، وكشافه، وعجلته الأمامية، فرحا ونشاطا، تماما مثلما ينفض فرس أصيل رأسه، وصدره، وينقل ساقيه الأماميتين، ولا أتركه إلا وهو يبرق مثل جوهرة حرة معلقة بجيد غادة لامثيل لها في الألق والحسن.

 

صليت لله ركعتين، طلبت منه فيهما أن يحفظني علي دابتي، ويحفظ دابتي من تحتي، ويحفظ أسرتي من ورائي، ثم ودعت الزوجة والعيال، وودعت الوالد والوالدة، وركبت "الموتوسيكل"، وضغطت علي "المارش"، فهدر "الموتور"، وهمست: شد حيلك يا جميل.. مشوارك طوووويل.

فنعر، وانطلق.

 

كانت الساعة الثانية بعد منتصف ليل 20 سبتمبر2011، الجو بديع مائل للبرودة، وقطع "الموتوسيكل" شوارع "الأقصر" بتؤدة كأنه يودعها، ثم استلم الطريق الزراعي السريع، "أسوان" / "القاهرة"، وفتح السرعة.

ليس أمتع من سفر الليل إذا كنت تقود دابتك، وعلى عكس ما كنت اعتقد، كل شيء في سفر الليل وديع، كل العالم صاحب لك، الطريق نفسه في الليل حنون، والسيارات المسافرة تضرب لك الـ"كلاكسات" التي تشخط: انتبه لنفسك.. إحذر النوم.

وتضرب عينيك بالنور العالي، تصرخ: فوق وصحصح.

الطريق السريع بعد منتصف الليل عموما هادئ، وأنا سعيد، سعيد جدا، فأنا عندما أسافر بـ"الموتوسيكل" أحقق حلما عاش معي يغازلني، ويؤلمني، لأكثر من ثلاثين سنة، أي منذ بداية فترة مراهقتي، لما كنت أقرأ قصص كابتن "زورو"، هذا الفارس المرتدي بدلة سوداء محزقة، وحذاء أسود جلدي طويل، وقد غطى عينيه بقطعة من جلد تشبه النظارة، وعقد حول رقبته وشاحا أسود طويلا، يطير خلف ظهره، أحببت كابتن "زورو"، وحسدته على بذلته، وفرسه، وظللت أحلم بفرس، وبذلة جلدية سوداء.

ومضت الأيام، وجرت السنون، والحلم في تلافيف العقل الباطن في حالة بيات شتوي، وفجأة ها أنا على "موتوسيكل" يركض مثل فرس، أمد يدي للأمام أقبض علي لجامه، مرتديا قميصا وبنطلونا أسودين، وعلى عيني نظارة غامقة، وضع يشبه، قليلا، وضع كابتن "زورو"، وإذا كان الكابتن عاش مغامرا، فها أنا عندما أسافر بـ"موتوسيكل" إلى "القاهرة"، من "الأقصر"، على طريق سريع، منفلت أمنيا بسبب ثورة 25 يناير، لست أقل مغامرة من كابتن "زورو".

 

على الرغم من أني أقود ماكينة تجري على عجلتين فقط، وتجري بسرعة تسعين كيلو في الساعة، وتحتاج إلى التركيز الشديد في القيادة، إلا أن صوت الموتور الرتيب، وهدوء الطريق، جعلاني أسرح، كان صوت "مأمون الحجاجي" هو الذي انداح لبداية منطقة السرحان، كان محتدا، وغاضبا: شهادتك في مجلة "الثقافة الجديدة" كانت ظالمة.. حرام عليك يا أخي.. هل كل الأدباء في نادي أدب "الأقصر" في بدايتك كانوا يذبحونك؟! نسيت "حسين خليفة"؟! نسيتني أنا يا أخي؟!

قلت: لم أكن يا "مأمون" في معرض التحدث عن من ذبحني ومن أحياني.. كنت أكتب عن الجو العام.. كان نادي الأدب سلخانة.. وكثيرون ذبحوا..

يعلوا صوت "مأمون": لا يا بيه.. كما ذكرت أسماء من وقفوا ضدك كان يجب أن تكتب عمن وقفوا معك.. أنت كنت تريد تعظيم نفسك..

 

تذكرت "حسين خليفة"، رحمه الله، كنا نسير، أنا وهو، أمام فندق "الإيجوتيل" بمواجهة معبد "آمون"، وقد خرجنا للتو من سلخانة الثلاثاء، المسماة "نادي الأدب"، وعيناي تكادا تقطران دما غضبا مما قالوه عن قصتي، لم يكن "أبوخليفة" يتكلم عن قصصي، وإنما يؤثر الصمت، لكنه، هذه المرة، قال لي: ما تكتبه جديد.. وأنا لا أعرف إن كان سيحسب لك.. أم عليك.

ولم يقل لي "حسين خليفة" شيئا آخر عما أكتب حتي مات.

وينساب صوت "مأمون الحجاجي" قادما من زمن بعيد، عندما قرأ لي لأول مرة: المستقبل في هذا النادي لاثنين.. في القصة لـ"أشرف الخمايسي".. وفي الشعر لـ"أشرف فراج".

ويتفجر صوت "مأمون" غاضبا: وعندما عدت بعد انقطاعك الطويل هل وجدت الذبح أيضا؟! فين يا عم "أشرف"؟! كلنا واقفين معاك.

 

كمين مروري عند قرية "خزام".

أوقفني العساكر.

ـ جاي من فين يا شيخ؟

دائما ما كانت لحيتي الخفيفة تجعل الناس تناديني "يا شيخ".

ـ من "الأقصر".

ـ من الأقصر!؟

قالها مندهشا و"الأقصر" لا تبعد عن "خزام" أكثر من خمسة عشر كيلو مترا.

طلب مني الرخص، أعطيتها له، فأخذ يقلبها.

ـ ورايح علي فين يا شيخ؟

ـ "القاهرة" إن شاء الله.

قلتها بهدوء شديد وكأن ضواحي "القاهرة" تلوح في الأفق، لكن الرجل أخذ ينظر لي، وينظر لزملائه، وينظرون له، وينظرون لي، وأخيرا نظروا كلهم لـ"الموتوسيكل"، ثم نطق العسكري: انتا بتتكلم جد يا شيخ؟! رايح "مصر" بـ"الموتوسيكل"!

أقسمت له أني مسافر إلي "القاهرة" بهذا "الموتوسيكل". فأخذ يدور حوله وهو يتأمله باستغراب، فـ"الموتوسيكل" عادي، ولايوحي منظره بأنه يمكن أن يصل إلى "قنا"، فضلا عن "القاهرة"، لكن أحدهم زعق: دا "هامر" يا عم.

والحقيقة أنني سعدت جدا بملحوظة هذا العسكري، فلقد جعلتني أشعر أن موتوسيكلي طالما هو ماركة "هامر"، ولو صيني، فهو متميز فعلا.

 

الطريق الهادئ، الحقول المظلمة، القرى الناعسة، ورتابة صوت "الموتور".

أول من وقف يسندني، بعد عودتي للكتابة، صديقي الشاعر "أسامه البنا"، رتب لي مع أدباء "أسوان" مشاركة في "ليالي المحروسة"، وهو برنامج من عدة أمسيات ثقافية تعده الهيئة العامة لقصور الثقافة أيام شهر رمضان الكريم، وقابلت هناك من أحببتهم وأحبوني، "عصام راسم"، و"أحمد أبو خنيجر"، رفقائي من الجنوب في جيل التسعينيات، جمال عدوي الشاعر النقي، علية طلحة، وقابلت لأول مرة القاص الجميل "يوسف فاخوري"، فأعطاني محبته، وأعطاني "آيس كريم".

ووقف معي "حسين القباحي"، فألح عليّ في الإنضمام إلي اتحاد الكتاب، وكان أستاذنا "جمال الغيطاني" قد أشار علي بالانضمام إلي هذا الاتحاد منذ اثنتي عشرة عاما ورفضت، فأنا ممن يرون أن الأديب يجب أن يكون حرا، ليأخذ راحته مع قلمه، فلا يخشي الخسائر من إعلان رأي غير مرض، أو يبحث عن قطعته من التورتة بكتابة ما هو مرض، لكن "القباحي" قدم لي إغراءً لم يكن من السهل رفضه، "المعاش بعد سن الستين". والحقيقة أن هذا الإغراء لم يكن ليغير رأيي لولا أنني تذكرت أبي، والدي لم ير يوما قط أن هناك فائدة يمكن أن ترتجي من الأدب، ربما تغير رأيه الحاد لو علم أن الأدب يمكن أن يقدم معاشا! وبالفعل سعد أبي جدا بكارنيه الاتحاد، الذي سيجعل من حقي، بعد سن الستين، صرف معاش شهري، حتى وإن كان في ضآلة معاش الإتحاد.

"آآه يا مأمون.. لم يكن هناك ذبح بعد عودتي مثل الذبح الأول.. فالخمايسي الأول ليس هو الخمايسي الثاني .. لقد قدم الكثيرون ترحيبا بعودتي .. وكان الحب مقدما منهم .. لكن الوضع اختلف بعد أن عارضت مواقفا رأيتها مهينة للحركة الأدبية في الأقصر.. وندم بعضهم على ما قدم .. بل صاروا يتمنون لو أنهم كانوا حجرعثرة.. إنه ذبح بشكل مختلف.. آآآه يا مأمون".

 

بين "قنا" و"دشنا" صارت الساعة الرابعة، قبل الفجر بدقائق، لم يعد الجو بديعا، وإنما صار باردا، بل زمهريرا، هذا الزمهرير يخبط في جسدي بسرعة تسعين كيلو متر في الساعة، بدأت أرتعش، بل أنتفض، كل جسدي يرتج، وكنت في مسافة من الطريق مدلهمة الظلمة، والطريق يتجه بشكل رأسي إلى جبل قريب شاهق الارتفاع، تنعكس عليه أضواء "دشنا" البعيدة، فيبدو مثل عاصفة تقترب في سكون مهيب، لم تكن القيادة تمنحني فرصة لتأمل هذا المشهد، ولم يكن الوقوف في هذا الظلام، في هذه المسافة المهجورة، يعبر عن شيء من الحكمة، لكن متى كانت المغامرة ترتبط بالحكمة؟ ثم إني، كرجل يكتب القصة والرواية، محتاج جدا لتأمل مشهد الجبل ليلا.

أعملت لمبات الانتظار وتوقفت.

يالرهبة السكون في حضن جبل شاهق، يطل عليك في أحلك أوقات الظلمة، وأشجار النخيل تتناثر في سفحه كمومياوات منتصبة، كان جسدي يرتعد، الصقيع يرجُّه، والآن تنفضه هذه الرهبة، وتبدَّى الخوف سريعا، فركبت "الموتوسيكل" وانطلقت اخترق الظلام بكشاف ساطع الضوء.

 

بعد قناطر "نجع حمادي" بدأ ضوء يحبو في أركان السماء، جسدي يواصل ارتعاده، وكنت أتشبث بمقود "الموتوسيكل" خشية أن يهتز من فرط ارتعاشي، النظارة رغم كبرها أثبتت فشلها، لسع الهواء البارد يخترق زواياها إلى عينيّ، فتنهمر منهما دموع لا تتوقف، ومن أنفي يتدفق ماء، وتمنيت لحظة دفء، ولم يعد همي الوصول إلى "القاهرة"، وإنما الوصول للحظة دفء.

 

بعد "دار السلام" سطعت الشمس، وصحت الدنيا، بينما الزمهرير يمزق جسدي، وهناك، على الجانب الأيمن من الطريق، لاحت عربة كارو عليها شوَّاية "بطاطا"، يتدفق الدخان من قمتها، ليس لي في "البطاطا"، لكني أطلب دفئا، والبطاطا مشتعلة بالحرارة، أوقفت "الموتوسيكل"، واشتريت قطعتين، أخذت التهمهما مثل حيوان مفترس جائع، وبدأ الزمهرير ينجزر، كانت أحلي "بطاطا"، وصار لي فيها، وصار لي دفء.

 

كان يوم "سبت"، أول يوم من أيام العام الدراسي.

في "صدفا" ملأ التلاميذ الطريق، تلاميذ من مختلف الأعمار، زهور متحركة، يمشون بهمة ونشاط، يضحكون ويتصايحون، عام دراسي بطعم "الثورة"، أول عام دراسي، منذ عقود، بطعم الحرية.

 

وفيما بين الظهر والعصر توقفت عند مطعم صغير بعد "المنيا"، أو ربما بعد إحدي مدن "المنيا" القريبة من حدود محافظة "بني سويف"، لقد أمضيت أكثر من اثنتي عشرة ساعة سفر.

ركنت "الموتوسيكل" في متسع أمام مطعم صغير، وكان الشاب الذي يعد الأطعمة ينظر إليّ، فهمت أنه يستغربني، جلست إلى منضدة صغيرة في المتسع، وطلبت طعاما خفيفا، سندويتشات "كبدة" و"سجق"، وقدم لي الشاب ما طلبته، وسألني: الشيخ من فين؟

قلت: من "الأقصر".

فنظر إلي "الموتوسيكل"، وعيناه تسألان السؤال الذي أعرفه، فقلت: نعم.. أنا قادم من "الأقصر" بـ"الموتوسيكل".

تقدم نحو "الموتوسيكل" منبهرا، ونظر إلى لوحاته المعدنية، وهمس: والله انت مغامر يا شيخ!

نبرة صوته تؤكد إنه يريد أن يقول "والله انت مجنون يا شيخ" لكنه استحي، وسألته إن كانت "بني سويف" قريبة، فزاد اندهاشه، وقال: انت ذاهب إلى "بني سويف"؟!

وبدا لي أنه انسطل تماما لما قلت له: لا.. أنا ذاهب إلى "القاهرة".

وأخذ يقول: والله انت مغامر يا شيخ!

 

كانت عيناي قد وصلتا إلى حالة يرثى لها، والغروب بدأ يرسم بفرشاته العالم من حولي، حقول صفراء، وبنايات تتجه للنعاس، وملل ضربني في مقتل، المشوار طال جدا، ستة عشرة ساعة على "الموتوسيكل"، وليس أقل من ثلاث ساعات أخر حتى أصل إلي "القاهرة"، لم أعد أعرف أين أنا، ما أعرفه هو أنني مررت بمدينة "بني سويف" المحافظة، خلاف ذلك لم أعرف شيئا، والطريق الزراعي أسوأ طريق في "مصر"، أسوأ طريق في العالم، مطب صناعي كل اثنين كيلومتر، ما أن يأخذ "الموتوسيكل" سرعته حتى يقابله "المطب"، فتنزل سرعته إلى الصفر، الماكينة تتعب، والإنسان يتعب، والوقت يضيع، كان مخططي أن أصل إلى "القاهرة" خلال خمسة عشرة ساعة، وها قد مضت ستة عشرة ساعة وبالكاد خرجت من مدينة "بني سويف".

 

مفترق طرق واسع، ولا يافطات فيه تدلني على اتجاه "القاهرة"، تلفت حولي أبحث عمن يدلني، ناديت علي رجل في خمسينيات عمره، يرتدي جلبابا أنيقا، وبسمته تملأ وجهه، فتقدم نحوي مسرعا وقد شعر أنني أريد مساعدة.

ـ السلام عليكم يا حاج.

ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. أي خدمة يا شيخ؟

ـ أي طريق من هذه الطرق يؤدي إلى "القاهرة"؟

ـ "القاهرة"! انت رايح "القاهرة" بـ"الموتوسيكل"؟!

ـ إن شاء الله.

ـ وجاي من فين على كده؟!

ـ من "الأقصر".

وإذا بالرجل يصرخ بأعلى صوته مناديا على آخر يمضي على رصيف في المفترق: يا "محمد".. تعال شوف المرار القاسي!

وبينما الحاج "محمد" يتقدم نحونا، كان الرجل يقول لي، وقد تحولت تقاطيع وجهه من الابتسام إلى الإستغراب الممزوج بالقلق، فأحسست أنه سيبكي: بـ"الموتوسيكل"!؟ بـ"الموتوسيكل"!

وزعق الحاج محمد: خير.. في إيه؟!

ـ الشيخ جاي من "الأقصر" بـ"الموتوسيكل" دا.. ورايح "مصر"!

فانقلب وجه الحاج "محمد" بسرعة، وبدا أنه قد صُدم، ثم فجأة استدار، ومضي وهو يضرب كفا بكف، ويزعق: والله يا شيخ انتو عالم مجانين.. بـ"الموتوسيكل"!؟ من "الأقصر"!؟

 

أعلم أن الطريق الزراعي طريق سيئ، إلا أنني فضلت السفر عبره، ولم أحب السفر عبر الطريق الصحراوي، لا الشرقي ولا الغربي، علي الرغم من أنهما طريقان غاية في التمهيد، فلقد تخوفت من فكرة أن يحدث لـ"الموتوسيكل" عطل ما، لو حدث لن يقف لي أحد على الصحراوي لنجدتي، ولا على الزراعي، خوفا من ألاعيب قطاع الطرق في زمن الانفلات الأمني، لكن لو طرأ عليه طارئ، وأنا على الزراعي، يمكنني أن أدفعه بيدي لأقرب ميكانيكي، الطريق الزراعي عامر بالبلاد والناس، لكن بعد أن سألت أخينا إياه عند المفترق عن طريق "القاهرة" أشار إلى اتجاه ما إن توغلت فيه لمسافة تقترب من الخمسة والثلاثين كيلومترا، حتى وجدت نفسي في طريق صحراوي، ووجدت لوحات إرشادية مكتوب عليها المسافة المتبقية للوصول إلى "العين السخنة"! ولوحات تشير إلى "القصير"! هذا مع لوحات تشير إلي أن "القاهرة" مازالت تبعد لأكثر من مائة وخمسين كيلومترا، وهنا ضرب الخوف قلبي.

 

بدأ ضوء المغارب يخبو، والظلام بدأ السيطرة، سيقدم الليل، ما الذي أتى بي إلى الصحراوي المقطوع؟ 

هاجمتني الوساوس، هل هناك بنزين كفاية في "التنك"؟

ما هذا الصوت الصادر من "الموتور"؟

يخيل لي أن "الموتوسيكل" قد صار ثقيلا، مصيبة لو كانت إحدى عجلاته قد ثقبت!

ليست هناك أية أضواء على الصحراوي، إلا الأضواء المبهرة العالية لكشافات السيارات القادمة في الاتجاه المعاكس، فأشعر ب وكأني أسبح في ظلام، لم أكن أرى حدود الطريق، كنت انطلق خلف الأضواء الحمراء للعربات التي تسبقني، لم أكن أرى الطريق، وإنما بحر ظلمات، هذه المسافة من الرحلة مرعبة، وطاقتي أوشكت تماما على النفاد، كنت قد قضيت أكثر من ثمانية عشرة ساعة متواصلة على "الموتوسيكل"، ومازالت "القاهرة" تبعد أكثر من عشرين كيلو مترا.

وجد جديد مبهر، انبثق الأمل، وانتعشت روحي، هاهي السماء تضيئ بنور عمران "القاهرة"، وهاهي قبة جوهرة متلألئة تبدو في الأفق، إنها "القاهرة"، "القاهرة"، "القااااااهرة".

 

دخلت "القاهرة" من ضاحية "حلوان"، وكانت ميكروفونات المساجد تزعق بأذان العشاء، واستلمت طريق "الكورنيش"، حتى وصلت إلي معالم "القاهرة" التي أعرفها، المعالم التي عايشتها أيام الدراسة، وأيام الهجرة الأولى إليها في تسعينيات القرن الماضي من أجل الأدب، هاهو كورنيش "الملك الصالح"، ثم بداية شارع "القصر العيني"، ثم شارع "القصر العيني"، وميدان "التحرير"، "المتحف المصري"، ميدان "عبد المنعم رياض"، شارع "رمسيس"، "الإسعاف"، "باب الحديد"، ثم بداية شارع "كلوت بك"، شارع اللوكاندات الرخيصة، كنت قد وصلت إلي آخر حدود التحمل، وكل منايا عشاء على إحدى عربات الفول المنتشرة في الشارع، ثم بيات في لوكاندة، أية لوكاندة.

لن يكون العشاء هنيئا إلا بعد حجز غرفة أضع فيها حقيبتي، ثم آخذ دشا، وأنزل للعشاء.

لم أكن أتخيل حجم الكارثة التي كانت تنتظرني، نعم كارثة مهولة، وكيف لا تكون مهولة، وأنا في أمس الحاجة للنوم، بينما كل اللوكاندات ترفض استقبالي لا لشيء سوى أنهم ليس باستطاعتهم تحمل مسئولية الحفاظ على "الموتوسيكل"!

 

صدمة أربكت برنامجي تماما، وكانت قاسية، لأنها فاجأتني وأنا في أشد حالات التعب، هناك حلول، لكنها محفوفة بما يجعلها صعبة التنفيذ، مثلا يمكنني الذهاب إلى أحد من أقاربي، لكنهم يسكنون في الضواحي البعيدة، وحتى لو كانوا يسكنون في وسط البلد، ما كنت أقدر أن أدخل عليهم بمنظري المهلهل هذا، ملابسي شحبت، وعيناي تورمتا، وبالتأكيد اعتلاني كل تراب "مصر"، ولنفس الأسباب لم يكن ممكنا الذهاب للمبيت عند أحد أصدقائي.

لم يكن هناك مفر من أن أحيا، ابتداء من هذه اللحظة، حياة الصعلكة، فركنت "الموتوسيكل" بجوار سور مسجد "الفتح"، في ميدان "رمسيس"، ثم توجهت إلى دورة المياه فيه.

هل أستحم وأغير هدومي؟ قلت لنفسي: لا. لماذا تغير هدومك وأنت داخل على ليل طويل لا تعرف أين، ولا كيف، ستقضيه؟

أكتفيت بغسل وجهي ورأسي، ثم خرجت، بعدها قلت: لا تحمل الهم.. ولا تحرم نفسك من هذه المتعة الصغيرة.. أكل طبق فول على هذه العربات المزوقة الشهيرة في "القاهرة".. وربك ميسر.

وبالفعل، لم أحرم نفسي، لكني وأنا آكل كنت أفكر: أين سأنام بعد كل هذا الإجهاد؟ بعد سفر تسعة عشرة ساعة، متواصلة، على موتوسيكل لا مفر من النوم، لكن أين؟

وإذا بالفكرة العبقرية تهبط على نافوخي هبوط سفينة فضاء على سطح كوكب، هبوط هادئ ومريح، وأيضا قلق.

إننا في زمن الثورة، ولابد من ثوار في "التحرير"، لقد رأيناهم في التليفزيون وهم يفترشون هذا الميدان وينامون فيه ليل نهار، ومؤكد أنني سأجد مكانا بينهم، ويمكن أن أعثر علي أحد من هؤلاء المثقفين، الذين يصدعون رؤوسنا على الفيس بضرورة مواصلة الثورة، سأعرفهم وسيعرفونني، أنا مثقف مثلهم، إذن ولله الحمد ضمنا البياتة.

 

أول مرة أجد نفسي أقود شيئا ما في شوارع "القاهرة" يستلزم مني أن أعرف الاتجاهات، ولو أنني في زمن غير زمن الثورة لحُرِّرت لي، في هذه الليلة، أكثر من عشرة مخالفات مرورية، إيشي كسر إشارة، وإيشي مرور في الاتجاه المعاكس.

ولا أعرف كيف وجدت نفسي فجأة في شارع "الجلاء"! ولم أعرف، أيضا، كيف وجدت نفسي على "الكورنيش"، وأنزل في نفق، وأطلع منه لأجد "التحرير" خلفي!

طيب. كيف أعود إلى "التحرير"؟

ووقعت في "حيص بيص"، فأخذت أنظر حولي بعيني متسول قح.

رأيت علي يميني، تماما، شرطة المسطحات المائية، وثمة شرطيان على البوابة يتجاذبان أطراف الحديث، وبينهما علي السور دورق مياه، فتذكرت أنني عطشان.

ـ السلام عليكم.

رد أحدهما وهو ينظر إلي باندهاش متخوف: وعليكم السلام.

أشرت إلى دورق المياه وقلت: ممكن أشرب؟

سارع كلاهما بمد يده للدورق كي يقدمه لي، بينما يقول أحدهما: طبعا يا شيخ.

وأخذت الدورق، وشربت نصفه، وقلت: الحمد لله.

وقلت: أرجع ازاي لـ"التحرير"؟

نظرا إلي باندهاش، لكن أحدهما قال: من أول ما قلت السلام عليكم عرفت انك غريب مش من "الكاهرة".

ابتسمت وقلت: ليه؟

قال: الناس في "الكاهرة" مابيرموش السلام.. هوا الواحد منهم ييجي يسألك.. وانت تدله.. ويمشي حتى من غير ما يقولك شكرا.. تحسهم مجانين.

قال الآخر: انت من فين يا شيخ؟

قلت: من "الأقصر".. وجاي بـ"الموتسيكل" من هناك.. واللوكندات لم تقبل تسكيني.. و...

وحكيت الحكاية، والاندهاش يسطع، ويتجلى، ويتمكن، من وجهي الشرطيين.

وقلت: ومافيش غير "التحرير" ممكن أبات فيه مع الثوار.

فألقى أحدهم بقنبلة مدوية: "التحرير" فاضي اليومين دولا ياشيخ.. ما فيهوش حد خالص.

كان "التحرير" أول، وآخر، أمل بالنسبة لي في بياتة أقضي بها الليل، وأريح بها جسدي الذي أشعر به ينهار، فكان طبيعيا أن يتبدى على وجهي الغم الشديد .

لكن الغم زال فجأة، لما سمعت أحدهما يقول لي: عندي فكرة يا شيخ.. بص كده.

وأشار إلى الأرائك الحجرية المتراصة على رصيف "الكورنيش".

كانت الأرائك مزدحمة، كل أريكة يجلس عليها زوج من العشاق الحبِّيبة، إلا خمس أرائك في حدود السور الخاص بشرطة المسطحات النهرية.

قال الشرطي المجند: "الكرويتات" دي تبعنا.. نام على أي واحدة تعجبك.

كان الفرج الإلهي سحريا، فبالنوم على هذه الأريكة سأضرب عدة عصافير بزلطة واحدة. أنام على أريكة بدلا من النوم على الأرض في ميدان "التحرير"، وسأنام في حراسة مجندي شرطة المسطحات المائية، فلا يسرق لص جنيهاتي القليلة، ولا يغتصب أحدهم موتوسيكلي، ثم .....

قلت بصوت خفيض: طيب لو تكرمتما عليّ.. أنا عندي مرض "السُّكر".. وأحتاج أحيانا أن أدخل دورة مياه ليلا.. ممكن يعني ...

فقال أحدهما: إحنا هانسلم الوردية الساعة حداشر.. ما تخافش.. هانوصي عليك زمايلنا اللي ها يستلمو الوردية مننا.

فحمدت الله كثيرا.

 

أجمل ما في "القاهرة" أنها مدينة يمكن أن تأخذ فيها راحتك تماما، بمعنى إنه يمكنك فيها عمل أعمال المجانين دون أن يلومك أحد، أو حتى يهتم بفعلك أحد، وإلا هل كان بإمكاني أن أفعل ما سأفعله الآن؟! أنام في الشارع ؟! وعلى الكورنيش؟!

ورغم كل هذه الحراسة إلا أنني كنت خائفا من أن يُسرق "الموتوسيكل" وأنا غارق في النوم، فركنته بطريقة تجعله يميل ناحيتي حتى يكاد يلاصق الأريكة، ثم وضعت شنطة هدومي الصغيرة تحت رأسي، وفردت ذراعي وأحطت به "تنك" البنزين.

كنت أبدو، لمن ينظر إليّ، أنني أحتضن "الموتوسيكل"، أنا نفسي شعرت بهذا، فصعبت عليّ نفسي.

"كل من يجلس على أريكة يحضن بنتا وأنا أحضن موتسيكل!".

اتصلت عبر الجوال بزوجتي لأطمئنها، أخبرتها أنني نزلت في فندق فخم، وأن غرفتي تطل على "النيل" مباشرة، فصرخت تلومني على التبذير، فقلت لها: خلِّينا يا ستي ندوق حلاوة الفنادق اللي علي "النيل".

وأخبرتها أنني سأغلق الهاتف لأنام نوما عميقا، وقالت لي: فندق على "النيل" مرة واحدة! الله يرحم ...

فأغلقت الخط، وأغلقت عينيّ، ورحت في سابع نومة.

 

ورأيت فيما يرى النائم، أنني أتجه إلى مبنى اتحاد الكتاب في "الزمالك"، وأنني أبرز بطاقة العضوية، فيرحب بي ضابط الأمن، ويستسمحني في الجلوس على كرسي "فوتيه" في الاستقبال لدقيقتين، ثم يجري اتصالا، ثم (قال إيه) أجد بنتا رشيقة، جميلة، تأخذ مني شنطتي، وتتقدمني إلى غرفة في "بنسيون" أنيق، خصصه الاتحاد لاستقبال أعضائه الذين يزورون "القاهرة" لسبب ما، في مقابل مادي بسيط...

واستيقظ "السُّكري" فأيقظني من الحلم الجميل، ها أنا أريد الذهاب الي الـ"دبليوسي"، وبشكل مُلِح.

كان الجندي الواقف على بوابة شرطة المسطحات المائية غير الجندي الذي أعرفه، هذا جندي الوردية الثالثة، القيت عليه السلام ، فرد علي بطريقة فاترة، قلت له: أنا.. هو المفروض إن في عسكري قبل منك.. ما قالكش حاجه؟

ـ ما حدش قاللي حاجه.

ـ طيب.. أنا عندي سكر ومحتاج أخش الحمام دلوقتي حالا.

ـ ماقدرش.. ممنوع.. ممكن في أوقات الصلاه بس.

من الممكن أن أنام على رصيف في شارع من شوارع "القاهرة"، لكن أن أتبول عليه؟!

نظرت لهذا الجندي وأنا أكاد أبكي، وهمست: والعمل؟

فأشار بيده إلى الناحية الأخرى من الشارع وقال: هناك جراش بتاع عربيات فيه دورة ميه.. فك زنقتك فيها.

وفككت زنقتي.

وعدت للنوم مرة أخرى، بعد أن حضنت موتوسيكلي، وإذا بي أرى فيما يرى النائم، "محمد سلماوي"، رئيس اتحاد كتاب "مصر"، يقف خلف منصة في قاعة فخمة امتلأت بالمثقفين والأدباء، ويقول: ليس أفضل في الجنس البشري من الأدباء والمثقفين، وخاصة أدباء ومثقفي "مصر"، بلد الحضارة، سأعمل بكل ما أملك من مقدرة وجهد علي تحقيق ما يليق بهم، ويحفظ لهم كرامتهم، لا يجب أن يكون أديب ما، أو مثقف ما، مشغولا بهم لقمة عيشه، يجب أن نعينه على التفرغ تماما للإبداع، والتفوق، طالما هو يستحق ذلك، الأديب شخصية عامة، ويجب أن يعامل كشخصية عامة، لا يجب أن يبات على رصيف "الكورنيش" عندما يأتي إلى "القاهرة"، لا يجب أن يدخل دورات مياه حقيرة ليفك زنقته ....

وصحوت من نومي قبل الفجر، بقليل، على صوت جهوري يهتف بي: يا شيخ.. يا شيخ.

كانا شرطيين شابين، ينظران إلي هذه النظرات المتَّهِمة التي تكون عادة في عيون البوليس.

قال أحدهما، وهو يشير إلي الموتوسيكل: المكنة دي بتاعتك؟

اعتدلت، وقلت بصوت كسره النوم: أيوا بتاعتي.

قال الآخر: معاك ورق يثبت انها بتاعتك؟

قلت وأنا أخرج الحافظة: معي رخصة تسييرها.. ومعي رخصة القيادة.. وكمان بطاقتي الشخصية.

أخذا ينظران في البطاقات، ثم أعاداها إليّ.

قال الأول: باين عليك مش من هنا يا شيخ.

قلت: البطاقات بتقول إني من "الأقصر"!

قال الآخر: "طيب انتا عارف يا شيخ انتا نايم فين؟

قلت متعجبا: أنا نايم على "الكورنيش".

قال الأول: أيوه.. بس دا كورنيش "جاردن سيتي".

بان علي وجهي عدم الفهم.

استدرك: "جاردن سيتي" دا حي السفارات.

لم يكن أمامي إلا الصمت، فأنا لم أفهم، وقال الآخر: انت نايم ليه هنا ياشيخ؟

فحكيت لهم الحكاية من "طق طق" إلى "السلام عليكم".

فقال الأول: ما كنت قولتلنا كدا من الأول.. احنا هانساعدك يا شيخ لوجه الله.. هاندلك على نومة محترمة.. وكما أكل ببلاش.

قلت: ما فيش داعي.. الفجر قرب خلاص.. وفي الصبح هأقضي مصلحتي.. وارجع فورا على "الأقصر".

قال الثاني بإلحاح: لا يا شيخ.. ما تمشيش إلا لما تقضي مصالحك كلها.. وبراحتك خالص.

قال الأول: فيه شوية مشايخ معتصمين ورا جامع "عمر مكرم".. عايزين يرجعوا الشيخ "عمر عبد الرحمن" من "أمريكا".. هانوديك تبات عندهم.

قلت معترضا: مافيش داعي ...

أمسكني أحدهم من يدي، وقال بإلحاح أقوى: والله تيجي.. احنا عايزين نعمل معاك واجب.

 

الغريب ليس فقط أعمى ولو كان بصيرا، هو أيضا ضعيف ولو كان أميرا، ذهبت معهم وأنا لا أعرف كيف أطعتهم، وتركت موتوسيكلي؟! كنت أشعر أنه هدف لعملية نصب تجري الآن! وأن المقاومة بشكل اعتباطي قد تؤدي لما هو أخطر من فقد "الموتوسيكل".

لم تكن المسافة بعيدة، وفي الطريق تأكدت من أن عملية احتيال تستهدفني من هذين الشرطيين، أو من يدعيان أنهما شرطيين، فلقد سألني أحدهم: معاك فلوس كتير يا شيخ؟

قلت: معي مبلغ بسيط.. بالكاد هأقضي به مصالحي.

وعلي الرغم من ذلك بقيت سائرا بينهما!

لكن ظهر تجمع المعتصمين من أجل استعادة الشيخ "عمر عبد الرحمن"، كان المنظر مأساويا، مشايخ ينامون على أبسطة فرشت على الأرض، لا يمكنك أن تفرق بينهم وبين المتسولين، ولافتات تحيط بهم مكتوب فيها عبارات التنديد بحبس "عمر عبد الرحمن" في "أمريكا"، ولافتات مكتوب فيها عبارات تطالب باسترجاعه.

أفقت من اندهاشي على صوت أحد الشرطيين وهو يشرح موقفي لأحد المعتصمين، ويطلب منه أن يمكنني من المبيت بينهم، ولم يبد الرجل اعتراضا، فقط طلب أن يحتفظ ببطاقتي طالما أنا موجود بينهم، حفاظا على النظام، وللتأكد من شخصيتي. كانا يتكلمان، وقد قررت عدم التواجد بين هؤلاء ولو انطبقت السماء على الأرض.

تعامل الشرطيان معي بشكل حميمي، أو بديا كذلك، فقد ألحا عليّ، جدا، في أن أبقى بين هؤلاء المعتصمين، لكني رفضت بقوة، وقلت إن الأمر لا يستلزم، فأنا سأسافر اليوم فور قضاء المصلحة، فلم يجدا بدا من الانصياع لرغبتي في عدم الانضمام لهذا المكان ، وعادا معي إلى حيث كنت أنام على أريكتي الحجرية، وحمدت الله أن "الموتوسيكل" لم يسرق، وقبل أن يغادرانني قال لي أحدهم بصوت منكسر: ممكن يا شيخ تعطينا عشرين جنيها.

حمدت الله أن الخسارة لم تتجاوز هذا الحد.

 

صليت الفجر في زاوية شرطة المسطحات النهرية، وفي غرفة للمجندين بدلت ثيابي، ثم ركبت موتوسيكلي إلى شارع "كلوت بك"، وانتقيت إحدى عربات الفول وتناولت إفطاري، كان الوقت المتبقي حتى الساعة العاشرة صباحا ـ وهو الموعد المضروب بيني وبين الأستاذ "إلهامي بولس"، صاحب دار "الحضارة"، التي أصدرت مجموعتي القصصية الأخيرة ـ طويلا، فقررت قضاؤه في "التحرير".

ها هو "التحرير"، الميدان الذي صار أشهر ميادين الدنيا قاطبة كرمز للساحات التي يمكنها أن تتخلص من الطواغيت بدون إراقة دماء، فقط صيحات الغضب، فقط لافتات صغيرة يضعها الثوار على صدورهم تحمل رسائل ملتهبة إلى المستبد تطالبه بالرحيل، فقط أعلام "مصر" الضخمة تسبح مثل سفينة "نوح" على أمواج متلاطمة من البشر، فقط تجمعات "الفن"، حلقات "الشعر"، وحفلات السمر مع الأعواد التي تعزف نوتة الاستقلال من العبودية.

علي أي عمود، من هذه الأعمدة، علق المتظاهرون دمية لـ"مبارك" وهو مشنوق؟

 

فجأة ضج الميدان بالثورة، وأمتلأ بجموع البشر، ومزقت الصيحات صمت الخنوع "ارحل.. ارحل.. ارحل".

ولملمت الصيحات نفسها لتصير صوتا واحدا يهدر مثل هزيم الرعد "الشعب يريد إسقاط النظام".

لماذا كلما استرجعت هذه الجملة تدمع عيناي؟ "الشعب يريد اسقاط النظام".

وتلتهب الحناجر "ارحل يعني إمشي.. ياللي ما بتفهمشي".

الجموع تتلاطم، لا مكان لقدم، والوجوه اغتسلت من الجبن القديم، وهاهي تسطع ببهاء الكرامة، والمتحف المصري ينظر، من قريب، مبتهجا بالتاريخ الجديد الذي يسطر أمامه، ومئذنة مسجد "عمر مكرم" مثل سبابة مهولة تتوجه إلى السماء وتصرخ: الله مع الثوار.

"يامبارك يا جبان.. ياعميل الأمريكان". وفي الجموع رأيتها.

فتاة تتحلى بروعة الجمال الرباني، تلف حول رأسها طرحة مزركشة، زينت وجهها بالغضب الثوري، تهتف مع الهاتفين وهي ترفع ذراعها بمنتهى الحماس: يا مبارك يا طيار.. الطيارة في المطار.

وثمة فتى يقترب منها، في عينيه افتتان، وفي يده هاتف محمول، وعندما استطاع الاقتراب منها جدا، التقط لها صورة بكاميرا الهاتف، لكن البنت فجأة صرخت: انت قليل الأدب.

 ثم ضربت بيدها الهاتف ليسقط بين الأقدام.

بالتأكيد تفتت الهاتف تحت الأقدام، لكن صوت الطرقعات الذي مزق ضجيج الحماس لم يكن صوت تهشمه.

رصاص ينطلق من ناحية "عبد المنعم رياض"، يخترق الهواء إلى صدور الثوار في "التحرير"، وطارت بيضات عفاريت الدخان المسيل للدموع لتسقط في بحور البشر، وزجاجات النار تحلق ثم تهوي لتنفجر على الأرض، فجأة بدأ الثوار يجرون هنا وهناك بشكل غير منظم.

في لحظات الخطر الداهم تكون الكلمة في الإنسان للغريزة، جرت البنت في اتجاه "عبد المنعم رياض"! الثوار يجرون وهم يصرخون: الكلاب.. الخونة.،

وعلا هتاف جماعي يلملم الشتات الطارئ: موش هانمشي.. هوا يمشي.

البنت تجري، لكن جسدا سقط أمامها فجأة، تدحرج دورتين قبل أن يهمد ممددا على ظهره، تحت قدميها.

اختفت ضجة الثورة، واختفي الثوار، ولم أعد أر غير بنت واقفة، تضع كفيها على خديها، تحملق بذهول في وجه فتى ملقى تحت قدميها بينما الدماء المتوهجة تتدفق من ثقب في قاع جمجمته، كان هو الذي صورها منذ قليل بكاميرا تليفونه.

البنت تعود إلي مكان الهاتف المحطم، تنحني، تلتقط ما تبقى منه، وكل قطعة ترفعها من على الأرض تسقط مكانها دمعة، وصوت هامس جدا يأتي من عند النهر، صوت مليء بالعزم: الشعب يريد.. إسقاط النظام.

بينما يعلو صوت "محمد منير" رويدا رويدا: يا بنت يا ام المريلة كحلي.. يا شمس هاله وطاله م الكوله.. أنا نفسي اقولك في الغزل قوله.. ممنوع عليا وللا مسموحلي؟

 

النهر ينساب أسفل كوبري "قصر النيل"، ترسل أمواجه الصغيرة عطر الحياة، كان الشروق، وبنايات "القاهرة" تسبح في الضباب، وعلى الرصيف الأيمن للكوبري انتشرت قعدات الشاي والمشروبات، الصباح بارد، والبخار المتصاعد من الآنية التي يغلي فيها الماء المعد لعمل الشاي مغر.

ركنت "الموتوسيكل" أمام إحدى هذه القعدات.

 

"حسين أبو ردينة" غريب الهيئة، يميل للقصر، ويميل للبدانة، رأسه ضخم، وشعره أصفر، منسدل حتى كتفيه، يرتدي "الجينز"، وحذاء كوتشي، كان هو صاحب الفرش، أعطاني كوبا من الشاي، وصب لنفسه كوبا، وأتي بكرسي وجلس بجواري.

ـ الشيخ باين عليه موش من "الكاهرة".

ـ أنا من "الأقصر".. وجيت من هناك راكب "الموتوسيكل" دا.. و...

وحكيت الحكاية إياها، واندهش أخونا "أبو ردينة"، مثل كل من اندهشوا قبله، وقال لي، مثل ما قاله كل من سمعوا الحكاية قبله: والله انت مغامر يا شيخ.

وكان يقصد أن يقول مثل ما قصدوا: والله انت مجنون يا شيخ.

وحكينا في الثورة، وقال إنه فرح كثيرا بها، وقال إنه خائف على مصيرها، "الفلول" لا يهمدون، ولقد قطعنا رأسا واحدا للنظام، لكن ألف رأس باق يعبث، وينفث سمومه، وابتسم وقال: الثورة من حظ بنتي اللي  اتولدت من أيام.. نفسي أسميها "ثورة".. أو حتى "حرية".

وقهقه، وقال: أسميها "سلمية".

وقال: نفسي "الإسلام" يحكم البلد.

اندهشت، لم يكن منظر "حسين" يوحي بأنه يميل لحكم إسلامي، كان أقرب ما يكون إلى "الهيبز"!

قال: البلد أخلاقها باظت.. شايف البنات ازاي بقت تكشف بطنها! دولا سقَّطوا البنطلونات! طيب بيسقطوها ليه؟ّ!

وقال: لكن أنا خايف لو مسكوها الإسلاميين بلاد بره يفرضوا علينا حصار زي "غزة" كدا.

وقال: أنا مالي ياعم.. أنا هاعمل اللي يخلص ضميري.. أنا هادي صوتي للإسلاميين.. أنا مسلم وعايز الإسلام يحكم البلد.. البنات باظت يا عم.. دولا سقطوا البنطلونات!

 

على هذا الكوبري دارت ملحمة من ملاحم انتزاع الحرية، الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الأمن، ثم السيطرة الكاملة للثوار، دهست سيارات الأمن المركزي بعضا من الشباب الفائر، وأغرقت الكل بالمياه والدخان، لكن الله أنزل نصره على العزل إلا من قلوبهم الفولاذية.

سلام يا "حسين أبو ردينة".

كان الرجل كريما جدا، وعنده شهامة، لم يقبل أن أدفع ثمن الشاي، وقال: ها نتقابل تاني إن شاء الله.. فين؟ ماعرفش.. بس ها نتقابل.

سلام يا "حسين" يا أبو "ردينة".

 

ذهبت إلي دار "الحضارة"، وقابلت صاحبها الجميل الأستاذ "إلهامي بولس"، وقلت له إنني قادم من "الأقصر" بـ"الموتوسيكل". و.... وحكيت الحكاية. وقال لي: والله إنت مغامر يا أستاذ "أشرف".  فقهقهت حتى كدت أنقلب على قفاي.

أخذت نسخ مجموعتي القصصية "الفرس ليس حرا" من دار، وضعتها في "كرتونة"، وربطتها بشبكة "الموتوسيكل"، خلفي، وسألت الأستاذ "إلهامي": كيف الطريق إلى الزراعي السريع؟

 

عدت إلى "الأقصر".

بحسبة بسيطة أجدني قطعت مسافة ألف واربعمائة كيلومترا في ما يقرب من أربعين ساعة، لم يتخللها إلا إحدى عشرة ساعة، هي التي قضيتها في "القاهرة". وفكرت في إن كنت قد حققت رقما قياسيا في الركوب المتواصل على "موتوسيكل"؟

لم يكن مهما بالنسبة لي الدخول في موسوعة "جينيس"، وإنما تحقيق حلم عاش معي طفولتي، ومراهقتي، وشبابي، أن أركب فرسا وأطير به في البراح مثل كابتن "زورو"، وبشكل ما تحقق هذا الحلم، وهذا هو المهم.

أحمدك يا رب.

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة