U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

جنازة ثانية لرجل وحيد تعبر باب الليل نحو الكتاب الأمريكاني


 
منذ عدَّة أسابيع أنهيت قراءة هذا الكتاب الشَّائق، الذي يمكن اعتباره من نوعيَّة كتب أدب الرَّحلات؛ خفيف العبارة، سهل الجملة، رشيق الكلمة، يسلك أسلوبه بسلاسة دربًا وسطًا بين دلال الأدب وصراحة الصَّحافة؛ أكلتني يدي للكتابة عنه بأسرع ما يكون، غير أن واضع هذا الكتاب هو نفسه رئيس تحرير الموقع الصَّحافي المزمع نشر المقالة بواسطته! ما يعني أنَّ أي كلمة ثناء قد يحملها المَكَّارون على المحمل الخطأ؛ وأنا أعاني من فوبيا "الأفهام الخاطئة"، لذلك قررَّت الاكتفاء بمهاتفة كاتب هذا المؤلَّف، الصَّحافي "محمَّد هشام عبية"، وإبداء إعجابي وامتناني له، وشكره على هذه المتعة التي قدَّمها لنا بين دفَّتي مطبوعته المعنونة بـ"الكتاب الأمريكاني"، وقد سطر فيها ملحوظاته عن الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة من الدَّاخل، وكان قد التقطها خلال رحلة إليها ضمن وفد من الصَّحافيِّين العرب، استمرت لواحد وعشرين يومًا.

بعد انتهاء المكالمة غيَّرت رأيي مقرِّرًا الكتابة عن هذا "الكتاب الأمريكاني"! فمن حقّ الجميل الإشارة إلى جماله، وشكر جماله، وتمجيد جماله، وألَّا تجبرنا "الأفهام الخاطئة" إلى غمط الجميل حقوقه الواجبة علينا؛ ستكون خطَّتي هي الكتابة عنه بشكل غير مباشر، يمكن مثلًا الاستعانة بمجتزءات منه في بعض مقالاتي، أيُّ شيء أعبِّر به عن امتناني للكتاب دون السُّقوط في فخِّ "الأفهام الخاطئة".

إنَّها الفوبيا ما زالت لصيقة بعقلي!

اللعنة على الحيرة!

سأكتب عن هذا الكتاب بوضوح، وبـ"المفتشر"، وليذهب أصحاب "الأفهام الخاطئة" إلى الجحيم، وكذلك الفوبيا إيَّاها!

ولم أكتب!

بل كتبت في موضوعات أخرى، وعن كتب أخرى، بينما بقي "الكتاب الأمريكاني"، وموقفي منه، يلحَّان عليّ بضرورة اتِّخاذ موقف لصالح الجمال، لا لصالح "الفوبيا"!

ليكن، لكن موضوعًا هامًّا داهمنا في اليوم الثامن من شهر مارس أولى بالكتابة فيه، خاص بـ"المرأة"؛  إنَّه يومها العالمي، واليوم الواحد والعشرون، من نفس الشَّهر، سيكون يوم أمِّها!

والحقيقة أنَّ الأيَّام العالميَّة للمرأة" موضوع بالغ الاتساع، لا يمكن لأي كتابة الإحاطة به، كما أنَّه مثل الفراغ الفضائي، لا يتوقَّف عن التَّمدُّد، مع ذلك يُلفت انتباهنا إلى شيئين واضحين: سذاجة المرأة، وسطحية الرجل. وأنَّ هذا العالم المتقدِّم يغيب ويحن إلى أيَّام مراهقته الأولى!

فالرَّجل لا يفتأ يُذكِّر المرأة بتاريخ سيطرته القديم، وباستمراريَّة هذه السَّيطرة درجة تحديده بنفسه أيَّام أعيادها! وكأنَّ المرأة تنتمي إلى طائفة من الأقليَّات يُظهر لها، بابتكاراته المناسباتيَّة العالميَّة هذه، عظيم "جنتلته" و"شياكته" الشُّعورية تجاهها! أو كأنَّها كائن ذو ظروف خاصَّة فيحضّ، عبر ابتكاراته المناسباتيَّة العالميَّة هذه، أهل الخير على الإحسان إلى هذا الكائن المسكين، والتَّفضُّل عليه بالموجود، "والجودة بالموجود".

أمَّا المرأة، التي لا تكفّ ليل نهار عن قذف أطروحات المساواة في وجه الرَّجل، خصوصًا الحنجوريات منهن، ممَّن أفسد دخان المقاهي الثَّقافية أحبالهن الصَّوتية فأغلظها من بعد رهافة، وخشَّنها من بعد نعومة، وذكَّرها من بعد أنوثة! فإنَّها أوَّل المسرعات إلى تلقُّف ما تنتجه عقول الرِّجال من ابتكارات مناسباتيَّة عالميَّة بلهاء تقل من شأنهن!

فالمرأة المصريَّة المطالبة بالمساواة، مثلًا، سعيدة جدًّا بتخصيص عربات خاصَّة لها في "مترو" القاهرة، بل تسارع الواحدة منهن إلى ضرب رأس أي رجل يخطئ، أو حتَّى يتعمَّد الخطأ، بالدُّخول إلى عرباتهن بقباقيبهن، واختياري لمصطلح "القبقاب"، وليس "البوت" أو "الحذاء" أو "الباليرنا"، فلأنَّهن بارتضائهن العزل بينهن والمجتمع الرِّجالي فكأنَّهن، بالضَّبط، حريم الحرملك العثماني، أو المملوكي، الجالسات خلف المشربيَّات في البيوت المخصَّصة للنِّساء، أولئك لم يكنَّ يضعن في أرجلهن "أبواتا" ولا "أحذية" ولا "باليرنات"، وإنما الـ"قباقيب"؛ كما أنَّ المرأة المصريَّة سعيدة للغاية بتخصيص "طوابير" لها في أيّ مصلحة حكوميَّة أو خاصَّة! تكاد تطير فرحة بمكانها المنعزل عن الذُّكور في كلّ قاعة جامعيَّة.

ومع سعادتهن، وتمتُّعهن باللا مساواة، لا يتوقَّفن عن الصّراخ بطلب المساواة!

ربما هذا التَّناقض، وهذه "الهيافة" العقليَّة، يجعلان المرأة "دِيرة" رأس الرَّجل، وخفقان قلبه ووجيبه، كلَّما تمتَّعت المرأة بنصيب أكبر من "الهيافة" و"التَّناقض" صارت دلُّوعة الرَّجل، ومحطّ حبِّه وعشقه، في حين كلَّما ابتعدت عنهما لصالح "الرَّزانة" و"ثقافة الثِّقة" قلَّ نصيبها جدًا من قلب الرَّجل!

في "باب الليل" قدَّم الرِّوائي المصري، "وحيد الطَّويلة"، احتفاءًا هائلًا بهذه المرأة المتناقضة، "هايفة" العقل، المهمومة بالحبِّ غاية ووسيلة ووطنيَّة ووظيفة لأكل العيش، حتَّى أنَّ "أبو شندي"، المناضل الفلسطيني المنهزم فلسطينيًّا على أرض تونسيَّة! ضاع وهجه، كرجل مقاومة، في حضور وهج هؤلاء العاهرات.

ولتأكيد هذه الملحوظة لا مانع من إجراء تجربة لن يستنزف أداؤها، ممَّن قرأ هذه الرِّواية، كثير جهد، أو طويل وقت؛ هي كالآتي: اشحذ ذهنك، بحرفيَّة ومهارة ودقَّة، قم بنزع حكايات المرأة عن "باب الليل"؛ ماذا يبقى من الرِّواية؟

تبقى حكايات المقاومة. ستجد أنَّها حكايات باردة، تفتقد الطَّزاجة، بل ربما أكثرها مُفتعل لإضفاء عمق ما إلى موضوع الرِّواية الأساسي؛ إذن ستسقط "باب الليل" سقوطًا مزريًا.

أعد إجراء التَّجربة، اشحذ ذهنك بنفس الحرفيَّة والمهارة والدِّقة، قم بنزع حكايات المقاومة؛ ماذا يبقى من "باب الليل"؟

تبقى الرِّواية الحقيقيَّة.

"باب الليل" الأصليَّة، حيث المرأة موضوعها الأساسي؛ ستلاحظ أنَّ رهافة سرد "الطَّويلة" في صياغة الجملة تزداد تألقًا كلَّما ارتكزت المرأة في قلب هذه الجملة، حتَّى لكأنَّه يهتم بتفجير الشَّاعرية الكامنة داخل كلمات هذه الجملة تحديدًا، والحقيقة أنَّه حيثما تكون المرأة يكون الشِّعر، وحيثما كان الشِّعر كان المُغنِّي، و"وحيد الطَّويلة"، بعد أن قرأت له روايتين حتَّى الآن، لا يسعى إلى كبح جماح غنائيَّته لصالح الرِّوائي داخله، بل "يدندن" صياغة الجملة، يحرك أبطاله بخيوط مُقيِّدة، كأنَّه فنَّان الموالد البسيط، الذي أبهر البسطاء قديمًا كمحرِّك حداثي لخيالهم، ويُبهر مشاهدي هذا العصر عندما يطلع عليهم كقطعة حيَّة، عتيقة، تطل من الزَّمن الجميل.

وإن كان "الكتاب الأمريكاني" زاخرًا بالمشاهد بالغة الدَّلالة حول الدَّولة الأمريكيَّة العملاقة، فإنَّ لقطة واحدة، سريعة، أمكنها تلخيص كلّ هذا المجتمع الضَّخم ونقلِه إلى داخل حدود إدراكي بمنتهى الخفَّة والرَّشاقة، عندما كتب مؤلِّفه: ابتعت العدد الأسبوعي من "نيويورك تايمز"، الذي يصدر كل أحد، بستَّة دولارات كاملة، لكنَّه عدد دسم "ملظلظ" بدرجة لا يصدِّقها عقل، وسيحتاج المرء لأكثر من أسبوع للانتهاء من قراءته، إذ يضم الإصدار اليومي التَّقليدي من الجريدة في 20 صفحة، وملحقًا في 12 صفحة عن الشُّؤون الدُّولية، وملحقًا ثانيًا في 14 صفحة عن السَّفر وأماكن الفسح، وملحقًا ثالثًا في 22 صفحة عن آخر خطوط الموضة للرِّجال والسَّيدات، ثمَّ ملحقًا رابعًا في 26 صفحة عن الفنون والتَّرفيه، ثمَّ ملحقًا خامسًا في 60 صفحة كاملة يضم عروضًا للإصدارات الجديدة والمهمَّة من الكتب، ثمَّ ملحقًا سادسًا متخصِّصًا في الاقتصاد في 10 صفحات، وملحقًا سابعًا في 12 صفحة لمقالات الرَّأي، وأخيرًا يضم ملحقا ثامنًا في 10 صفحات للرِّياضة.

لقد أمكنتنا هذه اللقطة من تحديد اهتمامات هذا المجتمع بعدد صفحات كل ملحق من ملاحق هذه الصَّحيفة الأمريكيَّة العريقة؛ ستُّون صفحة كاملة للأدب والكتب! إنَّه أكبر ملحق! أمَّا قوَّتهم الاقتصاديَّة الضَّاربة، المحرِّكة للعالم كلّه، فلا تحظى إلَّا بملحق من عشر صفحات فقط!

لكن من قال إنَّ قوَّة أمريكا الضَّاربة هي الاقتصاد؟! إنَّ قوَّتها الحقيقيَّة داخل الملحق "أبو ستِّين صفحة"!

عمومًا، ليس كل ما قلّ عدد صفحاته أمره هيِّن، غير ذي خطر، فلقد قرأت شيئًا جميلًا، لافتًا، في عدد قليل من الصَّفحات، لم يتجاوز المائة، كتبته أديبة مصريَّة شابَّة، سطرته بهذه الرُّوح المتناقضة ذات "الهيافة" العقليَّة، الرُّوح الطُّفولية القادرة وحدها على ممارسة الفعل الإبداعي؛ هذا الشَّيء وضع النَّاشر على غلافه كلمة "متتالية" كتوصيف له!

ما المتتالية؟!

لي رأي قد لا يعجب كثيرين في موضوع "المتتالية" هذا، لن أخوض فيه الآن، لكن هذه الأديبة الشَّابة، "دعاء إبراهيم"، أبدعت فعلًا في "متتاليتها!" المسمَّاة بـ"جنازة ثانية لرجل وحيد"، إذ قدَّمت جديدًا في كلّ أنحاء عملها، بدءًا من تسمية العنوان، مرورًا بالإهداء، حتَّى متن روايتها الزَّاخر بالموت الحي، أو الحياة الميتة!

فـ"جنازة ثانية لرجل وحيد" رواية تجريبيَّة من العيار الثَّقيل، لا يمكن لبنت عاقلة مثقَّفة، أعتم دخان المقاهي الثَّقافية الرُّؤية أمام روحها السَّاردة، أن تكتبها بحداثة التَّناول السَّردي لـ"دعاء إبراهيم"، ولا بروحها الوثَّابة، المتنمِّرة، الرَّاكضة برشاقة نحو صيَّاد تظنُّه فريستها! تستمتع إلى المنتهى باللامساواة في حين لا تتوقَّف عن الصُّراخ بطلب المساواة!

وأظنُّ أنَّ "دعاء" قدَّمت دليلًا مضافًا على أنَّ المرأة، حين لا تتكلَّف أثناء الكتابة، حين لا تجعل الرَّجل نُصُب قضاياها العدائيَّة، حين تمارس "هيافتها" الفكريَّة بطبيعتها المتناقضة، تبدع جدًّا.

كما خرجت "باب الليل" دليل إدانة بالغ الوضوح للمثقَّف الذي يعيب على السَّلفيين الدِّينيين، في أي ملَّة، ولعهم بالمرأة؛ فبطل هذه الرِّواية، "أبو شندي"، هذا المناضل الفلسطيني المهزوم مجتمعيًّا، وجنسيًّا أيضًا، الذي يسخر من الجهاديِّين الدِّينيين لفرط شغفهم بالنِّساء، هو نفسه صريع الهوس الأنثوي،وربما بأشدّ ما يفعل الدِّينيون!

لكن: ما الذي يضير الرَّجل، من أي صنف أو ملَّة، عندما يُولع بالمرأة؟!

هل يمكن لأحدهم وصف نفسه بالرُّجولة لو لم يحي ممسوسًا بالهوس الأنثوي؟

 

        

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة