U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في كتاب "العقاد في القرن العشرين" لعادل الجندي

 



في مائة وأربعين صفحة من القطع المتوسط، مقسمة بثلاثة فصول ومقدمة، أخرج لنا الكاتب المصري "عادل الجندي" مؤلفه المعنون بـ"العقاد في القرن العشرين". وهو كتاب لم ينسبه كاتبه إلى فن محدد، وأوضح في مقدمته إنه يترك للقارئ حرية توصيفه، إن كان كتابا في هيئة رواية، أم رواية في هيئة كتاب، أو محاورة طويلة.

والحق أن "العقاد في القرن العشرين" أبعد ما يكون عن الرواية، وأقرب ما يكون من محاورة طويلة نضدت في كتاب. فإذا ظن البعض أنه رواية، إنما ذلك لسببين، أولهما: الجهل المطبق بما لحق فن الرواية من تطور أخرجها من طور التخييلات البدائية، والتركيبات اللغوية المفتعلة، إلى طور الحقيقة المتخيلة أو الخيال المتحقق، بلغة معاصرة، لا تنحاز لتزوير ولتجميل يعجب القراء بقدر انحيازها لمناسبة عالم الرواية ذاته. وثانيهما: أن مطلع الكتاب، في فصله الأول، وظف في التناول أسلوبا روائيا.

يخاطب الراوي قارئه بأسلوب المتكلم، فيحكي عن ليلة دفعته نفسه فيها إلى الخروج من البيت، لا لهدف سوى السير في سكون الطبيعة المسربل بالهدوء؛ وبينما يمشي على غير هدى، يحادث نفسه عن أمور حياته، وأهمها القراءة، ومكتبته العامرة، والجلسة الأسبوعية، مساء كل يوم جمعة، في غرفة مكتبته المنعزلة عن البيت فوق السطح. جلسة يشاركه فيها نفر من بعض أعز أصدقائه، منهم المهتم بالأدب وغير المهتم. في حديث النفس هذا استعرض الراوي وقائع أقرب جلسة، حيث تساءلوا فيما بينهم عن أمانيهم وطموحاتهم، فتفرقوا بين متمن متع الدنيا، من اموال وما شابه، ومتمن متع الروح، من مثل الحصول على مكتبة كبيرة مثل مكتبة الراوي؛ ثم جاء الدور على الراوي في البوح بامنيته، فتمنى أمنية أثارت العجب في نفوس أصدقائه، أن لو يحصل على مكتبة ناطقة، حية، يكلمها وتكلمه، فلما رأى اندهاش أصدقائه لهذا الأمر ـ مكتبة تتكلم وتبادل صاحبها الحوار ـ رفع عنهم دهشتهم بالإفصاح عن لب أمنيته المستغربة: إنه يتمنى لو كان يستطيع الالتقاء بالكاتب الكبير الأستاذ محمود عباس العقاد، فهو المكتبة الحية التي يمكنها الكلام والتحاور، غير أنها أمنية مستحيلة التحقق، فالرجل مات قبل عشرات السنين، وشبع موتا، فأنى له اللقيا به!

بـ"التخييل البدائي" يحقق الكاتب أمنية الراوي، والذي هو "عادل الجندي" نفسه، فبينا يمشي في جولته الليلية الطارئة يلتقي عرضا برجل هرم، يمشي وحيدا أيضا، تعتلج علامات الحيرة تجاعيد وجهه، فيتعاطف الراوي مع حال الشيخ الهرم، يقترب منه، ويسأله عن حاله، فيكتشف أن الشيخ ضل طريقه، ولا يعرف المكان الذي يمشي فيه،

ثم، رويدا رويدا، يشعر الراوي بألفة تجاه صوت الشيخ ومظهره، حتى يتبين له أن هذا الهرم هو نفسه الكاتب الكبير "عباس محمود العقاد" بشحمه ولحمه.

مترددا بين الوهم والحقيقة يستضيف الراوي "العقاد" في غرفة مكتبته، وينقشع التردد لصالح الحقيقة عندما يخبره "العقاد" بأنه جاء إلى هذا المكان برحلة عبر الوقت قطعها بآلة زمن اخترعها صاحب له، وأنه استقلها لرحلة عودة إلى أزمنة قديمة، بيد أن عطبا  أصاب الماكينة، جعلها تقذفه إلى زمان أحدث.

وقد أدرك "العقاد" حداثة الزمن بعدما أطلعه الراوي على تقنيات هاتفه المحمول، الذي لم يكن له وجود في زمان العقاد.

هكذا قدم "عادل الجندي" لموضوع كتابه بتخييل بدائي.

فما هو هذا الذي أصفه بـ"التخييل البدائي"؟

إنه اللجوء الساذج المفتعل لحيلة أدبية مفرطة القدم من أجل تدوير أحداث عمل ادبي يكتب في عصر إبداعي مفرط الحداثة. ما يؤدي بالضرورة إلى بنية متهالكة مهما تم نقشها بلغة جميلة، أو كسيت بأسلوب قشيب.

ثم بعد هذا المدخل التخييلي الساذج، الذي هو افتعالة لجأ إليها الكاتب بقصد إحداث سرد روائي يلطف من ثقل موضوع يتناول شخصية أدبية بثقل "العقاد"، وبشروع الكتاب في دخول منطقته الأصيلة، ككتاب لا كرواية، يأخذ المؤلف في الاتزان، ويستقيم معقولا. في محاورة حية بين "العقاد"، نيابة عن جيل الأدباء و"الجندي" نيابة عن جيل الأحفاد.

في الفصلين الأول والثاني محاورة طويلة، أشبه ما تكون بلقاء صحافي ثقافي، يقوم فيه "الجندي" بطرح الأسئلة، ومن ثم يجيب "العقاد"، أسئلة خاصة بواقع "العقاد": من هو؟ ما نشأته؟ كيف علم نفسه؟ آراؤه في بعض مجايليه ممن اشتهرت معاركه الأدبية فيما بينهم، آراؤه في فلاسفة وأدباء غربيين وشرقيين، آراؤه في السلف من أدباء وشعراء العرب، نظرته في الثقافة العربية والغربية، بحيث يمكن اعتبار هذين الفصلين كبسولتين احتوتا خلاصة الحالة العقادية، من أخذهما بجد أمكنه الزعم بمعرفة الكثير عن "العقاد"، وعما أحاط به من أجواء اجتماعية وأدبية، هذا مع الإشارة إلى أن "الجندي" ـ لسبب مجهول ـ لم يغص عميقا في الجانب شديد الخصوصية، الغامض، من حياة "العقاد"، الخاص بإن كان تزوج، وإن كانت له ابنة من صلبه.

طغى حب "الجندي" لـ"العقاد"، واتخاذه أستاذا، على إعمال عقله إزاء بعض ما دار حول "العقاد" من شائعات، وإعمال عقله في بعض مقولاته التي أوردها في مؤلفه، خاصة المأثور منها. فـ"الجندي" يحتفي تصديقا بما أشيع من عدد أسطوري للكتب التي قرأها "العقاد". ستون ألف كتاب. وهذه شائعة لا بد من كذبها، إذ لو العقاد في كل يوم، من أيام حياته، كتابا كاملا، وتأمل فيما يقرأ تأمله العقادي المظنون به، لاحتاج إلى مائة وأربع وستين سنة، وجزءا من سنة أخرى، يفنيها في الستين ألف كتابا المزعومة؛ ثم بعد، إذا افترضنا أن العقاد بدأ القراءة وعمره خمس عشرة سنة، وجميع عمره خمس وسبعون سنة، فالرجل قرأ ستين سنة، أي: بمجموع ألف كتاب في كل سنة، ما يعادل ثلاثة كتب ـ تنقص قليلا ـ في اليوم، وهذا ما لا يعقل. إلا إذا اعتبر "الجندي" طريقة "العقاد" في قراءة بعض الكتب، تلك التي يعبرها بنظره، باحثا في سطورها عن مرام يبتغيه، فإذا وجده قرأه، وإلا أعاده إلى رف مكتبته، قراءة كتاب كامل! وهذا قد يعده السفهاء قراءة، أما الحكماء فلا.

هذا عن تأكيد "الجندي" لشائعة هي من قبيل أساطير الأولين.

أما عن إعمال العقل في مقولات "العقاد" وكتبه، فكان القدماء، من فطاحل معاصريه، لا يتهيبون "العقاد"، فيناقشون إيراداته الفكرية والأدبية بجسارة، لا يتلقونها على عواهنها، فيما جيل الأحفاد ـ الذي سيحط "عادل الجندي" عليه، ومنه، في الفصل الثالث، الأخير، من كتابه ـ يتعامل مع تلك الإيرادات العقادية تعامل المريد من أقوال شيخه، أو تعامل الصحابي مع أقوال نبيه، أو تعامل المأمور مع أوامر آمره، فالسمع والطاعة، لا تمرد ولا نطاعة، فهو كلام العقاد، لا يرد ولا يحاد، نشربه مبسملين، ونطعمه حامدين، لا ناظرين إناه ولا مفكرين. منها المقطوعة البراقة، الجذابة، التي صدر بها "الجندي" كتابه، يقول "العقاد" فيها:

"ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجو من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الآدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها".

وهي مقولة إذا أزلنا عنها قشرتها الذهبية البراقة وجدناها حديدا مطفئا، وربما صدئا، فالثلاث علامات المذكورة ليست، بالمرة، دلائل أكيدة على عظمة الرجال، وإنما من الرجال من يكون قليل القدر، دنيء القيمة، مع ذلك لا يعدم وجود من يفرط في الإعجاب به، ولا يعدم وجود من يحسده وينكر عليه بإفراط، وتحيط به أسرار أشبه بالخوارق. وربما سبب إيراد "العقاد" لفلتته المهيضة تلك هو ميله الشديد للعزلة، فلم يجالس الدهماء على المقاهي، ولا عاشر الغوغاء في الحواري، ليرى كيف أن بلطجيا، لا قيمة له ولا قدر، قد يعجب به البعض بإفراط، ويحسده البعض بإفراط، تنسب له الخوارق الأقرب للمعجزات.

أيضا؛ من الآراء العقادية، التي لو كشطنا عنها قشرتها الذهبية لاح لنا صدأ حديدها، ما أورده "الجندي" في الصفحة الثانية والأربعين من كتابه، حيث يقول "العقاد":

"ولتعلم أن المرأة وحدها هي القادرة على أن تجعل من الرجل العادي رجلا عظيما شريطة أن تقرر أن يكون كذلك؛ لذلك من الخطأ أن نقول: وراء كل رجل عظيم امرأة؛ ثم نسكت. لكن الواجب أن يقال: وراء كل رجل عظيم امرأة قررت أن يكون كذلك".

هنا تجدر الإشارة إلى تكرار "أن" سبع مرات في ثلاثة أسطر! وهذا مخل بأسلوب "العقاد" لو أن المقطع منقول من أحد كتبه، فالقارئ لن يدري إن كان كذلك، أم قاله "العقاد" صوتا في لقاء إذاعي أو تلفزيوني، إذ لم يكلف "عادل الجندي" نفسه عناء الإشارة إلى المراجع التي اقتبس منها مقولات "العقاد" ووضعها في كتابه بهيئة إجابات أفردها الرجل على أسئلته، ما يخل بمصداقية الكتاب إذا رغب أحد دارسي "العقاد" التعامل معه كمرجع.

أما المعنى الوارد في المقولة فضعيف؛ فلا يمكن القطع بأن المرأة، وحدها، هي القادرة على جعل الرجل العادي رجلا عظيما فيما لو قررت ذلك، كما لا يمكن القطع بأن الرجل وحده هو القادر على جعل المرأة العادية امرأة عظيمة. فالعادي، أو العادية، لا يمكن لأيهما أن يكون عظيما بحال من الأحوال، إذ للعظمة جينات وتركيبات لو لم يوهبها الرجل، أو المرأة، يستحيل لأيهما أن يكون عظيما. أما دور المرأة في حياة الرجل العظيم، أو دور الرجل في حياة المرأة العظيمة، فدور له اعتباره، وأهميته، فقط كعامل مساعد، خلاف ذلك لا يصح.

وربما كانت سني عشرين عاما عندما قرأت كتابا للعقاد عنوانه: "الله"، وهو كتاب قيم ساحر، مع ذلك وجدت فيه ما استطعت ـ في سني الصغيرة ـ نقده بملزمة من بضع صفحات، غير أني خبأت ملزمتي، فلم أطلعها على أحد، خيفة اتهامي بالخبل، فقد تحول "العقاد" إلى أسطورة فكرية، بحيث لا يمكن نقد رؤاه، أو نقضها، دون النظر في عقل الناقد، في حين تتجلى الحقيقة ناصعة بأنه في كل كتاب قرأته للعقاد، يوجد مدخل واسع لنقده.

أجرى "الجندي" حوارا ماتعا مع "العقاد"، لم يكتف فيه بإيراد أقوال العقاد نفسه، بل نسب أضاف إليه شروحات وتوضيحات لها، ظنها متسقة مع أفكاره ومبادئه الثقافية، وقد نجح في صياغتها بلغة "العقاد"، حتى أن القارئ لو لم ينتبه إلى وجود الأقواس المحددة لأقوال "العقاد" الأصيلة ظنها جميعا أقواله. وأمتع ما في الحوار حيويته، بحيث يطالعه القارئ، فلا يظنه متخيلا، بل حقيقة، وأن "العقاد" عاد حيا، وقد التقط "الجندي" صورة "سلفي" معه لتوثيق اللقاء ـ الصورة التي وضعها الناشر على الواجهة الأمامية للغلاف ـ  ولم يمانع "العقاد" في التقاط صورة "سيلفي"، "العقاد" الحريص على ما حرص، ويحرص، عليه جميع الأدباء مهما تعاقلوا وأنكروا: الخلود، خلود كلماتهم، سيرورتها وصيرورتها، والاطمئنان إلى أنهم لا يزالون يشغلون الناس، ولم يعودوا نسيا منسيا.

ثم يأتي الفصل الثالث قصيرا، وكأن "الجندي" تحرج منه، فعمد إلى أن يجعله قصيرا، وذلك بعد أن تبدل المكانان، ليصير السائل هو "العقاد"، والمجيب هو "الجندي".

في هذا الفصل يبكي "الجندي" الحال التي وصل إليها أدباء العصر الحالي، وبالغ في البكاء حتى جعله عدودة في جنازة، متعديا الواقع إلى الخيال، ما كان معه أن جار، ولم ينصف، عندما اتخذ من بعض الأمثلة الهابطة ـ رواية وشعرا ـ مثالا على تردي الأدب والثقافة الآن، بيد أن الحقيقة ليست ما نقلها "الجندي" للعقاد؛ فلا زالت الساحة الأدبية العربية تعمر بمبدعين من الشعراء والروائيين والمفكرين كبار، وكثر، لولا أن معظمهم يعاني مما سبق وعانى منه "العقاد" نفسه، بل وعانى منه كل أديب مطبوع في كل زمان: فسحة الوقت والمكان لكل هلاس مهياس، وضيقهما على المبدع الحساس؛ ولا عجب، فهو قانون البر والبحر، ألا نرى الأمواج تتراقص بالزبد الغث، يتنعم بالهواء والشمس، فيما الجوهر الثمين يمكث في الأعماق البعيدة، لا شمس يرى، ولا هواء يتنفس.

فيبكي "العقاد" لبكاء "الجندي"، وقد استهول سوء منقلب الأدب، وعيب تفريط الأحفاد، وإعراضهم عن كنوز الأجداد.

وينتهي الكتاب بلعبة ساذجة، تشبه سذاجة لعبة آلة الزمن التي بدأ بها، ذلك عندما ينهي "الجندي" مؤلفه لا بخاتمة، وإنما بمقدمة، وكأنه رغب في استثارة القراء بما ظنه بناء أدبي حداثي، أن يضع المقدمة مكان المؤخرة، وهو تصرف لو اطلع عليه "العقاد" لسخر منه، وعابه، فما ضرورته؟ وأي شيء أفاد إذا كان الكتاب أقرب ما يكون لمؤلف فكري، لا رواية تتحمل الألاعيب وتأويلاتها.

وإذا كان من أغراض الكتاب الرئيسة التعريف بـ"العقاد"، فقد عابه إجراء "الجندي" الحوار في مكتبته الصغيرة، وكان الأجدر به إجراءه في مكتبة "العقاد" الكبيرة، أو في ردهة من بيته، لينقل لنا تفاصيل المكان الذي عاش فيه الأديب العظيم؛ فلا شك في أن "العقاد" مستقرا بمكتبة أو بيته أقوى منه ضالا على غير هدى، يجلس غريبا في مكتبة غيره، بسبب خطأ تقني في آلة الزمن.

"العقاد في القرن العشرين" كتاب، على ما في بعضه من ألعاب تخييلية ساذجة، فإنه تعليمي محترم، يحتاجه النشء في التعرف المبدئي على "العقاد"، ويحتاجه من هم فوق النشء للإلمام بصورته، قبل التوكل على الله، والشروع في سبر أغوار حقيقته إبحارا في كتبه.  

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة