قبل مائة عام بالتمام والكمال ـ سنة 1922م ـ أنهى الكاتب الألماني الشهير "هيرمان هسه"، الحاصل على جائزة "نوبل" 1946م، كتابة روايته "زيدارتا". وقرأتها مؤخرا في أحدث طبعاتها، الصادرة عن "يوريكا" للنشر والتوزيع، بإخراج فني محترم، وبترجمة وتقدمة رائعتين للدكتورة "فوزية حسن"، ذات الباع الطويل في دراسة الأدب الألماني وتدريسه بالمحافل المتخصصة من معاهد وكليات. وأهم ما كشفت عنه المقدمة المختصرة هو هذه العلاقة القوية بين مبدع الرواية "هسه" وبين شخصيتها الرئيسة "زيدارتا"، وكيف أن نشأة الكاتب طفلا، وتقلب فكره شابا، وعاطفته الأبوية شيخا، كانت جميعها عوامل شعورية انعكست بالكلية في روايته، فأوشكت على أن تكون تسجيلا أمينا لتقلبات "هسه".
كما كشفت المقدمة عن أن "هسه" لم يكتب عملا أدبيا لاقى ضجة أو رواجا، مع ذلك دأب على الكتابة والنشر، إلى أن حدث الانفجار والذيوع العالمي بحصوله على جائزة نوبل!
أيضا التقطت الدكتورة "فوزية حسن" مشاهد من حياة "هسه"، منها ما صور لنا نشأته الدينية، ودراسته المتخصصة في المدارس المسيحية، ثم عدم رضاه عن ذلك الأمر طفلا، ما كلفه ارتكاب بعض الحماقات أودى به إلى العزل في مشفى نفسي. ثم خرج ليواصل حياته، فيتزوج ثلاث زيجات، أطولها الأولى، استمرت 18 سنة تقريبا، غير أن زوجته تلك لم تكن على وفاق معه، وقد أنجب منها أولاده الثلاثة، ثم أصيبت بالجنون، وماتت. أما الأخيرة فتصغره بعشرين عاما، وكانت تدلله، وتسميه "عصفور". فأخذ، إذا راسلها، يمهر خطاباته باسم "عصفور".
و"زيدارتا" كتابة أدبية غير مهتمة بالحبكة، ولا بتدفق الأحداث وتشابكها، ولا بالنقلات النفسية لشخوصها الرئيسة، رغم كونها رواية "فلسفية" بالدرجة الأولى، يصف بها "هسه" رحلة روحية، متقلبة، طويلة، لشخصيته الرئيسة داخل الرواية: "زيدارتا"؛ وسبب تخلي هذه الكتابة عن أبسط ثوابت الرواية، في ظني، هو أنها لم تكن حريصة على تقديم صورة من صور حقيقة الإنسان، بقدر ما كانت حريصة على تقديم الحكمة إلى الإنسان، ليسقط "هسه" فيما ظل بطله "زيدارتا" يهرب منه على طول الرواية!
وضع "هيرمان هسه" روايته في جزئين.
الجزء الأول: أربعة فصول. والجزء الثاني: ثمانية فصول.
لكن؛ مم كان يهرب "زيدارتا"؟
في الجزء الأول إجابة هذا السؤال.
يهرب "زيدارتا" من التبعية العمياء للتعاليم المقدسة.
وإذا كانت التعاليم المقصودة داخل الرواية هي تعاليم "بوذا"، فهي في واقع "هسه" تعاليم "المسيح"، وفي الواقع الإنساني تعاليم أصحاب الأديان من رسل وأنبياء، أو كهنة وسدنة، أو حتى رهبان ومتصوفة؛ فكل صاحب تعليم ـ من وجهة نظر "زيدارتا" ـ لا يمكنه تزويد أتباعه بتجربته الخاصة في الوصول إلى النقاء، لكنه يقدم منهاجا يسير عليه الأتباع سير القطيع، سيرا منقادا، موجها بالإيحاء الجمعي.
و"التابع" غير "المتبوع".
تجربة "المتبوع" لها عمقها البعيد، الأصدق من تجربة "التابع".
وبناء عليه يرفض "زيدارتا" البقاء في المنزل، واتباع ما يمليه عليه أبوه من تعاليم "بوذا" المعلبة، ويقرر الانقطاع عن حياته الوثيرة لصالح حياة الرهبان البراهمة في الغابات، فيتخلى عن ملابسه إلا من قطعة قماش يداري بها سوأته، ويرحل، برفقة صديقه "جوفيندا" إلى الغابات، ويعيشا فيها عيشة الزهاد المنقطعين، لا يتواصلون مع الناس إلا إذا يقرص الجوع أمعاءهم، فيذهبوا بصحونهم إلى أقرب الدور، يستجدون الطعام من أهلها.
وقد جاء هذا الجزء مملا للغاية، يتحرك حدثه تحرك السلحفاة، أنشط ما فيه الركود! يستعرض "هسه" مفاهيمه عن تلقي التعاليم المقدسة استعراضا تقريريا، بأسلوب عتيق، يظن معه القارئ أنه يقرأ كتابا فلسفيا، لا رواية ذات متكأ فلسفي، والبون بين الصنفين شاسع؛ يبقى الصديقان، "زيدارتا" و"جوفيندا"، في الغابات مع الرهبان البراهمة، يبحثان عن شرعتهما الخاصة، إلى أن تصلهما إفادة بأن "بوذا"، شخصيا، سيمر على إحدى البلاد القريبة، فيقرران لقاءه، ويلتقياه، فينبهر "جوفيندا" به، ويبقى معه تابعا من أتباعه، بينما يواجه "زيدارتا" الحكيم الإله "بوذا" بفلسفته في التبعية الدينية، ويرفض البقاء معه، وينطلق عائدا إلى الغابات، مستمرا في طريقه الخاص.
أما الجزء الثاني، فيتناول تقلبات "زيدارتا" العنيفة بين ما هو روحي وما هو مادي؛ إذ فجأة يرى هذا الباحث عن الحقيقة ـ أشارت الدكتورة "فوزية حسن" في مقدمتها إلى أن "زيدارتا" مفردة هندية تعني الباحث عن الحقيقة، أو ما يقارب هذا المعنى ـ أن الحق ليس في التجرد من الحياة، ولا في الانعزال عن الناس، ولا في حياة الرهبان المنقطعين، ولا في استجداء الطعام، وإنما في ممارسة الحياة، فيترك الغابة إلى إحدى المدن، وهناك يرى، أول ما يرى، موكب إحدى المحظيات، "كامالا"، الفاتنة الثرية، التي تقبل بمؤانسة ومحبة كل رجل يتمتع بالثراء، فيستأذن "زيدارتا" للقائها، فتسمح له، ويطلب منها مؤانسته، على أنه لا يملك سوى ثلاثة أشياء: الصوم، والصبر، والتفكير. فأخبرته بأنها أشياء لا تكسبه محبة "كامالا"، وأنه إذا أراد الحصول على محبتها لا بد له من امتلاك ثلاثة أشياء غيرها: ملبس فخم، وحذاء جيد، ومال وفير.
يقرر "زيدارتا" الحصول على محبة "كامالا"، فيدخل دنيا المال، وتساعده بما لها من حظوة في توظيفه لدى أحد التجار الكبار، لينطلق في رحلته المادية مع تحليه بروح راهب عازف عن محبة الأموال رغم سعيه في جمعها. ثم، مع مرور الوقت، يتغلب المال على الروح، والجشع على القناعة، والقسوة على الرحمة، لينقلب "زيدارتا" من راهب براهمي يقدس الحكمة إلى تاجر جشع يقدس المال، هذا غير شبقه وولعه الجنسيين بـ"كامالا"، اللذين لا ينطفئان أبدا.
وفي لحظة صدق مع النفس أدرك "زيدارتا" أنه يسقط، وأن لا حكمة يمكن استخلاصها من معايشة الناس، وعليه العودة إلى حياة الرهبان البراهمة في الغابات، فيترك كل مكتسباته دون سابق إنذار، كما يترك "كامالا" دون وداع، غير عارف بأنه وضع في رحمها نطفة ابنه.
وفي الغابة، عند النهر، يتعرف على مراكبي حكيم، كان قد عبر به النهر قبل سنوات، فيستضيفه في كوخه، ويطلب منه البقاء معه، ليعمل مراكبيا، فيرحب "زيدارتا" بهذا الطلب، ويعيشان سويا لسنين طويلة.
ويدور الزمان دورته.
تقرر "كامالا" التخلي عن حياتها الفارغة اللعوب، والسفر، بصحبة ابنها، للقاء الحكيم الأكبر "بوذا"، والتبرع له ولأتباعه بجميع ممتلكاتها.
وكان عليها عبور النهر، فتلتقي بـ"زيدارتا"، فتعرفه بابنه، وتموت إثر حادث، لتبدأ مرحلة جديدة من تقلباته "زيدارتا" الروحية. حياة الأب ومشاعره تجاه ابنه. خصوصا إذا كان الابن متمردا، نشأ بالأساس بعيدا عن والده، ميوله غير ذات الميول، وهدفه غير ذات الهدف.
وفي معاناة "زيدارتا" مع ابنه المتمرد يرى كيف أنه كان قاسيا عندما تمرد سابقا على أبيه، غير أن رفيقه المراكبي الحكيم يحاول مساعدته بتقديم الحكمة....
وقد غلب الركود على أجزاء كبيرة من هذا الجزء الثاني أيضا، فالتخاطبات الفلسفية طويلة، صالحة لسرد مقالي، لا لسرد روائي، وتكرار وصف الطبيعة ـ على سبيل النقلات المخففة لوطأة تلك التفلسفات ـ دفع بالرواية إلى مزيد من الملل، مع ذلك فإن "هسه" كان رشيقا للغاية وهو يكتب الأجزاء الخاصة بمعايشة "زيدارتا" للحياة.
إن أروع ما في الرواية هي تلك الفصول التي كان فيها "زيدارتا" تاجرا لا راهبا، و"كامالا" المحظية (أقرب ما تكون إلى المومس الفاضلة) هي النهر الجاري، غير الراكد.
إن أروع فصل هو ذلك الذي كان فيه "زيدارتا" أبا مهموما بابنه، لا راهبا مهموما بالحكمة.
وعليه، فإن "زيدارتا" ـ مهما تفلسف طويلا لصالح العزلة ـ يبقى ولعه بمحبوبته "كمالا"، ولهفته على ابنه، السلوكين الإنسانيين الأصدق من أي حكمة منبتها العزلة والرهبنة.

إرسال تعليق