U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

إسرا.. إسرا.. يا إسرا


 


جاءت الغازية ودخلت نجعنا، دخلته في ليلة عاصفة، دخلته في منتصف الليلة العاصفة، النخيل كانت ترتج، السماء مغبرة، صوت الريح مرعب، و"الغازيه" دخلت نجعنا في منتصف الليلة العاصفة معها كلبها الضخم في حجم ثور شاب ووقفت أمام بيت الحاج "مجاهد"، ضمت قبضة يدها وضربت بها البوابة، لم يفتح أحد، طرقت كثيرًا حتى فُتحت البوابة، نظر الحاج "مجاهد" إلي الطارق فوجده امرأة واقفة تطير الريح شعرها، كان سيسألها: "إنسية أم جنية؟" عندما قالت: "عابرة سبيل أضنتها العواصف تلوذ ببيتك". قال وهو يفسح لها الطريق إلي الداخل: "لذت ببيت لا يرد اللائذ، ادخلي يا امرأة". دخلت الغازية، وبينما الحاج "مجاهد" يغلق البوابة اندفع الكلب الضخم ودخل أيضا، ارتاع الحاج "مجاهد" من ضخامته، وهم بطرده، إلا أن الغازية قالت بصوت مكسور: "هو الآخر عابر سبيل يلوذ ببيتك". زام الحاج متضايقا: "هممم".

من الحجرة التي في منتهي البيت طلعت "ماليه" زوجة "مجاهد" على وجهها دهشة ممزوجة بالنعاس، اقتربت من الغازية وقالت لها: "أهلا أهلا وسهلا". وقالت لها: "من أنت يا أخت؟". الغازية شخاليلها صلصلت على صدرها وقالت: "أنا واحدة اسمها إسرا". قال الحاج وهو يشير إلى حجرة المسافرين: "أهلا بك يا إسرا، اذهبي يا ماليه وجهزي لإسرا لقمة تأكلها، تفضلي يا إسرا". وعلى إحدي الدكك تمددت "إسرا" بلا حياء أمام الحاج "مجاهد" الذي ارتبك، وبغنج الأنثى الغجرية قالت: " لماذا يا حاج تأخرت في فتح بوابة بيتك لي؟! ". قال: "صفير الرياح العاصفة صم أذني". واتجه الحاج إلى إحدى الدكك، جلس وقال: "قولي لي يا إسرا، لماذا تسيرين وحيدة هكذا في أنصاف الليالي؟!". "إسرا" رفعت فخذها الأيمن فتدحرج ذيل ثوبها الناعم إلى خصرها وانكشف لحمها، قالت: "أنا لا أسير وحيدة، أنا معي كلبي، النجوع تطردني لأنني لا أمتلك بيتا". وماع كلامها وتنعنع صوتها: "ناس النجوع يقولون عني أنني وقحة لأنني غازية". الحاج "مجاهد" بهرته نصاعة الورك العاري، دمه فار، ريقه جري، فقام واتجه إلي الدكة التي تمددت عليها "إسرا"، وقعد بجانب صدرها الذي يشخلل وقال: "غازية غازية، المهم أنك جميلة جدا يا إسرا". ووضع كف يده علي رقبتها، ونزل برأسه إلى رأسها، وتنهدت "إسرا" تنهيدة الغوازي.

 

في الصباح صأصأت العصافير، طلعت شمسنا الدافئة من خلف سن جبل الشروق، أنارت عالمنا بنور الذهب، و"ماليه" أخذت ماجورًا فخاريَّا ودخلت به حظيرة المواشي، كان هناك كلب إسرا الضخم، وضعت "ماليه" الماجور تحت ضروع البقر، ووضعته تحت ضروع الجاموس، وعندما خرجت من الحظيرة كانت خارجة مذهولة، لاحظ الحاج ذهولها فقال لها: "يا بنت مالك؟!". قالت: "الضروع لا تدر اللبن". فقال: "لابد البهائم جائعة". قالت: "شبعة، وضروعها منتفخة باللبن، لكنها لا تدره!". قال: "إذًا ماذا هناك؟!". قالت "ماليه" وهي تشير إلى حجرة المسافرين: "المرأة إسرا قدمها قدم نحس". تبسم الحاج، قال في سره: "زوجتي الدميمة مغتاظة من إسرا الجميلة". وانتقي من فئوس الزراعة فأسًا حادَّا، وخرج، وهو يسير على حافة الترعة "المُرَّه" كان يدندن بانبساط: "إسرا.. إسرا.. يا إسرااا".

دخلت "مالية" غرفة المسافرين لتوقظ "إسرا" النائمة فأصابتها دهشة، وأصابتها رعشة، كانت جدران الحجرة ذات اللون السماوي قد تبقعت ببقع كثيرة، سوداء وصفراء وحمراء وخضراء وزرقاء ورمادية، وسقفها الأبيض صار أصفر، وتأكد في سريرة "ماليه" أن قدم "إسرا" قدم نحس، وأن قدمها قدم شرير، لكنها نكتت سبابتها في لحم ورك "إسرا" الناصع وقالت: "لصباح". تلوَّت "إسرا" قبل أن تعتدل، واعتدلت وفركت عينيها، قالت: "صباح جميل". "ماليه" وضعت أمام "إسرا" صينية عليها طعام وقالت: "ماذا حدث لجدران الحجرة؟". "إسرا" هتفت بضيق: "جبن شديد الملوحة يكون إفطاري!؟". وتساءلت: "أين اللبن يا أخت؟". "ماليه" قالت: "بهائمنا هذا الصباح بخيلة". قطبت "إسرا" جبينها فزام الكلب الضخم الرابض في حظيرة المواشي، قالت "إسرا": "أين الحاج يا أخت؟".. الحاج مجاهد في الحقول، يضرب أرضها بفأسه الحادة وهو يدندن: "إسرا.. إسرا.. يا إسراااا".. "ماليه" قالت: "يا إسرا.. الصباح رائع، الشمس دافئة، لا عواصف، يمكنك بعد الإفطار أن تغادري البيت وتكملي طريقك التي كنت تسيرين فيها ليلًا". "إسرا" نغجت: "أنا متعبة، أنا أنوى البقاء هنا لبعض الوقت". "ماليه" انزعجت، وقالت في سرها: "شرور عظيمة ستصيب هذا البيت لو بقيت هذه المرأة". وقالت لإسرا: "لكن يا إسرا نحن لا نملك لك طعاما، بهائمنا لا تدر لبنا، حقولنا لن تنبت زرعا". فقالت "إسرا": "أنا لا أحتاج طعامًا، أنا أحتاج راحة جسدي". "ماليه" انزعجت وقالت: "بالتأكيد تتشقق هذه الجدران ويسقط البيت". وزعقت في وجه إسرا: "لكني لا أريد منك البقاء في بيتي، أريد منك أن تذهبي، اذهبي، اذهبي". وهرولت خارجة من الحجرة. "إسرا" عيناها احمرتا، وأخرجتا وهجًا براقًا، وزمجرت فزمجر الكلب في حظيرة المواشي، وقفز على بوابة الحظيرة فهشمها، وانطلق نحو "ماليه" التي تهرول ناحية غرفتها في منتهي البيت، "ماليه" ركبها الرعب فجرت بكل سرعتها لتدخل الحجرة وتغلق عليها بابها، دخلت غرفتها فعلا لكنها لم تستطع غلق الباب الذي دفعه الكلب وانقض عليها.

الشمس واقفة فوق سن جبل الشروق منيرة، والحاج مجاهد في حقله القريب من بيته يدندن: "إسرا.. إسرا.. يا إسرااا". لكنه هذه المرة لم يكمل دندنته، إذ أنه سمع زمجرة عاتية، وصوت صراخ زوجته المرعوبة، ألقي الفأس وجرى كالعاصفة نحو بيته، هَجَّت من طريقه طيور أبو القردان والعصافير والهداهد إلى السماء، اخترق الحاج بيته، ضوضاء الرعب تنبعث من الحجرة التي فى منتهي البيت، الحجرة التي ينام فيها مع "ماليه"، بعض الحمام أحب بناء أعشاشه تحت سريرها طويل الأرجل، اندفع نحو بابها، عندما فتحه رأي الكلب الضخم يأكل زوجته، انتبه الكلب المسعور على صوت فتح الباب فاستدار نحو الفاتح، الحاج مجاهد خاف على نفسه فأغلق الباب، كان يلهث، وعيناه تروحان إلي السماوات والأراضين وباب حجرته الذي يقبض علي أكرته، "ماليه" بالداخل تتخبط بالجدران، دمها يطير في الهواء كالرذاذ فيلون الحمام الذي يرفرف مهتاجا في سماء الحجرة، الكلب ينكت أظافره في لحمها وينهشه، "مجاهد" جرى نحو آلات الزراعة، قبض على بلطة ثقيلة، وعندما فتح الباب مرة أخرى أغلقه بسرعة لما رأى الكلب يستدير إليه، هذه المرة التصقت بذهنه صورة زوجته الممزقة، المخضبة بالدماء، الهامدة تماما، وقلبه في هذه اللحظة ناح، فتح الحاج مجاهد فمه وعوى: "يا واااحد.. الكلب يأكل زوجتي". جرى خارجا من البيت وهو يعوى: "يا وااااحد.. الكلب يأكل ماليه". اخترق الحقول: "يا وااااحد الكلب يأكل ماليه زوجتي". الناس تركوا الأعمال التي فى أيديهم ونظروا إليه، عيونهم واسعة بالدهشة، وشيخ البلد الريس "عمران" أمسك "مجاهد" الصارخ في الطرقات من عبه، وزعق فيه: "ما الحكاية يا مجاهد يا أخي؟". "مجاهد" شق "جلابيته" وصرخ: "الحكايه؟!". وانتزع عمامته من رأسه وألقاها علي الأرض: "الحكايه؟!". وشد شعر رأسه الأبيض وعوي: "ياااا واااااحد.. الكلب يأكل زوجتي". الناس جروا إلي بيت الحاج "مجاهد"، وأمام البوابة المغلقة كان كلب "إسرا" مقعيا له هيبة، يلعق بلسانه الطويل الدماء المتناثرة علي صدره وذراعيه، وعندما هم الناس بدخول البيت زمجر الكلب زمجرة مثل الرعد الهادر، وفُتحت البوابة، وطلعت "إسرا" الغازية علي الناس شخاليلها تصلصل، قال شيخ البلد الريس "عمران": "من أنت يا حرمه؟!". فردت عليه وصوتها يميس: "أنا واحدة اسمها إسرا". زعق شيخ البلد: "يا إسرا كلامك يميس وشخاليل صدرك تصلصل، وبداخل البيت امرأة مقتولة، وخارجه كلب ضخم قاتل!". قالت "الكلب الضخم كلبي، لا أخافه، يغضب لغضبي، يفرح لفرحي". الشيخ "عمران" اندهش: "كلبك؟! قولي لي يا إسرا ماذا تفعلين هنا؟". "إسرا" استندت بكوعها الأيمن إلى حلق البوابة، وقبضت بأصابعها اليسري علي خصرها: "أنا هنا في بيتي". الشيخ عمران قال: "إههه!؟". واحد من الناس علا صوته: "انكشف الملعوب يا خلق، كلب إسرا أكل ماليه، وإسرا سرقت بيت مجاهد". وارتفعت أصوات الناس "إسرا قتلت ماليه وسرقت البيت". الشيخ "عمران" هجم علي "إسرا" ليجذبها خارج البوابة، "إسرا" زمجرت واحمرت عيناها، الكلب الضخم زمجر وقفز فوق الشيخ "عمران" وقبض بأسنانه علي رقبته النحيفة فتفجرت منها الدماء، الناس هجموا علي الكلب ليخلصوا عمران منه لكنه استدار وشرع في القفز عليهم، ففروا من أمامه إلي الحقول، الكلب نهش جسد الشيخ "عمران"، وجرجره إلي مصرف المياه المار أمام البيت وألقاه فيه، و"إسرا" واقفة تقهقه بجنون، والكلب جاء وربض تحت قدميها، ولعق الدماء العالقة بصدره ومخالبه، الناس فروا الي طرقات النجع، وفروا إلي البيوت، وفروا إلي دوار العمدة، وقالوا له" "إسرا الساحرة معها كلب مسحور، يأكل الناس، وهي تسرق بيوتهم". العمدة بهت، واغتم، وقال: "يارب من أين جاءت لنا اسرا الساحرة؟". وقال: "قولوا لي ياناس ما العمل؟". فجأة قال فرحا: "كلب إسرا تقتله كلابنا". وزعق: "لموا كل كلاب البلد وأطلقوها علي كلب إسرا لتقتله".

الناس جمعت كلابها في ساحة "الرهبه" أسفل شجرة الكافور العالية، كانت كلاب كثيرة، مختلفة ألألوان والأحجام، سوداء وبيضاء ورقطاء وبنية ورمادية وحمراء، كلاب كثيرة، أرمنتية وبلدية وهجينة ذئاب وهجينة ضباع وهجينة ثعالب، كلاب كثيرة، كلاب كثيرة كثيرة، ألاف الكلاب، كلاب كثيرة، حتي أنها جلست علي الدكك التي يجلس عليها الناس، وجاء العمدة إلي الساحة ونظر إلي الكلاب، وقال للناس: "سوقوها إلي بيت مجاهد واقتلوا كلب إسرا، سيروا علي بركة الله". وسار الناس أمام الكلاب وخلفها مثيرين سحابات غبار كثيفة حتي وصلوا إلي مشارف الحقل الواسع الذي يتوسطه بيت "مجاهد"، وهناك صاح الناس في الكلاب اللاهثة: "هُو.. هُو.. هُو"، "بِشِّك.. بِشِّك"، "عليه.. عليه". كانوا يهيجون الكلاب لتنطلق نحو كلب "إسرا" الرابض أمام البوابة، وانطلقت فعلا، انطلقت مثل سهام من لحم، وفي لحظات اشتبكت مع كلب "إسرا"، وعلا صوت النباح الغاضب، وعلا صوت النباح الخائف، وتراب الأرض هاج، وطار الي السماء، وطارت كذلك أجسام كلاب وسقطت في المصرف، وطارت أجسام كلاب وسقطت في الحقول، وطارت كلاب وسقطت علي سقف بيت "مجاهد" وفي ساحته، وكلب "إسرا" يرعد ويهدر، مخالبه فولاذ رهيف يقطع الرقاب ويمزق الأجساد، وكلاب النجع رغم الهول كانت شجاعة، لقد تكاثرت علي جسد كلب "إسرا" وأعملت فيه مخالبها، مع ذلك لم تستطع مجرد جرحه، كان شعره غزيرا فاحما، وجلده مثل صفائح حديد، أما كلب "قارون" الضامر فإنه هجم علي ذيل كلب "إسرا"، وقبض بأنيابه علي جزء منه فاقتطع منه قطعة ضئيلة وجري بها وهو يشخب في دمائه، وزاد هياج الكلب الضخم فقتل مئات الكلاب غير ما جرح منها، والباقي هرب، وناس النجع نفوسهم انكسرت، ورقابهم قصرت، وجاءهم إحساس أن "إسرا" وكلبها لن يمررا ما حدث بسهولة، وبأنهم الضحايا الجدد، وناموا الليل في كابوس طويل، وصحوا قبل الفجر عدة مرات علي صوت الحاج "مجاهد" الهائم في طرقات النجع، وفي الحقول، وبين قبور الجبانة غرب نجعنا" "يااا وااااحد.. الكلب يأكل مالية زوجتي". وكان أيضا يدندن "إسرا.. إسرا.. يا إسرااا". ودموعه تنهمر مثل فيض دافق، قال أخونا " فتاح "إن الحاج مجاهد جُن، وقال: "أكثر الله خيره، من منا يا إخوان يتحمل نصف الذي أصابه؟!". ورفض "الضرس" ولد شيخ البلد الريس "عمران" أن ينصب سرادقا لتلقي العزاء في أبيه الذي أكله كلب "إسرا"، وقال: "آخذ العزاء وجثة أبي ملقاة في مصرف ضحل تأكلها الأسماك ولا أستطيع إخراجها ودفنها!؟ أنصب يا ناس والكلب ابن الكلب والهائجة المومس بنت الهائجة المومس قاعدان على وجه الدنيا؟!".

وفي الليل كانت الريح شديدة، وأشباح النخيل تميل ثم تنتصب، تميل ثم تنتصب، تصرخ، وصوت الحاج مجاهد يتموج مع الريح نائحا: "ياااا واااحد.. الكلب يأكل زوجتي ماليه". ويتموج مع الريح مترنما: "إسرا.. إسرا.. يا إسرااا". ونحن في بيوتنا بكينا، وحريمنا ولولت، وأطفالنا نظروا إلينا باندهاش وخوف، ومر الليل كئيبا، وفي الصباح طلعت شمس الصباح، شمس صفراء مثل وجوهنا الصفراء، لم تنم مثلنا، خائفة من كلب إسرا مثلنا، وكنا سنخرج للحقول عندما علا صوت العمدة من ساحة "الرهبه": "ياخلق تعالوا، يا خلق تجمعوا في الرهبه". وتجمعنا في الرهبة، وجلسنا علي الدكك الكثيرة الموضوعة تحت شجرة الكافور العالية، قال العمدة: "سأقول لكم كلاما كبيرا". انتبهنا، قال: "إسرا رويدا رويدا ستحتل كل بيوتنا، وكلبها سيأكلنا ويأكل حريمنا وعيالنا". وارتفعت الشمس فوق سن جبل الشروق، ونورها الباهت سقط علي وجه العمدة الممتقع: "يا ناس.. إسرا نجعلها عمدتنا، تتحكم قي نجعنا على أن تترك لنا بيوتنا، وكلبها لا يأكلنا، هذا هو الحل للبقاء". وقام العمدة وقال: "أنا ذاهب لأتنازل لها عن العمودية". وقبل أن يخطو خطوة واحدة ارتفع صوت "قارون" وهو يتقدم نحو "الرهبه" مهرولا: "كلبي يا ناس نهش قطعة لحم من كلب اسرا، كلبي اليوم عاد وفي جسده مائة جرح، وفي فمه قطعة لحم من كلب إسرا". وحضن العمدة "قارون" وهو يزعق: "يا سلام يا قارون، كلبك يا قارون أعطانا الأمل، يا إخواننا كلب إسرا قابل للتمزيق, لن نتنازل عن العمودية، وسنقتل إسرا وكلبها". واختلطت أصوات الناس الزاعقة "الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر".

وما أن وضعت الشمس قدميها علي سن جبل الغروب، حتي أمر العمدة بدق طبول الحرب، واستمر القرع حتي ظهور شمس الشروق، كان قرع الطبول يرج صمت الليل، ولم تنم النخيل ولا الزروع، واهتاجت أعصاب الريح فعصفت، وطيور البراري طارت في الهواء العاتي وتخبطت بجنون، وفي البيوت القلقانة كان الرجال يسنون شفرات الطواري والبلط وأسنان المناجل، وأخونا "حكيم" مر علي كل بيوت النجع، وأخذ منها كل البهائم، جاموس وبقر وجمال ونعاج وماعز، حتي القطط لم يتركها، حتي الكلاب التي ما زالت الدماء تنز منها أخذها، وجمع كل الحيوانات خارج النجع ناحية الشق الغربي، وأخونا "قناص" وقف في الساحة الضيقة أمام مسجد نجعنا، ووضع راحتي يديه علي جانبي فمه وأطلق صياحا مثل عواء الذئب، ولم يمر وقت طويل حتي كانت أسراب الطيور تملأ السماء المعتمة، وتحط علي جدران البيوت، وتتعلق بأي بروز، لقد كان شكل مئذنة المسجد المارقة في السماء مذهلا وهي مغطاة تماما بأجساد الطيور، كانت أجنحتها ترفرف لمواجهة عصف الريح، مئات ألآلاف من الأجنحة الخفاقة تضرب الهواء، فتحدث صوتًا مهيبًا، وخلال هذا كانت الطبول تقرع، وصداها المتماوج مع الهواء يرتد مثل نبض قلب مارد جلس علي سن جبل الغروب، وصوت "مجاهد" الحزين يتلوى بعيدا "يااا وااااحد.. الكلب يأكل زوجتي". وقوارب صغيرة تعبر النهر من ضفته البعيدة إلي ضفاف نجعنا مملوءة بالبشر، وضفافنا وقفت عليها أعداد لا تحصي من ناسنا الذين يسكنون النجوع الأخرى، وأخونا "عاطي" واقفا بينهم يهتف بصوت عال: "يا ناس.. إسرا سرقت بيت مجاهد، يا ناس... كلب إسرا أكل مالية زوجته، يا ناس... كلب إسرا غلب آلاف الكلاب لكن كلب قارون نهش قطعة من ذيله".

وجاء الصباح، وخرجت شمسنا من خلف سن جبل الشروق مثل برتقالة ضخمة مبهجة، وبدأنا الزحف، جيش الناس والبهائم يمشي علي الأرض، بينما أسراب الطيور تظلله، وآلاف الأشعة اللامعة تبرق وهي تنطلق من الشفرات المسنونة الي زرقة سمائنا، وسطح بيت "مجاهد" يبدو من بعيد، يدنو، يدنو، يدنو، ويتضح لنا البيت كله، ويتضح لنا كلب "إسرا" رابضا أمام بوابته الضخمة.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة