فى كتابه "الثَّورة الإِيرانيَّة بين الواقع والأسطورة" نقل لنا زهير ماردينى تفاصيل لقائه بآية الله الخوميني فى باريس قبل عودته منتصرًا إلى إيران، سأل مارديني آية الله: يَتَّهمونكم بأنَّكم ستعودون إلى الوراء، مثلًا موضوع المرأة، ما دورها فى المجتمع الإِسلامىِّ الذى تنادون به؟ والنَّشاط الاجتماعى؟
يجيب الخوميني: رؤية الإسلام الأصيلة للمرأة تقتضى: أَوَّلًا: إنَّ المرأة مساوية تمامًا للرَّجل فى حَقِّها الوظيفي والمَسؤوليَّات، مع احترام الاختلافات الموجودة بين الرَّجل والمرأة على المستوى البيولوجى والسيكولوجى. ثانيًا: حَقُّ المرأة فى العمل والدِّراسة. ثالثًا: للمرأة حَقُّ التَّرشُّح والانتخاب فى الحكومة الاِسلاميَّة. رابعًا: ما يعترض عليه الإسلام هو تحويل المرأة من أداة إِيجابيَّة فَعَّالة إلى مجرد دمية للتَّمييع والاستهتار والفساد. هذا هو حكم الإسلام فى ظِلِّ التَّقدُّم.
ربما البند الرَّابع من رؤية الإسلام الأصيلة للمرأة، حسب كلام الخوميني، هو ما يصلح مدخلًا لقراءة رواية "سجينة طهران" قراءة مُتأنِّية.
هذه الرِّواية كتبتها امرأة تدعى مارينا نعمت، سردت فيها سيرتها الذَّاتيَّة مذ وُلِدت عام 1965 فى إيران، أَيَّام الشَّاه محمد رضا بهلوي، وحتَّى صارت مراهقة تعيش أحداث الثَّورة الإِسلاميَّة التى لفحتها بنيرانها رغم صعرها فألقت بها فى غياهب معتقل إيفين الرَّهيب، إلى أن تساعدها الأقدار في 1990 على التَّخلُّص من هذا المعتقل والهجرة إلى كندا لتَتجنَّس بجِنسيَّتها، وتكتب روايتها.
فأَىّ جريمة ارتكبتها مارينا نعمت استأهلت بمقتضاها الزَّج بها في معتقل إيفين؟ هل قامت بفعل لا أَخلاقيٍّ له علاقة بأَيِّ "ميوعة" أو "استهتار" أو "إفساد" يستلزم اعتراض الإسلام عليه حسب ما جاء على لسان الخوميني في بنده الرَّابع المذكور أعلاه؟
تحكى الرِّواية أنَّ مارينا كانت قد بلغت الثَّالثة عشرة من سنى عمرها عندما قابلت مراهقًا اسمه آراش، فى السَّادسة عشرة من عمره، في منتجع غازيان على ضفاف بحر قزوين، أثناء اِحتفاليَّة عيد ميلاد إحدى صديقاتها. بعد عِدَّة مواقف أَحبَّت مارينا آراش، كانت الثَّورة الإِسلاميَّة قد نجحت فى الإطاحة بالنِّظام المَلكيِّ لتمارس استبدادًا مقيتًا لتوطيد النِّظام الجديد، ما اضطر بعض الحركات الوَطنيَّة التى سبق لها تأييد الثَّورة إلى الانقلاب ضد الإِسلاميِّين، آراش عُضوٌ فى إحدى هذه الحركات، يلقى مصرعه فى واحدة من هذه الاحتجاجات، تبقى ذكراه مُتوهِّجة فى فؤادها الصَّغير، عندما ترى مشهدًا لأحد الاحتجاجات فى ميدان الفردوسى يُقتل فيه أحد المتظاهرين تنقلب حياة مارينا رأسًا على عقب، إذ قَرَّرت مناهضة الاستبداد الجديد وهى لم تزل بعد طفلة فى المدرسة الثَّانوية، تُعلِّق على جدران مدرستها بعض مَجلَّات الحائط تُندِّد فيها بالقهر والقتل الثَّوريَّين! كما ترفض الاستماع للمُدرِّسات الإِسلاميَّات اللائى يقضين أوقات الدَّرس مدحًا فى الخوميني وثورته، ما يضعها فى القوائم السَّوداء التى أَعدَّتها مخابرات الثَّورة.
بالفعل، يتم القبض عليها لتَتعرَّض للتعذيب فى معتقل إفين، بل تَعرَّضت للإعدام، بعد حكم محكمة لم تَتمكَّن من حضور وقائع مداولاتها، فى اللحظة الأخيرة من إجراءات تنفيذ الحكم يَتقدَّم أحد ضُبَّاط المعتقل، من القائمين على التَّعذيب فيه، اسمه علي حسين الموسوي، لإنقاذها من الموت رميًا بالرَّصاص.
لماذا تَقدَّم علي حسين موسوي لإنقاذ مارينا من الرَّدى؟
كان قد وقع فى حُبِّها، ولآنَّه ضابط فى الحرس الثَّورى، القُوَّة الآمرة النَّاهية فى إيران بعد الثَّورة، فقد طلب بوضوح وابتزاز صريح من مارينا الموافقة على الزَّواج منه، ولأنَّها كانت قد استشرفت مرحلة اليأس وافقت، مع أنَّها مَسيحيَّة وعلي مسلم! ولأنَّ طريق التَّنازلات يبدأ بخطوة فقد تنازلت بعد قليل عن مَسيحيَّتها وتَحوَّلت إلى الإسلام بالإكراه المَعنوىِّ رغبة فى تلبية طلب أسرة علي، خَاصَّة والده حسين موسوي، الذى كان على علاقة متينة بآية الله الخوميني.
تتدافع أحداث الرِّواية برشاقة، عبر جمل بسيطة، تحمل الحدث باقتدار، دون تقعير، لترسم لنا حياة النِّساء المُعتقلات داخل أسوار إيفين، وتصف مشاعرهن لنشاركهن الألم والعذاب خالصين.
وفى إشارة خاطفة لمَّاحة يَتَّضح للقارئ أنَّ قهر النِّظام، الذى تَشكَّل بعد الثَّورة، أقسى وأَشدّ تنكيلًا مِمَّا كان قبلها؛ فالعنبر 246، بطابقيه العلوي والسُّفلي ضَمَّ أَيَّام حكم الشَّاه نحو خمسين سجينًا، أمَّا أَيَّام حكم الخوميني فقد عّجَّ بأكثر من سِتِّمائة وخمسين معتقلًا!
إذن هو خلل جديد مسيء للمرأة في ظل الإسلام نسي الخوميني الإشارة إليه في بنده الرَّابع، يمكن وصفه باحتجاجها السِّياسي، هذه المرأة التى مَثَّلتها مارينا، عندما ألقي بها في إيفين لاحتجاجها ضد القهر والاستبداد والطُّغيان!
مع كل هذا القهر والاستبداد والطُّغيان كان جميلًا أن تكتب مارينا نعمت روايتها بهذه الرُّوح المتسامحة والمَوضوعيَّة فى تناول الأحداث والشَّخصيَّات، ما جعل أسلوبها أقرب إلى الهمس، لكنَّه الهمس الذى يُزلزل الدَّواخل بعنف، حزنًا وحسرة. رغم إجبارها على الزَّواج من جَلَّادها علي حسين الموسوي" بعد التَّخلى عن ديانتها إِلَّا أنَّها تذكر حبه لها بإخلاص، حُبًّا أنقذها به من الموت مَرَّتين، تلك المَرَّة التى سبق ذكرها، وهذه المَرَّة التي أودت بحياته، فبعد أن قَرَّر التَّخلُّص من عمله الكريه فى هذا المعتقل، تلبية لطلب مارينا فور الزَّواج منها، عمل الحرس الثَّوري على تصفيته جَسديًّا؛ في لحظة الاغتيال كانت الرُّصاصات في طريقها إليها، لكنَّه يدفعها بعيدًا ليَتلقَّى النَّار القاتلة وحده.
كما أشارت إلى اعتناء السَّيد حسين الموسوي بها بعد رحيل ولده، فتَوسَّط لإخراجها من معتقل إيفين بنفسه، بعد إلحاقها به مَرَّة أخرى لخلل قَانونيٍّ في إجراءات الإفراج السَّابقة، ورغم علمه بعودتها إلى مَسيحيَّتها، وقرارها الزَّواج من أندريه، حبيبها القديم، إِلَّا أنَّ السَّيد حسين الموسوي يُصرّ على منحها حقوقها كاملة كأرملة لابنه، لتُسجِّل مارينا نعمت مشهدًا إِنسانيًّا بديع الألق.
قالت كاتبة هذه السِّيرة الرِّوائيَّة فى أحد حواراتها، منشور فى آخر هذه الطَّبعة من الرِّواية: أحببت هذه الأسرة لأنَّها منحتنى الحُبَّ والدَّعم فى عالم بارد مظلم.
من مظاهر المَوضوعيَّة أيضًا، فى هذا التَّناول الرِّوائي، أنَّ الكاتبة لم تُثبت الشَّر الكامل فى تَصرُّفات الخوميني، بل أثبتت له محاولته إنقاذ إيران من الشَّاه، وتغييره للتَّاريخ، لكنَّه لم ينجح فى إنقاذ الثَّورة من السُّقوط فى براثن دِيكتاتوريَّتها، بدعوى إنقاذ الإسلام من أعدائه! بل، فى إجابة عن سؤال لأحد القُرَّاء عمَّا إن كانت تبغض الخوميني، قالت: كان الخوميني مسئولًا عن الفظائع التي ارتُكبت خلف تلك الأسوار، كان مسئولًا عن وفاة جيتا وترانه وسيرس وليلى ومينا، وغيرهم الآلاف، رغم ذلك لم يسعدني خبر وفاته، بل أشفقت عليه، فما الفائدة من إصدار حكم على شخص مَيِّت؟ كنتُ على يقين من أنَّ الشَّر داخله لم يكن خالصًا، مثل علي، فقد سمعت أنَّه كان يستمتع بالشِّعر، بل وينظمه، لقد غَيَّر العالم، لكن أحدًا لن يدرك عمق ذلك التَّأثير إلى أن يَتسنَّى للتَّاريخ الحكم على أفعاله ونتائجها بعد فترة مناسبة. دعوتُ لأراوح من فقدوا حياتهم بعد الثَّورة أن ترقد في سلام، ولعائلاتهم أن تجد الشَّجاعة والقُوَّة اللازمتين لاستمرار الحياة، وأن تكون إيران بلدًا أفضل.
لا يعنى ما تَقدَّم من كلام لطيف عن الخوميني أنَّ أمور الحكم الإسلامي الشِّيعى فى إيران على ما يرام، وإنَّما نقصد التَّأكيد على هذه المَوضوعيَّة التى يجب أن يَتحلَّى بها الرِّوائيُّ أثناء تناوله لتاريخ ما تعارضت فيه الآراء، وتشابكت بسببه الرُّؤى.
السُّؤال: لماذا كتبت مارينا نعمت هذه الرِّواية، أو السِّيرة، بعد سنين طويلة من الصَّمت تبعت خروجها من المعتقل وهجرتها إلى كندا؟
أعلنت الكاتبة سببين، وتركت للقُرَّاء الكشف عن العديد من الأسباب الأخرى قد تكون أوقع وأعمق، أَوَّلهما: لتَتخلَّص من هذا الماضى الذى دَسَّته فى صدرها، لا يعرف بعض أجزائه غيرها، ولا يَتوقَّف عن وخزها أبدًا، رغم أنَّها، على حد تعبيرها، كانت تشعر أنَّها فى غيبوبة، وأنَّها أفاقت فور البدء فى الكتابة عن هذه التَّجربة. ثانيهما: للإشارة إلى ما يحدث فى معتقلات إيران بعد الثَّورة من تعذيب وعنف، خَاصَّة بعد وفاة صَحافيَّة كَنديَّة إِيرانيَّة اسمها زهرة كاظيمي داخل معتقل إيفين فور تعذيب وَحشيٍّ واغتصاب لا آَدميٍّ.
مراوحة الأسلوب، فى مناطق عديدة من الرِّواية، بين الصِّياغة الأَدبيَّة البديعة، والسَّرد الجامد الذى لا يهتم سوى بذكر الحقائق قد يسبب بعض الضيق لقارئها؛ كما أنَّ ضجر الكاتبة من الكتابة نفسها بدا واضحًا فى مواضع عديدة، فنقرأ صياغات عَاديَّة جِدًّا لمواقف غير عَاديَّة، لتجرى لاهثة، خَاصَّة فى الثُّلث الأخير من العمل، حتَّى إنَّنا نسمع صوتها وهى تصرخ زهقًا: أريد أن انتهي.

إرسال تعليق