U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد


 الأمَّة الإسلاميَّة بخير، مؤثِّرة في محيطها العالمي، حيَّة على الدَّوام، غير قابلة للفناء، ليست قاصرة على السَّلفيِّين، أو المتصوِّفة، أو الشِّيعة، أو أي مذهب من مذاهبها العديدة؛ تحوي كلّ هذا المزيج الضَّاج بزخم الحياة.

زخم الحياة "كوكتيل" من صراعات ومسالمات، اختلافات وتوافقات، فوق وتحت، يمين ويسار، نور وظلام، سالب وموجب؛ تناقضات تتفاعل لتنتج الحركة.

الحياة قوَّة وضعف بصيران، بينما الموت قوة وضعف عمياوان.

تبغددت الأمَّة الإسلاميَّة قرون مديدة في زهوة القوَّة، فرضت سيادتها رئيسة على العالم المتحضِّر، لها وعليها، في إطار القوَّة البصيرة، لا العمياء. ورزحت في ضعفها منذ مئتي سنة تقريبًا، بعد تكالب الأمم عليها تكالب الأكلة "الطِّفسين" على قصعة ثريد مغطًى بـ"هُبر" اللحم؛ قطَّعوها تقطيعًا، وفتَّتوها تفتيتًا، مع ذلك بقيت نابضة بالحياة، عصيَّة على التَّطبيع، متمسِّكة بجذورها، محافظة على تميُّزها الجوهري، والشَّكلي، لأنَّ ضعفها بصير، ليس أعمى.

القوَّة البصيرة هي القوَّة النَّابعة من الذَّات، لا الأدوات. والضَّعف البصير تتعلَّق أسبابه بالأدوات، لا الذَّات.

قوَّة الذَّات، أو ضعفها، مرهون بما هو روحاني، لا مادِّي.

جذور الأمَّة الإسلاميَّة ضاربة في فكرة الحريَّة، فلا إله إلا الله، الله هو المطلق في الإسلام، لا يمكن تَخيُّل كينونته، ولا الإحاطة به، أو بطرف منه، مهما حاول العقل ذلك؛ ليس كمثله شيء.

عبادة ربٍّ ذي صفات مطلقة بمثابة تدريب عميق على ممارسة الحريَّة القراح.

ولخص أحد الفاتحين، من الصَّحابة الأفذاذ، غاية هذه الأمَّة في بضع كلمات: إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.

جملة تُحدِّد بجلاء معالم الطَّريق إلى الحريَّة. لا السَّعي لإيجاد أسواق إقليميَّة كبرى تربو فيها قيمة العُملة لتتحوَّل إلى إله اقتصاديٍّ يتقرَّب إليه العباد زلفي في البنوك!    

تعظيم المادَّة أقصر طريق إلى العبوديَّة.

يُميِّز الأمَّة الإسلاميَّة تمسُّكها بدينها هاديًا نَيِّرًا في مختلف دروب الحياة، خاصّها الإنساني، وعامّها المجتمعي، سلوك الفرد، وسياسة الحكَّام.

"الغباوة" طبع يُميِّز أمَّة الإسلام أيضًا! إذ أنَّ طريق الرِّيادة واضح لرحلتها، منصوص عليه في كتبها المقدَّسة، لكنَّها تتنكَّب هذا الطَّريق إلى آخر يرمي بها خلفًا لتتأخَّر فترات زمنيَّة طويلة عن ركب التَّقدم.

جاء الإسلام رافضًا الإمَّعة؛ هذا الشَّخص المنقاد لما يعرِض له دون بيِّنة، آمنًا بقطيعه، يُحسن إن أحسن، يُسيء إن أساء! يُجل مقولات الآباء الأوَّلين حد التَّقديس، مبلغ دفاعه عن أي رأي يعتنقه أن يقول: وجدنا آباءنا على ذلك.

منهج الإمَّعة منهج موات، يؤدِّي إلى تكلُّس المجتمع وركوده.

جاء الإسلام حاضًّا على التَّفكير.

التَّفكير عملٌّ عقليٌّ قائمٌّ على الرَّفض قبل القبول، الشَّك قبل اليقين، النَّفي قبل الإثبات، يقوم به الإنسان نفسه، لا نائب عنه ولا وكيل ولا كفيل، فكل جمجمة وُجدت في هذا العالم مُزوَّدة بأداة تفكير تخصّها؛ من فروض الإسلام استعمال هذه الآلة المدهشة، الآلة الآية، العقل. 

التَّفكير نقد. النَّقد سدّ خلل، ترميم، ومن ثمّ تجديد.

كل منهج فكري، أو عقائدي، لم يُنتج برنامجه النَّقدي إلى زوال، أو في أحسن الأحوال إلى ضعفٍ وهوان.

البرنامج النَّقدي الذي رافق الإسلام هو "الاجتهاد"، عندما فعَّلته الأمَّة الإسلاميَّة سادت بقيَّة الأمم. وذلَّت مُذ "ضربت الطَّرشة" تجاهلته، وركنت للقديم المتهالك تُقدِّسه كما لم يُقدِّس "أجدعها" إمَّعة كلام أتفه أبٍّ من الآباء الأوَّلين!

قيل إنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، شخصيًّا لا أشكُّ في صحَّة هذه المقولة. لكن أيّ إسلام؟

هل هو الإسلام الذي جاء به نبيُّنا "محمد"، أم الإسلام الذي راكمه الفقه على مدى مئات السِّنين؟

إسلام نبيُّنا فاعلٌّ متمرِّدٌّ معظمٌّ للإنسان، لا قداسة فيه لغير الله، فهمه المسلمون الأوائل هكذا، فكان طبيعيًّا أن يعلن بعض الصَّحابة تذمُّرهم من بعض تصرُّفات النَّبي، صلوات الله عليه وتسليماته، درجة إقدام "الفاروق" على جذبه من قميصه، رافضًا رغبة النَّبي في الصَّلاة على كبير المنافقين، حتَّى أنَّ ياقة القميص تركت أثرًا في رقبته الشَّريفة من شدَّة الجذبة، ومع ذلك لم يخرج أيٌّ من الصَّحابة لينهر "عمر بن الخطَّاب" على سوء أدبه مع "رسول الله"، كما لم يعلن النَّبي فسق أو كفر صاحبه لهذه الإساءة، بل قال: لو كان نبيٌّ من بعدي لكان "عمر".

اتَّسموا بعزَّة الإسلام المتمرِّد، وضعوا الله وحده في بؤرة القداسة ففتحوا العالم عريق الحضارة في سنوات قليلة، وأقاموا بدورهم حضارة عريقة أيضًا.

هذه ثمار الإسلام الذي ارتضاه "محمد بن عبد الله" لأمَّته. بينما ثمار الإسلام الذي ارتضاه الفقهاء لنا مُرَّة، معطوبة، لأنَّ إسلامهم يحضّنا على كسر شوكة التَّمرد، ترويض القلب على الذِّلة والخنوع وقبول الظُّلم، تقديس الأشخاص، وأنَّ الدُّنيا ليست للمسلمين مثلما لن تكون الآخرة للكفَّار!

في الآخرة سيدخل الفقراء الجنَّة قبل الأغنياء بخمسمائة عامًا كاملة! و"يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم". وإيَّاك والتَّفكير خارج القفص المحبوس فيه عقلك، خارج القفص جوارح ستفتك حتمًا بعقلك "العصفوريّ" الضَّعيف، فـ"لم الدُّور"، و"اتنيِّل على عينك" وعش غبيًّا مؤمنًا بأنَّ الغباء، أو التَّفكير على القضيبين المحدِّدين لنُهيتك، هو ما سيضمن لك حسن الخاتمة. واحذر التَّأمل في ما ثبتت عليه الأفكار العقائديَّة، فقد يؤدِّي بك التأمُّل إلى الاستنكار، ما قد يجرّك إلى الإنكار، و"إنكار ما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة كفر"، مع أن هذا المبدأ نفسه لو بقي راسخًا في قلب "أبو بكر"، أو "عمر"، أو "علي"، أو "عثمان"، أو غيرهم ممَّن كانت عقيدتهم عبادة الأوثان، لما تركوها إلى الإسلام! ولا تعترض على الأئمَّة أو المشائخ، فلحومهم مسمومة، أو ملغومة! وإنما إذا سمعت لغوهم سارع بتقبيل جماجمهم المبروكة، وإن شئت أحسن الإيمان ادَّهن ببصاقهم!

إنَّه إسلام غير الذي جاء به نبيُّنا واعتقده الأوائل فرفعوا الأمَّة إلى علِّيين، بل إسلام الأواخر الذين دفعوا بنا إلى أسفل سافلين.

ضعف هذه الأمَّة بصير، لذلك ستنهض من كبوتها لا محالة، ستحاسب الفقهاء والمشائخ الإمَّعات، مقدِّسي الآباء الأوَّلين، ستمتن لـ "مجتهدين" يضعون العقل في المكان الذي اختاره الله له، المكان الأكرم من جسد الإنسان، أعلاه، يُعملونه مقياسًا لا يخيب، يستخدمونه طريقًا منيرًا هاديًا إلى الله الخالق، مُعظِّم الإنسان. وقتها لن تخرج صديقتنا "الفلانيَّة"، ولا صديقنا "الفلاني"، ولا عدونا "العِلَّاني"، ولا "الفلتكاني" نصير جمعيَّات الرِّفق بالحيوان، لتجعر حناجرهم يوم الأضحى بكاءً على الخراف، مُطلقين على طقس إنسانيٍّ تعبديٍّ بديع مصطلح "مذبحة"، قاصدين ما يحمله هذا اللفظ من معنى الإهلاك والإفناء، في حين ترى عيونهم أنه لا إفناء هناك ولا إهلاك، فالمسلم لا يذبح "الخروف" لمجرَّد الاستمتاع بالذَّبح ثم يرمي بجثَّته في صندوق "زبالة"، بل يذبحه ليحوِّل لحمه، مجَّانًا، إلى رسائل إنسانيَّة سامية، تحمل الحبَّ والودَّ والتَّرابط والرَّحمة.

ثم إن عدد الخراف، مع كل هذا الذبح، في زيادة مطَّردة، لا إلى انقراض.  

لكنَّه ضعف الأمَّة الإسلاميَّة جرَّأهم على الابتزاز، بينما قوَّة غيرها أخرسهم عن توجيه اللوم إليها بينما تستمتع بأحقر ما يمكن أن يمارسه بشريٌّ ضدّ الحيوان، عندما يلهو به "الميتادور" موجِّها سهامه، بأناة ودقَّة، إلى قلبه، كي يقتله قطعة قطعة منتشيًا بصيحات الجماهير المتحضِّرة! تخرس ألسنتهم عن آلاف المجازر التي تذبح يوميًّا عشرات الآلاف من الأبقار، وغيرها، تبيع لحمها لمن يستطيع الدَّفع، فإذا لم تجد من يدفع حدَّ تحقيق الرِّبح الفاحش ألقت باللحوم في المحيط، وليذهب الحيوان، ومن قبله الإنسان الفقير، إلى الجحيم، لأجل الحفاظ على سعر السُّوق، وقيمة العملة! كما تخرس ألسنتهم عن الطُّقوس التَّعبدية التي تقوم فيها العديد من الأمم الأخرى بذبح مختلف الحيوانات والطُّيور تقربًا إلى الله، أو إلى آلهتهم!

الطَّرف المهتز بالصَّدمة الحضاريَّة غاضّ عن كل هذا، ومع ذلك تبقى هذه "الهوجة" الحوليَّة، ضد أضحية المسلم تحديدًا، أحد أدلة صحَّة ما بدأنا به هذه الورقة؛ عندما قلنا إنَّ الأمَّة الإسلاميَّة مؤثِّرة في محيطها العالمي، حيَّة على الدَّوام، غير قابلة للفناء.

لا أحد يقف ليُبكِّت ميتًا، أو يهتم بـ "التَّنكيد" على هملٍ لا قيمة له.

 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة