انقضى نهار يوم 18 ديسمبر من عام 2010، كان هذا هو النهار
الأخير من نهارات مهرجان "طيبة" الثقافي الدولي الثلاثة.
وفي الليل كانت الجلسة الختامية التي حضرها السيد اللواء
الدكتور "سمير فرج" محافظ "الأقصر"، وقتها، وقد جلس في منتصف المنصة،
وعن يمينه جلس كل من رئيس اتحاد كتاب "مصر"، الأديب "محمد سلماوي"،
وأمين عام الدورة الثالثة من المهرجان، الشاعر "مأمون الحجاجي"، وعن يساره
جلس كل من المتحدث باسم الضيوف العرب، لا أذكر اسمه، والمتحدث باسم الضيوف الأفارقة،
أيضا لا أذكر اسمه.
كان نجاح ثورة أهل "تونس" هو حجر زاوية أي حديث
جرى بين الأدباء المشاركين في المؤتمر، وكان هذا النجاح محل إعجاب كبير، وتمنى كل أدباء
"مصر" لو يحدث في وطنهم مثل ما حدث في "تونس"، لكن الأمر لم يتجاوز
الأمنيات أبدا، خاصة وأن رد فعل النظام المصري، وقتها، على نجاح ثورة "تونس"
إعلانه احترام إرادة الشعب التونسي، كما شدد على أن "مصر" ليست "تونس".
فعلا.. "مصر" ليست "تونس"، لأن
"تونس" لم يعزها سوى احتراق شخص واحد كي تثور، بينما كان قد احترق في
"مصر" أكثر من خمسة أشخاص ولم ترتعد مجرد ارتعادة طفيفة.
كانت، هذه المفارقة، محل تندر المشاركين في المهرجان، حتى
قالوا: إن المسألة ليست أكثر من مجرد تحقيق النسبة وستنفجر "مصر". فـ"تونس"
ثمانية مليون نسمة، بينما "مصر" ثمانين مليون، "مصر" تحتاج لاحتراق
عشرة أشخاص، ولم يكن قد احترق سوى خمسة فقط!
وهناك من قال: إن "مصر" لن تحرك ساكنا ولو احترق
ألف شخص.
وقالوا: صدق القدماء عندما وصفوا أهل "مصر" بأنهم
عبيد لمن ملكهم.
وقالوا: إنه قد أتى، في قول مأثور، أن الرخاء قال إني ذاهب
إلى "مصر". فقال الذل وأنا معك.
وبلغ التهكم، والتندر، الزبى، وجرت أحداث الجلسة الختامية
لمهرجان "طيبة" الثقافي الدولي، ومن فعالياتها قراءة توصيات المهرجان، أتت
فقرة فيها تحيي ثورة شعب "تونس" الرشيدة، وعلا صوت التصفيق الشديد.
وكان همي، وقتها، أن أراقب السيد المحافظ، في هذه اللحظة،
بصفته ممثلا للنظام المصري في "الأقصر"، وأدهشني أنه كان يصفق بحماسة شديدة،
نعم، كان يصفق بكل ما أوتي من قوة وقد ابتسم ابتسامة عريضة، ولقد أسعدنا هذا جميعا،
لكن بالتأكيد، بالتأكيـد، بالتأكيــد، ما كان للسيد المحافظ "سمير فرج" أن
يرحب، كل هذا الترحيب، بنجاح الثورة التونسية، لو كان الله، عز وجل، منَّ عليه بالقدرة
على الاطلاع علي بعض الغيب، وعرف أنه بعد ما يقارب الأربعين يوما سيكون الثوار، في
"الأقصر"، في حالة اشتباك عنيف مع قوات الأمن المركزي التي أحاطت بمبني المحافظة
، وأنهم سيحاولون حرق استراحته، وأن أهل "الأقصر" سوف ينتفضون عليه، بصفة
شخصية، بسبب مظالمه التي دهستهم في سبيل إنجاح خطته الهادفة لتطويرالمدينة كي تصبح،
فقط، قبلة السياح دون الاهتمام بأحوال أهلها.
بل سيتطور الأمر، بعد ذلك بأشهر قليلة، ليتم محاكمته في إحدى
قضايا الفساد الشهيرة بالمدينة.
قضيت نهار 27 يناير 2011م كالمعتاد، فيما بين أعمالي و عيالي،
لم يكن هناك ما ينذر بالزلزال الذي سيقع بعد صلاة "الجمعة" من الغد، كنت
أتابع ما يجري في "السويس" من مظاهرات، لكن الأمر بالنسبة لي كان شبيها بما
جرى من أحداث في مدينة "المحلة" قبل حوالي سنتين من هذا التاريخ، وكنت أتابع
اضطرابات "القاهرة" فأراها شبيهة بما هو جار فيها من حراك سياسي عنيف، مستمر
منذ أكثر من سنتين، لا يتمخض عن شئ فعلي، الذي يحدث إذن ليس أكثر من استمرار حالة اضطرابات
تنتاب "مصر" منذ فترة.
وفي الليل، وبعد أن صليت العشاء، ذهبت كالمعتاد لقضاء بعض
الوقت مع صديقي الشاعر "حسين القباحي"، في دكانه الذي يبيع فيه الأدوات المكتبية،
والهدايا، ولعب الأطفال، وكان يجلس معه ابن أخت له اسمه "عبد الله"؛ كان
ما يجري في "القاهرة"، و "السويس"، محور حديثنا، وقلت إن الأمر
يحتاج لثورة في كل بلاد "مصر"، لا في مدينة أو مدينتين. وقال "حسين
القباحي" إنه في يوم ما ستجتاح الثورة كل بلاد "مصر". لكن "عبد
الله" قال: غدا ستخرج مظاهرة من مسجد "صلاح الدين".
ما قاله "عبد الله" كان مفاجئا تماما، ومدهشا تماما،
حتى إنني، ولأول وهلة، لم أصدق، وقلت لـ"عبد الله": أتتكلم جادا؟! أهناك
مظاهرات ستخرج غدا في "الأقصر" ؟!
قال "عبد الله": نعم.. هناك مظاهرة ستخرج من مسجد
"صلاح الدين".. وأنا خارج فيها.
قلت: وأنا سأصلي الجمعة في مسجد "صلاح الدين".
تركت "حسين القباحي" وذهبت إلى البيت، وحول طعام
العشاء جلست مع زوجتي و أولادي الثلاثة، كنا نشاهد التلفاز ونحن نأكل، والقنوات الفضائية،
الإخبارية، تعرض ما يحدث في "السويس"، و"القاهرة"، من اضطرابات.
قلت: غدا ستخرج مظاهرات في "الأقصر".
هتف "محمد"، أكبر ابنائي: والله يا بابا!؟ من أين ستخرج؟!
قلت: من مسجد "صلاح الدين".
"محمد" فتى يافع، عمره يقترب من السادسة عشرة،
هتف بحماسة أكبر: أنا سأخرج في هذه المظاهرة.
"حنان"، أم "محمد"، كانت قد رأت الناس
الذين قتلوا في مظاهرات "تونس" فصرخت في وجه ولدها: إياك تخرج في مظاهرات.
ثم زغرت لي بعينيها وقالت: وانت كمان إياك تخرج في مظاهرات.
ازدردت اللقمة التي كنت آكلها وقلت: إن وجدت مظاهرة سأخرج
فيها ولو انقلبت السماء على الأرض.. و"محمد" أيضا.
ارتخي صوت "حنان" أمام إصراري، وإن كان قد حمل
نبرة اعتراض قوية وهي تقول: طيب أخرج انت.. لكن الولد لأ .
ضحكتُ، وقلت: إذن أنا لست مهما.
قالت: أنت تستطيع التصرف مع ما سيجري بحكمة.. لكن "محمد"
طائش، وقد يرمي نفسه في مهالك المظاهرة.
قلت: أقصي ما سيحدث لـ"محمد" هو الموت، وإن حدث
فهل هناك أجمل من أن يموت ولدي شهيدا في سبيل الحرية والكرامة؟!
وقلت، بينما دموع خفيفة طَلَت مقلتي "حنان": لكن
إن عاش.. ونجحت المظاهرة.. وانقلب الأمر إلى ثورة.. ونجحت الثورة.. فسيظل عمره كله
يفخر بنفسه.. سيحكي في مجالس السمر مع أقرانه عنها.. وسيحكي عنها مع أولاده.. عندما
تصير "مصر" أجمل بلاد الله سيكون بمقدوره أن يستلقي على قفاه، وهو غارق في
الضحك، ويقول أنا من جعلت "مصر" أجمل.
قلت لأم "محمد": هااه.. هل مازلت تريدين حرمانه
من كل هذا الشرف؟!
هذه جمعة الغضب، وما إن قال إمام مسجد "صلاح الدين":
السلام عليكم.. السلام عليكم. منهيا صلاة الجمعة، حتى هب أغلب المصلين إلى خارج المسجد،
وبالفعل كانت هناك مظاهرة، ناس يزيد عددهم عن الألف، تحركوا من أمام المسجد إلى شارع
"التليفزيون"، وهو من أكبر شوارع "الأقصر"، يسيرون بسرعة وكأنهم
يشيعون ميتا جثته منتنة.
والهتاف الوحيد هو: " الشعب يريد.. إسقاط النظام".
ومع كل متر، تقطعه المظاهرة، كان العشرات من الناس ينضمون
إليها، كنت أهتف بأعلي صوتي، لكن أين صوتي؟!
من يجاوروني في المسيرة كانوا أيضا يهتفون بأعلى أصواتهم، عروق رقابهم النافرة
تؤكد هذا، لكن أين أصواتهم ؟!
ثمة صوت واحد يرعد، صوت خارق، صوت جبار، فلق جدران الصمت،
وخرج يمزق سنين الذل و المهانة: "الشعب يريد.. إسقاط النظام".
أصواتنا كآحاد انمحت، وتجلي هذا الصوت المهيب لكائن بالغ
الضخامة، والعِظَم، يمتد متماهيا في كل بر "مصر" أسمه "الشعب".
أنظر إلى الناس حولي، ليست هذه وجوه أهل "الأقصر"
التي أعرفها، الوجوه المخادعة، التي تتلون بحسب ألوان أوراق العملة الصعبة، الوجوه
المستكينة لأي قهر طالما إنها توهب أي نوع من أنواع الحياة، و لو كان رديئا، الوجوه
التي أراها حولي يكاد الدم يتفجر من عروقها، ولا يكاد الدم يتفجر من العروق إلا بدفع
قلب قوي، ولا تقوى القلوب إلا عندما تبرأ من الخوف، والناس ملأوا الشوارع يهتفون:
"ارحل.. ارحل.. ارحل".
أي غضب هذا الذي جعلني أطيح بذراعي في الهواء، بقبضة مضمومة،
وأزعق بأعلي صوتي: "باااطل".
كان هناك شاب محمولا علي كتفي آخر يهتف: "حسني مبارك".
ونحن نردد خلفه "بااطل".
ـ "جمال مبارك"... "باااطل".
ـ "الحزب الوطني"... "باااطل".
كنت حريصا علي أن أتابع نمو المظاهرة، وكانت في منتصف شارع
"التليفزيون" قد جاوز عدد المشاركين فيها الخمسة آلآف، و أثلج هذا قلبي قليلا،
فـ"الأقصر" مدينة ذات طابع خاص في كل شيء، وأكثر خصوصية فيما يخص طبائع أهلها،
فهم يعيشون على السياحة، فيكرهون كل ما قد يكون سببا في زعزعة استقرار أكل عيشهم، وهذه
المظاهرات ستكون بالتأكيد عامل قلق للسياح، وسيتهدد المستقبل، ولقد اعتقدت، طويلا،
أن أهل "الأقصر"، بالذات، لن يتظاهروا إلا انتصارا لقضية سياحية، ومن هنا
كانت دهشتي، وحرصي على أن أتابع نمو المظاهرة، ومن حين لآخر كنت أرى ابني "محمد"
بين المتظاهرين، وكنت أنظر إلى وجهه فأحمد الله على أني لم أحرمه هذه السعادة الغامرة
التي غطته، لكني، في كل مرة كنت ألمحه فيها، أسأل نفسي: هل ستتجه المظاهرة إلى منطقة
مجنونة بالعنف والمواجهات مع الشرطة والأمن المركزي؟
وأسأل نفسي: هل من الممكن أن يصيب مكروه ابني الذي سررت به،
ابني البكر، ابني الذي قارب طوله طولي، واشتد ساعده، واقترب من أن يكون متكئي؟
رفعت وجهي إلى أعلى ونظرت إلى العمائر التي اصطفت على جانبي
الشارع المتسع، كانت البلكونات ممتلئة بالناس الذين يلوحون بأيديهم، ويلوحون بالأعلام،
و كذلك كانت أسطح العمائر، قلت لنفسي: لو حدث مكروه لـ"محمد" ستموت أمه.
علا صراخ الناس: يا "مبارك" يا جبان.. يا عميل
الأمريكان.
هذه المقطوعة من الهتاف هي التي ضعضعت روحي.. "يا مبارك
يا جبان.. يا عميل الأمريكان".....
"مبارك" الذي قاد السلاح الجوي، في ملحمة أسطورية
صنعت عزة "مصر" ومجدها الحاضر.
"مبارك" الذي تولي رئاسة "مصر" وقد انقطعت
علاقاتها بأغلب الدول العربية فأعاد كل هذه العلاقات.
"مبارك" الذي رفع علم "مصر" علي آخر
قطعة من أرضها عادت إليها في عهده، أقصد "طابا".
إنجازات ضخمة للرجل فما الذي حوله إلي عميل أمريكي؟!
ما الذي وضعه من بعد رفعة و أذله من بعد عز؟!
ما الذي حضه على أن يفتح بوابة ضرب "العراق"؟!
ما الذي جعله يري دماء أطفالنا في "لبنان"، و"فلسطين"،
وفي كل مكان عربي، أو مسلم، ثم لا يحرك ساكنا؟!
ثم ما الذي دفع به كي يشارك في إراقة دماء أطفالنا، وأهلنا
في "غزة"، لما سمح لـ"إسرائيل" بكل قوتها العسكرية أن تضرب
"غزة" لثلاثين يوم متصلة؟! "غزة" التي أهلكها حصاره هو نفسه لها؟
إذن يستحق "مبارك" هذا الهتاف الذي انطلق هادرا:
يا "جمال" قول لأبوك.. الصعايده بيكرهوك.
المظاهرة احتشدت تماما، وأكثر من عشرة آلاف متظاهر يسيرون
حثيثا إلى اتجاه يبدوا لمنظميها معلوما تماما، انتشيت من ضخامة العدد فتذكرت
"القباحي"، طلبته على هاتفي النقال فجاءني صوته نشيطا: أين أنت؟
قلت: أنا في المظاهرة.. و أين أنت؟
قال: أنا في البيت.. المظاهرات في كل بلاد "مصر"..
وأنا أتابعها عبر "التلفاز".
كان الصوت غير مسموع بسبب الهتافات، وكنت في نفسي أقول: أن
تشارك في صنع الثورة أفضل جدا من أن تتابعها عبر "التلفاز"!
لم تكن المظاهرة قد عبرت، حتى هذه اللحظة، أي تجمع أمني،
ولم نلحظ وجود أي شرطي في أي مكان، حتى عساكر المرور اختفوا، لكن ها نحن نتجه إلى مبنى
مديرية الأمن في شارع "المدينة المنورة"، وأحسست بخطى الناس تتسارع، وعيونهم
تجحظ نحو المبني المهيب، وكأنهم قد قرروا، بدون سابق اتفاق، أن يقتصوا لأنفسهم من هذا
المبني، وارتفع وقع الهتاف إلى غاية المنتهى: الشعب يريد.. إسقاط النظام.
ورأيت "محمد"، من بعيد، يهتف مع الهاتفين، ورأيت
مبني مديرية الأمن يقترب، ورأيت خطرا يدنو، ورأيت كأن "محمد" قد اخترقت رأسه
رصاصة غادرة، وسقط بين الأقدام "لا.. لا.. يكفي أن أسير أنا في المظاهرة .. على
الأقل لو مت سأعرف لماذا مت.. لكن محمد ما زال صغيرا.. لعله الآن يمشي وهو لا يفهم
ما الذي يجري بالضبط.. لعله يظنها مظاهرة كتلك التي ملأت الشوارع لما فاز فريق الكرة
بكأس إفريقيا.. فهل أتركه يموت ويفقد روحه لأمر ربما لا يفهمه جيدا؟ يجب أن يعود محمد
إلي البيت، يجب أن يعود فورا".
كان "محمد" قد غاب عن ناظري، فأخرجت هاتفي النقال
و طلبته، رد: نعم يا بابا.
ـ يا "محمد".. خلِّي بالك من نفسك.
وأغلقت الخط.
"نحن الشعراء.. أفراس خضراء.."... ثم هذه الأفراس
تتحرك فقط على الأوراق، هذا ما رسخ في ذهني من قصيدة جميلة لـ"فتحي عبد السميع".
والشعراء أدباء، والشعراء، في القرآن، في كل واد يهيمون،
ثم الأهم إنهم يقولون ما لا يفعلون، ولا يتحدث عن المثل، والفضائل، أحد بقدر ما يتحدث
عنها الأدباء، وعند الجد تبدو الحقائق المخزية، ها أنا الذي أملأ الدنيا صراخا بأنه
لن نتحصل على أي شيئ جميل إلا بالتضحيات كدت أضن بولدي، كادت تغلبني أبوتي، ونسيت أنني
أديب، رائد القوم إلي أبواب الحضارات، الذي ينغرس الشوك في قدميه فلا يمنعه من مواصلة
الطريق، معلما الناس أن الآلام لا يجب أن تكون معوقة، أنا أديب، وهذه منزلة أرفع مما
يظنون، وحتى أبقى هناك لابد من التضحية، وإذا كان "محمد" لا يفهم ما يفعله،
الآن، ومات، فيوما ما يمكن أن أجلس على قبره، وأشرح له لماذا هو مات.
لماذا غلبتني الدموع، وملأت عيني؟
هل لأني، في هذه اللحظة، أرى ما لم أتخيل يوما أن أراه؟
فالناس يلقون مبني مديرية الظلم، والقهر، بالحجارة، وهم يهتفون:
حرية.. حرية.. حرية.
أم لأني تخيلت ابني، البكري، وقد فارقته الحياة؟
في هذا الزخم اشتاقت نفسي إليه، وتمنيت لو أراه، حتى أنظر
إليه جيدا، وأملأ عيني بملامح وجهه، أين هو؟
الحجارة تمطر مديرية الأمن، وأنا أبحث عن "محمد".
يهيأ لي أني، طوال خمسة عشر عاما أو يزيد قليلا، لم أحفظ
تماما ملامح وجهه، حتى ابني الثاني "مصطفى"، و كذلك "عبد الله"،
لكن "محمد" من يلح علي الآن، لأنه هو الذي يواجه الخطر، ثم أين أدباء
"الأقصر"؟
بحثت جيدا، لا أحد، سوي أديب شاب اسمه "شعبان القاص"،
يشق طريقه نحو كتابة القصة، وكان على ما بدا لي أحد منظمي هذه المظاهرة، وكان
"القاص" من الإخوان المسلمين.
لم ينصرف الناس، عن مبنى مديرية الأمن، إلا عندما علا هتاف
منظمو المظاهرة: سلمية.. سلمية.. سلمية.
و ما هي إلا بضع عشرات من الأمتار حتي تكرر ما حدث لمبنى
مديرية الأمن مع مبنى مركز الشرطة، وتحطم زجاج بعض سيارات الشرطة، وعلا أيضا هتاف:
سلمية.. سلمية.
وانصرفت المظاهرة لتكمل طريقها، وكان طريقها يقطع منطقة غاية
في الأهمية بالنسبة لـ"الأقصر" ، شارع "خالد بن الوليد" ، الشارع
المكتظ بأهم الفنادق وأكبرها، وفيه فندق "إيزيس"، الذي كان "حسني مبارك"
يفضل النزول فيه عند زيارته للمدينة.
كان السائحون قد ملأوا شرفات الفنادق، يصورون بكاميراتهم،
وبأجهزة المحمول، الذي يجري أمامهم، يملكون من الثقافة، والوعي، ما يجعلهم يدركون أن
ما يجري أمامهم هو حدث تاريخي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وأنه لايجب أن يمر دون تسجيل،
ليفخروا هناك، في أوروبا، أو أي بلد في العالم، بأنهم عايشوا هذا الحدث، وأنهم كانوا
جزءا من الصورة، ولو كمتفرجين.
وعندما مرت المظاهرة بين الفنادق علا الهتاف: فريدم.. فريدم. موباراك.. جو.. جو.
تفاعل الأجانب مع المتظاهرين، وأخذوا يشيرون إليهم بعلامة
النصر ويضحكون، وكأن منظمي المظاهرة قد خافوا أن يعتدي المتظاهرون على فندق "إيزيس"،
الذي كان "مبارك" يفضله، ويقال إن هناك مشاركة في رأس مال هذا الفندق بين
"جمال مبارك" و"محمد العزب" رئيس مجلس إدارة فنادق "إيزيس"،
فأخذوا يهتفون: سلمية.. سلمية.
وبالفعل لم يتم الاعتداء على أي فندق، لكن المظاهرة كانت
قد وصلت إلى مجمع المحاكم، فأخذ البعض يقذفون المبنى بالطوب، في رمزية إلى فساد القضاء
في عهد "مبارك"، فأصيب زجاج إحدى سيارات المجمع، لتعلو من جديد صيحات: سلمية..
سلمية.
لكن أين "محمد"؟!
كان قد مضي وقت طويل دون أن أراه، طلبته على هاتفي فلم يرد،
وخفق قلبي، وعندما علا رنين هاتفي رفعته إلى أذني متلهفا لسماع صوت "محمد"،
لكن كان "القباحي" هو المتصل: ما الأخبار عندك؟
قلت: جميلة جدا.. المظاهرة كبيرة.
قال: كم عدد المتظاهرين تقريبا؟
قلت: يفوق الثمانية آلآف.. ربما عشرة.
قال مندهشا: معقول؟!
قلت: نعم.
قال: أين أنتم الآن؟
قلت: على "الكورنيش".. نحن متوجهون إلى مبنى المحافظة.
كانت قد تراءت لي أعداد غفيرة من الأمن المركزي تسد الطريق
إلى المحافظة، كانت هذه أول مرة نرى عساكر الأمن المركزي منذ بدأت المظاهرة في التحرك.
كان هدف المظاهرة الوقوف أمام مبنى المحافظة، بصفته المبنى
الذي يمثل سلطة النظام في "الأقصر"، وإعلان الرغبة في إسقاط هذا النظام من
هناك، لكن بظهور هذا السياج الأمني، الكثيف، تأكد للمتظاهرين أنهم سوف يُمنعون من تنفيذ
هذه الرغبة، فبدأ المتظاهرون بإلقاء الحجارة على عساكر الأمن المركزي، كان يمكن لهؤلاء
العساكر ألا يحركوا ساكنا، فالحجارة لن تؤذيهم وقد تدرعوا بدروع تحميهم تماما، لكن
فوجئ المتظاهرون بالقنابل المسيلة للدموع تنطلق كالمطر، وفوجئت بـ"محمد"،
وهو في الصف الأمامي بمواجهة العساكر، يقذفهم بالحجارة، ناديت عليه وقد انخلع قلبي
تماما، لكنه لم يسمعني، المشكلة أن الخطر لم يكن يواجهه من ناحية العسكر وفقط، وإنما
كان يحدق به من الخلف أيضا، من المتظاهرين أنفسهم، الذين كانوا يقذفون الطوب بغزارة،
ومن الحجارة ما كان عزمه ضعيف، لا يصل إلى العساكر، وإنما يسقط فوق متظاهري الواجهة.
اندفعت نحو "محمد" فرآني، صرخ ناحيتي: ابتعد يا
بابا.
رائحة الدخان المسيل للدموع لا تطاق، صرخت فيه: ابتعد أنت..
هيا ابتعد فورا.
عاد إلى الخلف متذمرا، وصارت هناك مسافة واسعة بين المتظاهرين
والشرطة، لكن الرشق المتبادل، بالطوب والقنابل المسيلة للدموع، اشتد، وضاعت بين أصوات
السعال، وأصوات فحيح القنابل وهي تتلوى على الأرض بينما تنفث بقوة سمها الدخاني الأبيض،
أصوات تزعق: سلمية.. سلمية.
في هذا الطقس الحربي نجح بعض العقلاء في إقناع قادة العساكر
ألا يطلقوا القنابل المسيلة للدموع، فعاد المتظاهرون، و بينهم أنا، إلى الاقتراب من
العساكر في محاولة لاقناعهم بإفساح الطريق لنا، ولما لم تفلح المحاولات دفع المتظاهرون
بأجسادهم صف العساكر، وعندما كدنا أن نخترقه انطلقت القنابل مرة أخرى، وإذا بأحدهم
يرش في وجهي دخانا أحمر من علبة تشبه علبة اسبراي الألوان، وإذا بي أشعر بنار تتأجج
في صدري، وبينما كان نفسي ينقطع اصطدمت بقدمي قنبلة الدخان المسيل للدموع، واختنقت
تماما.
أين "محمد"؟
أخذت أبحث عن هواء أتنفسه، لكن لم يكن هناك هواء، كانت هناك
نيران تخترق أنفي، وسمعت أذان العصر: الله أكبر.. الله أكبر.
ووجدت رصيفا، ووجدت شمة هواء، وأخذت أسعل وشلال دموع ينهمر
من عيني، لكن أين "محمد"؟
مظاهرات جمعة الغضب كانت هي المظاهرات الحاسمة، فبعدها صار
النظام كشجرة تم فصلها عن جذورها، هبة ريح لا أكثر سوف تسقطها، وهذا ما حدث، جاءت جمعة
الرحيل، ثم جمعة التحدي، ثم جمعة الصمود، شاركت في كل هذه المظاهرات، و كان معي
"محمد"، وفي إحدى هذه "الجُمع" كان معي أبي، الذي بلغ من العمر
نيفا وسبعين، وشارك أخيرا بعض من أدباء "الأقصر"، "حسين القباحي"،
و"مأمون الحجاجي"، و"محمد جاد المولى"، و"حشمت يوسف"،
كما شارك السلفيون، و كانت هذه عجيبة من العجائب، فأنا أعرف أن، بالنسبة للمنهج السلفي،
المظاهرات والخروج على الحاكم حرام، لكني رأيت صديقي "علي هريدي"، وهو طبيب
جراح، وسلفي، في قلب المظاهرات، يوزع موزا على المتظاهرين، فهل صارت المظاهرات، بما
تحمله من معنى الخروج على الحاكم، حلالا؟!
ثم سمعت بعد ذلك أن كبار مشايخ السلفية يحللون المشاركة في
انتخابات "مجلس الشعب"! وقد كانوا يحرمونها من قبل.
وسألت نفسي: أي حرام سوف يأتي عليه الدور ويستحل ؟!
وسقط رأس النظام .
في جمعة النصر، في المساء، جلست مع أسرتي، نظرت إلى
"محمد"، وقد سرق مني بعض النقود ذات يوم.
ــ هل تسرق بعد اليوم؟
بدا محرجا، لكنه هز رأسه بالنفي، وقال: لن أسرق بعد اليوم.
وكان قد كذب علي مرات.
ــ هل تكذب بعد اليوم؟
احمر وجهه خجلا، لكنه هز رأسه بالنفي، وقال: لن أكذب بعد
اليوم.
ضحكت، وقلت: وهل ستلوث ماء النهر؟
اندهشت "حنان"، وقالت: ماء النهر؟!
غرقت في الضحك، وقد بدا "محمد"، مثل أمه، غير فاهم،
لكني نظرت في عينيه طويلا، ثم سألته: لماذا شاركت في الثورة يا "محمد"؟
ابتسم "محمد" ابتسامة الحائر.
قلت، وأنا أتهيأ للتمدد على الكنبة، أمام "التليفزيون":
قل.. كي أكون إنسانا أجمل.

إرسال تعليق