أوقعني "سمير درويش"، رئيس مجلس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة"، وقت تاريخ كتابة هذه المقالة، في مأزق كنت أحب الوقوع فيه منذ زمن!
فلقد طلب منِّي كتابة مقالة تكون بمثابة إجابة عن سؤال،
في غاية الأهمِّية، عمَّا إذا كان قد ورد في النُّصوص المقدَّسة في
"الإسلام"، "القرآن"، و"الأحاديث الشَّريفة"، ما
يُوجِّه إلى نظام محدَّد من أنظمة الحكم، مرتكزاته مُثبَتة بآيات كريمة، وأعمدته
مغروسة في أقوال صريحة للنَّبي "محمَّد"، أم لم يَرِد؟
ولأنَّ الإجابة بـ"وَرَد"، أو "لم
يَرِد"، بالقطع، ستكون غير واقعيَّة مطلقًا، بالإضافة لسطحيَّتها التي لا
تليق بعمق هذا السُّؤال، الضَّاربة جذوره في التَّاريخ لأكثر من 1400 عام، وجدت
نفسي وقد وَقَعَت في "حيص بيص".
فأنا بالأساس أديبٌ، صنعتي كتابة المُبتدَع، أقلب
العالم، وما يبدو كحقائق رصينة، لأكتب تصوُّراتي عبر تخيُّل حالات وأكوان موازية،
هذا ما أحبُّه وأجيده، في حين أنَّ ما طلبه منِّي "درويش" يحتاج إلى
دارسٍ متخصص لهذا الموضوع الشَّائك، موضوع يستلزم أكاديميَّا فَتَّقه تحليلًا
ودراسة.
ومع امتلاكنا القدرة على التَّطواف بين مختلف الكتب،
والمصادر، التي تُمكِّننا من كتابة بحثيَّة جيِّدة في هذا الموضوع، إلَّا أنَّ ما
يهمّني لن يتحقَّق، أقصد كتابة رؤيتي أنا، المبنيَّة على ما عشته أنا، والتي، من
وجهة نظري، أصدق من قراءة ألف كتاب.
سأكتب إذن تجربتي الخاصَّة مع التيَّار السَّلفي من هذه
الزَّاوية المحدَّدة، لعل الإجابة الشَّافية تكون فيها، وربما، ويا لسوء الحظ،
تُضيف إلى السُّؤال سؤالًا آخرَ!
أيُّ شهر؟ لا أذكر.
في أيِّ عام؟ لا أذكر.
لكنِّي سأخبرك، عزيزي القارئ، بحدث عالمي، كان يواكب ما
يجري معي، لتحدِّد بنفسك متى جرى لى ما جرى؛ ففي نفس التَّوقيت كان "صدَّام
حسين" يُعد للظُّهور على الشَّاشات، غدًا، في أوَّل حلقة من حلقات محاكمته
علنًا.
حشد هائل من ضبَّاط، وعساكر، ومخبري أمن الدَّولة، يملأ
كل مكان في شقَّتي، ما عدا المطبخ، الذي راعوا أن زوجتي قد احتجبت عنهم فيه، حتَّى
الدَّرج كان ملغمًا بهم، واكتشفت بعد ذلك، عندما اصطحبوني معهم، أن الشَّارع قد ضج
بأربع عربات "بوكس" قميئة المنظر، وأن عربة ضخمة، من عربات ناقلات
الجنود، تقف حائرة مثل الخنزير، على رأس الشَّارع، لأنَّها لم تتمكَّن من دخوله.
سجَّل أحدهم أسماء الكتب التي كانت على المنضدة، أحد
مجلَّدات تفسير "القرطبي"، آخر من كتاب "أُسد الغاب"، ثالث من
"فقه السنَّة"، رابع من "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"،
وكتابين، لم أكن قد قرأتهما بعد، من كتب "المراجعات" لـ"ناجح
إبراهيم"، ثم سألني:
ــ عندك كتب
تانيه؟
ــ نعم.. كرتونة
"بوتاجاز" مليانه كتب فوق السطوح.
لكنَّها لم تكن الكتب التي يحبُّون تسجيلها كمستندات
اتِّهام، كانت كتبًا أدبية، وروايات، وأعمالي، ألقيت بها فوق السُّطوح بعد أن كفرت
بأن الأدباء يمكن أن يقدِّموا حلولًا لما نعيشه، أو يغيِّروا العالم، كما كنت أحلم
وأتخيل.
لم يهتم أمن الدَّولة بملاحقتي لخطورتي على السُّلطة
كأديب، وإنَّما لانضمامي إلى جماعة "التبليغ والدَّعوة" السَّلفية،
فـ"الشَّيخ" أخطر تأثيرا من الـ"أديب"، لأن
"الشَّيخ" لم يكن مستعدَّا للتدجين مثلما كان "الأديب"، و"الشَّيخ"
يبحث عن تغيير كل هذا المجتمع لصالح فكرته اليمينيَّة، لا مجرَّد تغيير النِّظام،
بينما "الأديب" ما زال يبحث عن مكان له في المنظومة المجتمعيَّة!
و"الشَّيخ" يلعب مع السُّلطة لعبة سياسة، مدركًا أنَّه لن يتَّفق معها،
ولن تتَّفق معه، وأن أحدهما سيوجِّه، على حين غفلة، الضَّربة القاضية للآخر، بينما
"الأديب" يلف ويدور في حظائر المؤسَّسات الثَّقافية التَّابعة للسُّلطة
من أجل "قطعة عظم"، فلا مجال للمقارنة بين خطورة كليهما بالنِّسبة
للسُّلطة، "الشَّيخ أخطر"، ولهذا السَّبب وحده امتلأ بيتي بعناصر أمن
الدولة، واقتادوني إلى المكتب، على كورنيش "الأقصر"، بعد رحلة طويلة
داروا فيها على بيوت أخرى، في القرى المحيطة، لينتزعوا من سكينتها رجالًا آخرين
أصحاب لحى طويلة، وأفكار ذات خطورة أطول على السُّلطة، وحتَّى وقتها لم أكن أطلقت
العنان للحيتي بعد، كما أنِّي لم أقصِّر ثيابي، ولم أوجِّه زوجتي، بشكل جدِّي،
لارتداء النِّقاب.
أدخلوني، مع آخر، في غرفة الزُّوار، وأغلقوا علينا
الباب، كانوا قد سحبوا منَّا الهواتف المحمولة، والهويَّات معهم منذ البداية،
وهكذا عزلونا، بمنتهى البساطة، عن العالم، وعن أنفسنا، ولم نتبادل أنا، وهذا
الآخر، غير حديث قصير عن ماهية ما يجري لنا، وأسبابه، فنحن نتبع جماعة سلفية،
نعم، لكنَّها جماعة لا علاقة لها، مطلقًا،
بأيَّة جماعات أخرى، بل تتعمَّد تحاشيها، متفرِّغة للدَّعوة إلى الله بعيدًا عن
السِّياسة، فما الذي يخيف السُّلطة منَّا؟!
عندما سمعنا صوت المؤذن لصلاة الفجر، ينساب في بحر ليل
حزين، ليرسوا في قلوبنا المستغربة، كنَّا قد وصلنا إلى قناعة بأن من يحرِّك
العرائس كلها ضد الإسلام هو "أمريكا"، وأنَّها تظن، بدفعها للأنظمة
العربيَّة الديكتاتوريَّة الحاكمة كي تضطهد الملتزمين المسلمين، ستطفئ نور
الإسلام، فقررت، في نفسي، أن أغيظ "أمريكا"، وأثبت لها أن عكس ما تريده
هو ما سيكون.
بعد انتظار، طال لساعات، وبعد أن أخرجونا من غرفة
الزوَّار الكريمة، والتي رُصَّت فيها كراسي "الفوتيل"، ليلقوا بنا في
غرفة الحجز، لنتمدَّد على أرضية من الخرسانة، وكانت العصاري قد حلَّت، نادوا على
اسمي لمقابلة ابن "الهرمة" ضابط أمن الدَّولة.
خرجت من الغرفة، وتبعت أحدهما إلى الطَّابق الثَّاني،
ليدخلني إلى غرفة ضيِّقة بها مكتب "شيك"، و"تليفزيون" ينقل
وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة "صدَّام حسين".
تعمَّدت أن أمدَّ يدي لمصافحة الضَّابط، كان قصدي
نفسيَّا بحتًا، ألَّا أشعر بأنَّني متَّهم سيمثل أمام محقِّق، وتكرَّم الرَّجل بمد
يده ومصافحتي، بل أشار إلى المقعد الذي أمام مكتبه بما يعني أن أتفضَّل بالجلوس،
فجلست.
قال لي: ما رأيك في "الغناء"؟
في الحقيقة ارتبكت للحظة، فأنا، كسلفي، أومن بأن الغناء
حرام، لكن هذه الإجابة بمثابة ابتلاع طعم واضح جدَّا، كما أن الكذب حرام قطعًا،
والمداراة ليست من المروءة، فحاولت التملُّص بسؤال مقابل:
ــ رأيي أنا أم رأي الدِّين؟
فقال: رأيك من رأي الدِّين.
قلت: الدِّين بيقول "الغناء" حرام.
ــ طيِّب..
و"البنوك"؟
ــ برضه حرام.
ــ
و"الحاكميَّة".
"الحاكمية؟!"، كأنِّي أسمع هذه الكلمة لأوَّل
مرة!
ــ إيه
"الحاكميَّة" دي يا افندم؟!
أطلق من عينيه نظرة متشكِّكة صفعت وجهي، قبل أن يقول:
ــ ما تعرفش
"الحاكميَّة"؟!
ــ متهيَّألي
أوَّل مرَّة أسمع عنها!
ــ إيه رأيك في
حكم "مبارك"؟
ــ اللي يهمِّني
إنُّه بيقيم في المسلمين الصَّلاة.. طالما بيعمل كدا يبقى خلاص.. لا يجوز الخروج
عليه وإن جلد المسلمين وأخذ أموالهم.. الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام قال كدا.
هناك بقية للحوار، لكنَّها لا تهمّنا في موضوعنا،
وإنَّما المهم هو أنَّه بمراجعة إجابتي، عن سؤال الضَّابط حول حكم
"مبارك"، أنكرت، كسلفي، الخروج عليه، ولم أفكِّر، للحظة، في
"حِلِّيَة، أو "حُرمَانيَّة"، طريقة تقلُّده لأمر الحكم، لأنَّه،
وطوال ثمان سنوات بين السَّلفين، لم تُطرح داخل حواراتنا فكرة أن حكَّامنا جاءوا
إلى سدَّة الحكم بطريقة تخالف نصَّا قرآنيَّا، أو حديثًا شريفًا صحيحًا، في حين
كانت حواراتنا تعج بتحريم "مجلس الشعب"، الذي يشرِّع من دون الله، وكان
كل ما يؤرقنا، كمؤمنين صالحين، هو أن يُطبَّق شرع الله في الأرض.
لكن كانت لنا أحلام.
فإذا ما انتهينا من الصَّلاة، وجلس الواحد منا يحدِّث
أخيه، كنَّا نسترجع مجد الخلافة، خاصَّة الرَّاشدة، أيام "أبوبكر"
الصدِّيق، و"عمربن الخطاب" الفاروق، و"عثمان بن عفان" ذي
النُّورين، و"علي بن أبي طالب" باب مدينة العلم، و"عمر بن
عبدالعزيز" حفيد الفاروق، تلك الخلافة التي كان يعجبنا منها تواضع هؤلاء
العظماء، وعدلهم المُتحرَّى، ثم كنَّا نرى الأمر، بعد هؤلاء، مُلكًا عضودًا
تَزيَّا بشكل الخلافة، كما أخبر بذلك رسول الله، وكنَّا نعرف أن كثيرًا، من هؤلاء
الخلفاء، كانوا فسقة، عرابيد، أهل مغنى وكأس خمر، لكن كان يعجبنا منهم أن شرع
الله، رغم مُجونهم، يتم تطبيقه، فكنا نقول إنَّه بفضل تطبيق هذا الشرع اتَّسعت
بلاد الإسلام، وزهت حضارته، فنتصعَّب، ونطلق الزَّفرات السَّاخنة، ونتمنَّي لو
أنَّنا نعيش حتَّى نرى الزَّمن الذي سيدخل فيه الإسلام بيوت "الوبر"
و"المدر"، بذل "الذَّليل"، أو بعز "العزيز"، لنحيا
تطبيق الشَّرع المقدَّس.
ولمَّا كنَّا نتخيَّل أن الخلافة يمكن أن تعود، فلم نكن
نتصوَّرها، أبدًا، مَلِكاً متوَّجًا منفوخًا في كرسي السَّلطنة، تهز الطَّواشيه
مراوح الرِّيش فوق رأسه، وإنَّما رأيناها على نسق "الاتِّحاد الأوروبي"،
دولًا إسلاميَّة تُدار برئاسة واحدة، يكون للشُّورى فيها الدَّور المحورى.
على أن السَّلفيين، هؤلاء الذين عشت بينهم، كانوا كأي
مواطنين مصريِّين، شغلتهم الحياة كثيرًا، وتاهوا في طرقات المعايش، ينامون وهم
يفكِّرون في "قيام الليل"، لأن "قيام الليل" باب واسع
للارتزاق، فلم تكن قضيَّة "الخلافة" مبلغ همّهم بالدَّرجة التي
يتخيَّلها المنظِّرون الأكاديميُّون، الذين يستقون معلوماتهم، بدورهم، من منظِّري
الجماعات الإسلاميَّة، ومن كتب التَّاريخ، لا من معايشة حقيقيَّة لواقعهم.
هذا هو السُّؤال الذي أراه جديرًا بالطَّرح الآن.

إرسال تعليق