وضع الناشر على
الغلاف الخلفي لرواية "نادي المحبين" ـ للكاتب المصري "صبحي
موسى" ـ كلمة تعريف موجزة قال فيها: "تقوم هذه الرواية على فكرة
الازدواج بمختلف أشكالها، سواء في الجنس أو الانتماء أو الفكر أو الموقف أو
الهوية، وذلك عبر شخصية مثقف كبير لمع اسمه في الغرب والشرق، ودعمته أجهزة الأمن
مثلما دعمته مراكز الأبحاث الدولية في الخارج، ليكون الجسر الرابط بينهما، لكنه
يتخطى الحدود ويصبح لاعبا مهما في العملية السياسية، فيضع بدراساته خطط صعود
الإسلام السياسي وسيناريوهات الفوضى الخلاقة وتقسيمات الشرق الأوسط الجديد،
واستغله الإخوان في دعم وصولهم للسلطة بعد ثورة يناير، ليجد أن حلمه بدولة
ديموقراطية حديثة انتهى بوصول أعداء الديموقراطية إلى الحكم، وأن البلاد التي تمنى أن يخلصها من نظام أمني سقطت في يد نظام
ديني، فقرر استعادة بلاده من براثنهم..".
انتهت كلمة الناشر.
ولعلها أنسب كلمة غلاف خلفي، وضعها ناشر لرواية قرأتها، صالحة لأن تكون مدخلا لقراءة
نقدية انطباعية عنها.
حتى أن الازدواج،
المشار إليه في الكلمة، امتد ليشمل بنية الرواية نفسها، فخرجت في 360 صفحة من
القطع المتوسط (عدد زوجي!)، قسمها الكاتب في (جزئين!): الأول: بعنوان
"الفقد"، ويقع في 18 فصلا. والثاني: بعنوان "الاستعادة"، ويقع
في 17 فصلا.
كتب صبحي موسى
الجزء الأول واقعيا صرفا، بحيث بدا شخصه الرئيس ـ المفكر الذي بدأت الرواية وانتهت
دون معرفة اسمه ـ لا يفعل سوى كتابة مذكراته، يدون بها العديد من الوقائع، شديدة
السرية، التي واكبت ثورة 25 يناير 2011م، وما تلاها من "فقد" لمصر بحكم
الإخوان لها. فيسجل ـ المفكر ـ تحركاته المكوكية بين لاعبين "اثنين!"
شديدي الأهمية والخطورة: الأول: "مديرو الدولة"، وهم من أطلق عليهم
الثوار اسم "الدولة العميقة" أو "الفلول"، مثلت الأجهزة
الأمنية، من مخابرات وجيش وشرطة، هذا اللاعب الذي تحركه مصلحة ذاتية تدفع به إلى
رفض التخلي عن نظام الحكم الذي يؤمن مكتسباته الضخمة. أما اللاعب الثاني فهو:
"الإخوان"، الطامح إلى السلطة بأجندة دينية، وبتأييد أمريكي خليجي!
لم تعرفنا الرواية
باسم بطلها المفكر في أي من فصولها، وكأن الكاتب حرص على ألا يحرم القارئ من متعة
التوصل إلى اسمه بنفسه، إذ، بقليل من التركيز، يمكن
التعرف عليه بسهولة، فهو ليس شخصية روائية من نبت خيال المؤلف، بل شخصية واقعية،
معروفة، شهيرة درجة ملء السمع والبصر السياسيين، فهو المفكر والمحلل إياه، صاحب
مركز الدراسات الاستراتيجية إياه، حامل الجنسية الأمريكية مع جنسيته المصرية الأساسية،
مطلق فكرة توظيف ما يسمى بـ(الإسلام السياسي) لضرب ديكتاتورية الأنظمة العسكرية
الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط، وتفتيت قواتها المسلحة المستخدمة في الهيمنة على
شعوبها؛ وقد تلقت أمريكا الفكرة (العبقرية) بترحاب شديد، فتفتيت القوة العسكرية
يعني بدوره توطيد وترسيخ أمن الكيان الصهيوني المحتل فلسطين. فلم تكتف أمريكا بالترحيب،
وإنما سارعت إلى تنفيذ التصور (العبقري) برسم خطة، عنونتها باسم الفوضى الخلاقة، قبل
أن تطلقها الوزيرة الأمريكية كونداليزا رايس، لتؤدي إلى انفجار ثورات الربيع
العربي، ثم تتسلم الوزيرة الأمريكية هيلاري كلينتون مهمة إدارة آليات التنفيذ،
وكان الإخوان هم آلتها الرئيسة لتنفيذ الخطة.
نعم إنه هو: المفكر،
الدكتور، صاحب مركز ابن خلـ... لجأت الرواية إلى خدعة بسيطة لإضفاء إيهام يخلص
بالرواية من كونها تقرير واقعي إلى عمل أدبي (خيالي)، فبدلت اسم المركز إلى مركز
ابن طفيل للدراسات الاستراتيجية.
لن يتعرف القارئ في
"نادي المحبين" على شخصية هذا المفكر فقط، بل سيتعرف على كثير من
الشخصيات التي لعبت أدوارا سياسية هامة في المحفل الثوري الممتد ما بين 25 يناير
2011 و30 يونية 2013. فالشيخ جميل موصوف بدقة تقود القارئ إلى معرفة أنه هو فلان
الفلاني، بشحمه الوفير ولحمه المتهدل الغزيز، والإخواني المؤثر "ناجي"،
بتعنته وجبهته المقطبة ومنافسته لمرسي في الحكم، هو علان العلاني، ورجل الأجهزة
السيادي الغامض النجار قد يكون هو ترتان الترتكاني. وهكذا دواليك، بحيث لن يملك القارئ
الحصيف من مقارنة "نادي المحبين" بـ "عمارة يعقوبيان"، ليجد
أن رواية صبحي موسى بمثابة ابنة قريبة الشبه جدا من أمها رواية علاء الأسواني؛ وقد
قرأت الروايتين، فصاحبني فيهما نفس الشعور: الاندهاش بتعرية كواليس ما بعد الشعب،
وكشف مستور مديري مصر الخفيين. وملكة الإخبار متوفرة عند الكاتبين، كأنهما أقرب
إلى كاتبي تقارير أحوال منهم إلى كاتبي رواية، ولقراءة تقارير الأحوال متعة ذات
طعم خاص، خاصة إذا صيغت بشكل قصصي، وقد أجاد كلا الكاتبين، غير أن "صبحي
موسى" أظهر كفاءة أفضل..
اخترق صبحي الوسط
الأدبي الثقافي ببطله المفكر، فننقل لنا، من خلاله، صورة بالغة الانحطاط لهذا
الوسط. وصبحي روائي، ومثقف، هذا غير كونه موظفا في أحد أهم المؤسسات الثقافية
للدولة، وكان مديرا سابقا لأحد أفرعها، وعضو مجلس تحرير إحدى مجلاتها الأدبية، ما
يعني أنه موغل بعيدا في الشأن والواقع الثقافيين، ومراقب متميز للحالة الثقافية، ما
يؤدي بي (بشكل شخصي) إلى اعتبار وجهة النظر في الوسط الثقافي، التي تطرحها الرواية،
هي نفسها وجهة نظر كاتبها.
كيف ظهرت صورة
الوسط الثقافي في "نادي المحبين"؟
تكررت تسمية المنطقة
التي يرتادها الأدباء والمثقفون في وسط البلد (وسط القاهرة) بمربع الشر، وروادها ـ من وجهة نظر الأمن ـ هم الخرتية الجدد
(المثقفون والأدباء)، والخرتية وظيفة قديمة، قليلة الشأن، أشبه ما تكون بوظيفة
المرشد أو الدليل، تؤدى بالوراثة لا بالدراسة، هؤلاء المثقفون مخترقون بمخبري أمن
الدولة، حتى أن المفكر إياه تم تجنيده مخابراتيا عن طريق شاعر من رواد مقهى
الأدباء والفنانين، يتضح فيما بعد أنه ضابط مخابرات؛ ومن الوصف الروائي لموقع
المقهى في مربع الشر يمكن التوصل بسهولة إلى أنه مقهى زهرة البستان، المشهور بتجمع
الأدباء فيه، يأتونه من كل فج عميق. أما رواده فمعظمهم طامحون لأن يكون لهم مكان
في ضوء شمس الشهرة، غير أن طموحهم يغيب يوميا بغياب الشمس، والأديبات والشاعرات
سيدات فاشلات اجتماعيا، أوضاعهن الأسرية خربة، غير أنهن طامحات مع الطامحين.
وبعيدا عن مربع
الشر، تحليقا إلى أعلى، لم تترك رواية "دليل المحبين" الوسط الثقافي قبل
الإدلاء برأيها فيه على مستوى القيادة الثقافية، أي على مستوى الوزارة، بدءا من
الوزير شخصيا، الذي تقدم لنا الرواية صفاته الشخصية كرجل وسيم، جميل، ذكي، حداثي،
يعشق إيطاليا، يقيم فيها أوقاتا طويلة، وهو أحد أعضاء نادي المحبين، أي: أحد أعضاء
نادي المثليين، بحسب التعبير الأوروبي الحديث، أو اللوطيين، بحسب التعبير العربي
القديم (والحديث أيضا)؛ وكانت شبهة المثلية تحوم بإصرار حول وزير ثقافة مصري شهير،
عاصر معظم فترة حكم مبارك، وغادر مع الثورة، ليختفى عن العمل العام، فتؤكد الرواية
على مثليته، كما تؤكد على أنه، رغم اختفائه، كان أحد الناشطين الذين عملوا بنشاط،
تحت الرماد، على استعادة مصر من "الفقد" الإخواني الطارئ.
وللمقالة بقية.
تستمر رواية
"نادي المحبين" في أداء دورها الفاضح بكفاءة، وبرشاقة سردية، تحسب لصبحي
موسى، يستطيع المناورة بالزمن سريعا، وخفيفا، وأكثر من مرة، ليستعرض لنا، في
إحداها، أول مهام وزير الثقافة ـ وكان صديقا للمفكر ـ فور تسلمه حقيبتها: تدجين
المثقفين، وسوقهم إلى حظيرة جامعة، ليتم السيطرة عليهم؛ حظيرة ذات مواصفات شديدة
الخصوصية، فهي ليست ذات أسوار أو حواجز مرئية، بل ذات مغريات عديدة معلومة، وعلى
الراغب في اقتناء إحداها الاستكانة والتودد والتهذب، "تريد النِّعم؟ قل: نَعم"؛
وعرِّض لمن يسوى ولمن لا يسوى، خصوصا إذا كانوا كهنة النظام القائم. ليقوم الوزير،
بمساعدة كبار الموظفين (وهم نقاد وأدباء وشعراء كبار!)، بتشكيل مجالس ثقافية،
ولجان، وجوائز، ومنح، جميعها يقوم بدور الجزرة. في حين يبقى المعتقل العصا المشرعة
في وجوه من يقولون: لا.
وفي الحين الذي
تستعرض الرواية الصراع بين الدولة العميقة والإخوان تكشف عن إجابة أسئلة طالما
شغلت اذهان الناس في فترة حكم محمد مرسي القصيرة:
ما سر اختفاء
البنزين؟
ما سر انقطاع
الكهرباء والمياه المتواصل؟
ما سر تكرار حوادث
القطارات البشعة؟
ما سر مذابح
الشباب في بعض مباريات كرة القدم؟
إنها إجابة واحدة مثلت
في المقترح الذي قدمه المفكر، إياه، للمخابراتي النجار، ممثل الدولة العميقة:
حتى يثور الناس
على محمد مرسي، ويزيحوا الإخوان عن كرسي الحكم، اجعلوا حياتهم لا تطاق.
إجابة تقدمها
رواية كاتبها أبعد ما يكون عن الإخوان. فلن انسى عصر 30 يونية 2013، وكنا، أنا
وصبحي موسى، خرجنا من مقر مجلة "الثقافة الجديدة"، حيث نتزامل في العمل
هناك، لم أكن راغبا في حضور تجمعات التحرير، حيث (الثوار!) مزيج من شباب طيبين،
وفلول، وضباط شرطة، تحلق فوق جموعهم طائرات هليكوبتر عسكرية وتلقى عليهم هداياها،
كنت راغبا في العودة إلى بيتي، لكنه أصر على أن أصحبه إلى الميدان، والتقطنا صورا
لنا هناك، ظهرنا فيها ملوحين بفرح لتلك الطائرات. مع ذلك، انتصر صبحي موسى لما
أحسبه حقيقة ما حدث، رغم أنها حقيقة دنيئة، لا تصب أبدا في صالح مستعيدي مصر من
براثن الإخوان، فالمثقف الحقيقي يتمتع بالقدرة على الإنصاف إبداعيا، وإن لم يكن
منصفا معيشيا؛ وربما هذا هو سر طلاوة أشعار عبدالرحمن الأبنودي، وجمال روايات
الغيطاني، رغم علاقتهما الوطيدة بالأمن، ومن الرجالات الثقافية للنظام المخلوع.
في رحلة الكشف،
التي قطعتها رواية "نادي المحبين" بمهارة لاعب سيرك يمشي على حبل رفيع، يرى
القارئ المصالح المتعارضة للدول الغربية على الأرض المصرية، فأمريكا تسعى لتمكين
الإخوان، وفرنسا تسعى إلى عكس ذلك. اتجاهات مراكز البحث في واشنطن على النقيض من
اتجاهات مراكز البحث في باريس. الاتجاه الباريسي متفق للغاية مع مخططات الدولة
العميقة، وعليه يمكننا تفسير أمرين:
أولهما: التقارب
الحميم لنظام ما بعد الإخوان مع فرنسا، وتكالبه على شراء شحنات أسلحة متنوعة
وغزيرة منها، وربما دون الحاجة الفعلية لها.
إنه امتنان
للأصدقاء.
ثانيهما: لعب
أمريكا ضد فرنسا على الساحة الدولية، وتوجيه الضربات السياسية والاقتصادية إليها،
آخرها الصفقة الفرنسية الاسترالية الضخمة، وقد تم أفشالها بمعرفة واشنطن.
إنه انتقام
الفرقاء.
وفي الجزء الثاني،
المعنون بـ"الاستعادة"، تأخذ الرواية منحى مختلفا عن الجزء الأول بعض
الشيء، فتصير أكثر اهتماما بالخيال الروائي، وإن ظلت على اهتمامها بالتقريري، فيجد
القارئ نفسه إزاء مشاعر المفكر إياه، لا إزاء تقاريره. وسيأخذ صبحي موسى في تبييض
وجه هذا المفكر، وتبييض وجه رجل المخابرات. سيشعر المفكر بحجم الجرم الذي ارتكبه، عندما
أطلق أفكاره المتصالحة مع ما يسمى بالإسلام السياسي، وتفاهماته مع الإخوان، سيصطدم
معهم، ليستغل صبحي هذا الاصطدام في استكمال رسم صورة بشعة للجماعة المحظورة، فقياداتها،
بالإضافة إلى تجارتهم بالدين، حتى انهم مجموعة من المدعين لا تتورع عن شرب الخمرة
سرا، وممارسة اللواط سرا، ولا تعيب على المفكر لوطيته، أو مثليته، بل تقدم له
غلاما جميلا مثقفا يمارسها معه، مستغلة ضعفه الجنسي في الدفع به لكتابة مقالاته بكبريات
الصحف الغربية تأييدا للإخوان، هم أيضا "قتالين قتلة"، لا يتورعون عن
قتل مخالفيهم.
أما المخابراتي
النجار، فهو الفارس الذي يعمل سرا، بخطوات سرية، وبالاتفاق مع المفكر (وكان سبق
للمخابراتي تجنيد المفكر عبر استغلال شذوذه الجنسي أيضا!) على استعادة مصر؛ ويا
للعجب، إذا نزل هنا تتر موسيقى بأغنية وطنية مرافقا حالة استعادة وطنية كبرى،
بطلاها: مفكر مثلي، ورجل مخابرات مستغل لمثلية المفكر.
ترفض الرواية
السيدات المثقفات، سواء كن نجمات مربع الشر إياه، أو عضوات مراكز الأبحاث
الاستراتيجية، وتنتصر للمرأة المصرية البسيطة، التي ربما تعمل ممرضة في مستشفى،
فهي المرأة الوحيدة التي أمكنها إحياء رجولة المفكر، واستعادته من لوطيته لصالح
علاقة طبيعية صالحة، أثمرت ابنا له، من صلبه.
أما الرواية نفسها
فقد أثمرت، وأينعت، رغم لغتها التوصيلية الصحافية، وأظنها لغتها الصحيحة، إذ لكل
رواية لغة تخصها، وليس صحيحا إقرار لغة وحيدة لجميع الروايات، وإلا فسنقوم بقراءة
آلاف الروايات بقالب واحد، وهذا أمر مضجر، في غاية الملل، قاتل للاختلاف والتمايز.
لم كانت اللغة
التوصيلية الصحافية هي الأنسب لرواية "نوادي المحبين"؟
استعمل صبحي موسى
ضمير المتكلم في سرد روايته، من اول كلمة حتى آخر كلمة، والمتكلم هو مفكر باحث
استراتيجي، طبيعة كتابته أقرب ما تكون إلى التقريرية، ولغة التقرير لا بد صحافية
توصيلية. ولو استخدمت هذه الرواية، تحديدا، لغة ذات طبيعة مغايرة لفشلت في تقديم
عالمها متماسكا على هدا النحو.
السرد سلس مشوق،
الحبكة متمايزة، وسيطرة الروائي على الأحداث متقنة.
رواية "نوادي
المحبين" جديرة بأن تكون الرواية الأعلى مبيعا، لو انتبه القراء إلى أنهم في
حاجة شديدة للاطلاع على خوافي الفترة المائجة ما بين 2011 و2013، فالاطلاع على مثل
هذه الرواية له أبلغ الأثر في "إيقاظ الوعي".
وأنا مؤمن بأن
الرواية هي فن "إيقاظ الوعي".
أخيرا أعود إلى
جزء من كلمة الناشر، التي وضعها على غلاف الرواية الخلفي، قال فيه: ".... وأن
البلاد التي تمنى (المفكر) أن يخلصها من نظام أمني سقطت في يد نظام ديني، فقرر
استعادة بلاده من براثنهم..".
وأتساءل:
لأي نظام عادت
البلاد، بعد أن خلصها المفكر، إياه، من براثن الإخوان؟

إرسال تعليق