القطار، الفاخر، يدخل محطَّة الأقصر علي مهل، قادمًا من القاهرة، سيتوقَّف قليلًا
قبل أن يتحرك مرة أخري متجها إلي أسوان.
العربات مليئة بطلبة وطالبات الجامعات، الذين يجوبون
بلاد مصر السِّياحيَّة خلال موسم الرَّحلات الشِّتوي الذي، عادة، ما تنظِّمه
إدارات الجامعات، بالتَّعاون مع الأسر الطُّلابية، للتعرف علي آثار مصر وتاريخها
المدهش.
كانت إحدى الفتيات قد استرخت في كرسيِّها، المحدوف مسنده
إلي الوراء، تستمع إلي أغنية لعبد الحليم حافظ، ينساب صوته، فيها، غاضبًا، من مسجل
استريو وضعته علي فخذيها الرَّشيقين المضغوطين في بنطلون جينز ضيِّق.
"قلبي قول للحب يبعد عن
طريقي".
حركة نشطة هبَّت فجأة بين الشَّباب في العربة، فبرنامج
الرِّحلة يبدأ بالنُّزول في الأقصر أولًا، ومع عنفوان هذه الحركة لم ينتبه أحد
لدمعتين، حارَّتين، تنزلقان من عيني البنت، فتجريان علي خدَّين نُسِجا من حرير
ورديِّ.
صافرة القطار يتردد صدى نفيرها بين جدران المحطَّة،
المشيَّدة علي النَّسق المعماري الفرعوني، وهو يُبطئ من حركته، تمهيدا للتوقُّف.
والبنت العاشقة تحترق بنار قلب يُحب لأوَّل مرَّة، فلم تنتبه إلي كونها يجب أن
تستعد لمغادرة القطار.
وعبدالحليم حافظ يغني بالوجد الملتاع "أي حب جديد
يا ويله من حريقي".
توقَّف القطار.
"لو ها صادف قلب مُخلِص ...".
فجأة..
صراخ يعض الشَّباب يأتي من ناحية الباب الدَّاخلي
للعربة، ممزوجًا بخبط حديد في جوانبها المعدنية، وصرخات بنات تمتزج بصيحات هادرة،
غاضبة:
ــ "الله
اكبر".
"... موش ها آمن له واصونه".
البنت تلتفت، بعينيها الدَّامعتين، نحو الضَّجيج المرعب،
فتري شابَّا، ملتحيًا، يرتدي جلبابًا أبيض، يقبض بيده علي جنزير يُطوِّحه في
الهواء، قبل أن يهوي به علي أجساد الأولاد والبنات.
لم يكن وحده، كان يتبعه آخرون.
"وان ضحك في عينيا هاضحك واخدعه ويمكن أخونه".
عينا الملتحي، الذي يتصدَّر المجموعة، غارقتان في
السَّواد، فيهما جمال ساحر، تتألَّقان بنظرة قاسية، وبشرته قمحاويَّة، تلمع بوميض
ذكوري فتَّان، ولحيته، ذات الشَّعر النَّاعم، الفاحم، المنسدل، ألقت عليه مهابة
رجل أسطوري.
"زي غيرنا ما باع نبيع عمر الهوي وعهده".
الدِّماء تتفجَّر من الجباه المشقوقة، ومن الرِّقاب
الممزَّقة، ومن الأكتاف المهشَّمة. والصَّرخات تنزلق من حناجر أعطبها فزع مفاجئ.
وتكبيرات، فائرة بالغضب، تعلو:
ــ "الله
أكبر، الله أكبر".
الملتحون انتشروا في كل العربة مثل ملائكة العذاب،
يمزِّقون العصاة، ويبعثرون دماءهم.
والبنت تنظر إلي هذا الملتحي بالتَّحديد، الشَّاب
المملوء بالمهابة الأسطوريَّة، تراه وهو يفرد عضده المحشو عنفوانًا، ويطيح
بـ"الجنزير" نحو الأجساد التي تكوَّرت خوفًا.
"شعره جميل أوي.. طويل وفايض من تحت طاقيته
البيضه.. بيطير حوالين رقبته
وخدوده".
لم تعد في عينيها دموع، وإنما نظرة تائهة، تتأمَّل هذا
الملتحي، وهو يقترب منها، يطيح بجنزيره.
لم تكن في عينيها نظرات رعب لمَّا نظر في عينيها.
ماذا رأي في عينيها جعل ذراعه يتعلَّق في الهواء قليلًا
قبل أن يهوي به على الريكوردر؟!
سقط الجهاز علي أرض العربة، وأطلقت البنت آهة مكتومة،
لكنَّها استمرت في النظر بانبهار لهذا الملتحي الأسطوري، الفرعوني المنتصر، الذي
يجلد أسراه، بينما يبتعد عنها.
واستمر عبدالحليم يغني بالصَّوت الملتاع: "زى قلبي
ما ضاع تضيع كل القلوب بعده".
"وِشَّها زي وِش ملاك.. أستغفر الله العظيم.. ازَّاي اشبِّه وِش بنت بتعصي ربِّنا بوِش
الملايكه اللي مش بيعصو ربِّنا
أبدا؟!"
نظر إلي وجهه في مرآة حوض الحمَّام.
"وِشَّها زي القمر.. عنيها فيهم.. حنان.. يمكن دفا.. شفايفها بلحتين رُطَب.. أستغفر الله العظيم.. ماكانتش نظره ع الماشي.. دي كانت نظرة شِيطان.. خلِّت صورتها تِلزق جوَّايا .."
كان وجهه جامدًا، متجهِّما، كارهًا للدُّنيا وما فيها .
"مش عارف ليه كل العُصاه وشوشهم منشرحه؟! يضحكو قوي! سُعدا قوي! عايشين الحياه قوي!
استغفر الله العظيم.. نعوذ بالله من سوء المنقلب.. إنَّهم لاهون.. سادرون في غواية
الشَّيطان.. كان رسول الله لا يٌري إلَّا مهمومًا.. يفكِّر كيف ينشر الدَّعوة..
الوجه المبتسم لا يليق بأصحاب الحمول العظيمة ".
بلَّل وجهه بالماء، فالتمعت بشرته القمحاوية، ومسح شعره
بيديه المبتلتين فومض ببريق مكتوم، وبدا رأسه، بعينيه الحائرتين، كرأس المسيح
المرسوم، مصلوبًا، علي خشبة اللعنة.
"أنت الآن تقوم بمهمة عظيمة، حِمل من الحمول
الثَّقيلة، ومش سهل أبدًا إنَّك ترجَّع كلَّ هؤلاء المسلمين الضَّالين إلي الفهم
الصَّحيح للإسلام".
المرآة ليست مصقولة تمامًا، لكن عينيه واضحتين جدًا،
كانتا تحدِّقان في وجهه، وقد امتلأتا بالاندهاش، لقد تغيَّرت ملامحه، صارت أكثر
جمالًا، وأشد قسوة.
منذ زمن طويل لم يدقِّق النَّظر هكذا في ملامحه.
"طيِّب ليه البنت دي بالتَّحديد من بين كل البنات
اللي في القطر ما استحملتش اضربها بالجنزير؟!".
خرج من الحمَّام، ارتدي جلبابه الأبيض، وحشا رأسه في
الطَّاقية البيضاء، ثم توجَّه إلي القبلة .
الهزيع الأخير من الليل، الوقت الذي يتنزَّل فيه الله من
علي عرشه إلي سماء الدُّنيا، ينادي عباده، يعرض عليهم قضاء الحاجات، ويعرض عليهم
الغفران، فقط يستيقظون الآن، ويُصلُّون، يفرشون جباههم على الأرض، ويبكون،
يتذلَّلون، وليلحُّوا في الدُّعاء، الله يحب العبد اللحوح.
صياح ديك علي سطح بيت قريب، يرد عليه كلب بنباح كسول.
"إنت تعمِّدت تيجي ضربة الجنزير فِ جهاز التَّسجيل!
تعمِّدت انَّك ما تئذيهاش!".
رفع كفَّيه إلي مستوي أذنيه، وخرج صوته متهدِّجا:
ــ الله أكبر.
في كل صلاة، بعد التَّكبير، يبدأ في مجاهدة قلبه، لا
فائدة في صلاة من غير خشوع، لن يتقبَّل الله صلاة حشوها مشاغل الدُّنيا الملعونة،
وحتَّى يتغلَّب على الشَّيطان الذي سيحاول شغل قلبه بسفاسف الأمور، يبدأ في تذكُّر
حال من أحوال الرَّسول الكريم، فيتخيَّله واقفًا يصلِّي، قدماه تتفطَّران من طول
القيام، أو يتمثَّله جالسًا مع أصحابه، في المسجد، يبادلهم حوار ما بعد صلاة
الصُّبح.
في بدايات صلوات أخرى يفكر، أحيانًا، في معاني كلمات
القرآن، مثلًا: الرَّحمن الرَّحيم.
يتردَّد صوت الشَّيخ "رسلان" في عقله :
ــ
"الرَّحمن" لأنه يرحم كل مخلوقات الأرض، ما من دابَّة على الأرض،
تعقل أو لا تعقل، إلَّا وهي في رحمة الله، "الرَّحيم" صفة رحمة، مخصوصة،
لمن وحَّد الله ولم يشرك به أحدًا، وآمن برسله، ولم يُنكر منهم أحدًا، هذه رحمة
للمسلمين فقط، يرحمهم بها دنيا وآخرة.
الآن لا يرى إلا وجهها، ونظرة عينيها التي أربكته
بضعفها، ضعف من غير خوف! لا ضعف ولا خوف! وإنَّما نظرة منبهرة.
"مش عارف!".
ــ "الله
أكبر".
وركع.
كانت تستطيع أن تري النيل في أثناء وقوفها بشرفة غرفتها مع إحدى صديقاتها في
نُزُل الشَّباب بالأقصر، ثم الحقول الواسعة الممتدَّة حتَّي الجبل الرَّابض في
الأفق، كانت مكوِّنات الصُّورة، التي تملأ عينيها، تصنع لوحة من الجمال الباهر،
تبعث في روحها ألق حياة تتجدَّد في داخلها.
أفاقت على صوت صديقتها وهي تقترب منها:
ــ كلُّهم خرجوا
من المستشفى يا لبنى.
همست:
ــ الحمد لله.
النَّسيم الشِّتوي، المخلوط بدفء الشَّمس، يمسح وجهها
ورقبتها، ويطيِّر شعرها، وتحدِّق في الجبل الرَّابض في الأفق، كان هو المكوِّنة
الوحيدة، في الصُّورة، التي تقلقها.
نظرت إلى صديقتها، وأشارت إلي الجبل، وقالت:
ــ كان المنظر
هايبقى أروع لو الجبل دا مِش هناك.
ــ بالعكس،
المنظر كدا أحلى كتير.. بيجمع ما بين
المتناقضات، النِّيل والجبل، خضرة الحقول وصفرة الصَّحراء، الحياة والموت .....
سرحت بناظريها في الشَّمال، حيث الأفق ممدودًا حتَّي
يذوب في دكنة رمادية تحد انطلاق البصر، كان وجه الملتحي يبزغ في هذا الأفق مثل شمس
الصَّباح، وشعره يطير من تحت طاقيَّته المضغوطة في رأسه، الوجه الأسطوري يملأ
الأفق، ولحيته تتدلَّي بين أشرعة المراكب المنسابة علي سطح "النِّيل"، وتنغمس
في الماء المقدَّس .
عادت إلى واقعها على صوت صديقتها المشاكس:
ــ كل دا حب!؟
يا بختك يا ميشو!!
لم تنم لبنى ليلتها السابقة، رغم الإجهاد الكبير الذي
عانت منه بسبب ما حدث من هجوم الإرهابيين علي القطار، وضربهم كل من فيه بالجنازير،
كانت إصابات أصدقائها، وصديقاتها، خفيفة، رغم ذلك كان لابد من الذهاب إلي المستشفي
لإثبات الاعتداء، حتَّى تبدأ الأجهزة الأمنية في العمل، ليلة عصيبة، لكن لبنى
بالتَّحديد كانت في عالم آخر.
"شكله مِش مـِ العالم دا خالص.. كإنُّه من عالم تاني.. الجنزير فـ إيده شبه سيف فـ إيد مجارب قديم".
ما الذي أعجبها في ميشو، فأحبته؟!
إنَّه ليس أكثر من ولد خفيف الظِّل، مُرفَّه، متَّفق مع موضة
العصر، شعره المهوَّش، والـ"تي شيرت" الضَّيق، والبنطلون الجينز
المحزَّق.
بنات الجامعة كن يتهافتن علي الجلوس معه، هل أحبَّته
لأنَّها كانت تتمنَّي لو أنَّه يخصها بحبه فتهزم كل هؤلاء البنات؟
أم أحبته لأنَّه، من بين كل شباب الجامعة، الوحيد الذي
استطاع، ببساطة شديدة، كسر الحاجز الذي يقيمه جمالها الفاتن بينها وبينهم؟
أم أحبَّته لأن قلبها، في الأيام الأخيرة، يدفعها دفعا
للحب، وكان "ميشو" أجرأ ولد، تمكن من اختراق عالمها الخاوي، ليشعرها
بالونس؟
تقلَّبت في الفراش كثيرًا، وبدأت تشعر برأسها يكاد
ينفجر، لم يكن هناك صداع، ولا ألم، وإنَّما قلق.
قامت من فراشها، صديقتها غارقة في النَّوم بكامل
ملابسها، وقد وضعت كفيها بين ركبتيها من البرد، نظرت إليها نظرة حانية، قبل أن
تفرد علي جسدها النَّحيف بطانية طُويت، بعناية، علي حافَّة الفراش.
فتحت باب الشُّرفة فضربها النَّسيم البارد، الشِّتاء في
الأقصر يعتد بعافيته ليلًا، فتتحوَّل إلي مدينة أوروبيَّة مثلَّجة، لا ينقصها إلا
تساقط نتف الثَّلج.
أنعشها الصَّقيع، لتتمرَّغ عيناها في لوحة ناعسة، ظلام
تتخطَّفه أنوار بارقة يسبح في نيل معتم، وشارع صامت وقفت فيه عربة حنطور يتيمة وقد
خبَّأ حصانها رأسه في كيس التُّبن المعلَّق في رقبته، بينما في الأفق الغربي أنوار
بعيدة، تومض وتخبو، لبيوت ارتمت في حضن الجبل
جبل القرنة.
تسرح.
القطار المكيف يجري، وجسدها يهتز برتابة، الأولاد
والبنات يتنقَّلون هنا وهناك، يتبادلون كلامًا ويضحكون، "ميشو" يجلس علي
كرسي في المربع الذي يقابلها وقد انهمك في حكاية موقف مضحك لمجموعة من البنات تحيط
به، تقطع ضحكاتهن حكايته.
تجلس وحيدة في كرسِّيها الملاصق للنَّافذة وقد ضايقها أن
من تحبُّه لا يشعر بوحدتها.
"انتي عبيطه أوي على فكره.. لو بيحبِّك كان ساب الدُّنيا كلَّها وجِه يقعد
معاكي وحدك.. يحط دماغه جنب دماغك وما
يبطَّلش همس ف ودنك بكلام الحب".
أخرجت، من حقيبتها، شريطًا لإحدي أغنيات عبدالحليم حافظ،
وضعته في الريكوردرK فانسابت
الموسيقي الأسيانة، وبينما تبدو من خلف زجاج النَّافذة لمبات بيوت ارتمت في ظلمات
حقول تركض إلى الخلف، كانت تنعكس، علي نفس الزُّجاج، ملامح ميشو المنهمك في
الضَّحك.
تعود من سرحانها بسبب شدَّة البرد في الشُّرفه، رغم ذلك
لا تجد في نفسها رغبة في الدُّخول إلي غرفتها.
ليل الأقصر، مدينة الزَّمن العتيق، رائحة آمون الدَّافئة
تتضوَّع في هذا الصَّقيع، هذا سحر في سماوات ليل مدينة التَّاريخ.
لقد استطاعت أن تشم رائحته، رائحة مسك العنبر، سمعت عن
اسم هذا العطر في شارع الموسكي المنساب في مصر القديمة، وشمَّته هناك، لكنَّها ها
هي تشمَّه، مرة أخرى، لمَّا رفع ذراعهـ بالجنزير"، لينزل به على الريكوردر،
كانت عيناه تغوصان في عينيها، بينما يتبعثر حوله عطر مسك العنبر.
رأت في عينيه عاشقا!
هل يمكن أن يكشف العشق عن نفسه في لحظة وامضة، ومشحونة
بعنف القتل؟!
وعندما استدار، الملتحي، إلي المربع المجاور، استلقى
ميشو بظهره إلي الوراء، في عينيه ذعر، يرفع ذراعيه محاولًا اتقاء ضربة الجنزير،
بينما شفتاه مضمومتان ترتعشان، غير قادرتين حتَّي على الصُّراخ.
رائحة مسك العنبر تتناثر في ليل مدينة التَّاريخ، تدفئ
الصَّقيع قليلًا، فتبقى لبنى في الشُّرفة، تحملق في الأضواء البعيدة، التي ترتعش
في صدر جبل القرنة المظلم.
الساعة الآن السادسة صباحًا، مازالت هناك أربع ساعات متبقِّية حتَّى يحين ميعاد
مقابلة الأخوة القادمين لتنفيذ عملية جهادية في الأقصر، فقرَّر ألَّا يخرج من
الزَّاوية، وأن يقرأ قرآنا حتَّى يقترب الموعد.
تحرَّك نحو الخزانة المتهالكة بجوار المنبر، مدَّ يده
ليأخذ مصحفًا.
المصاحف قديمة، وذائبة، هرَّأها تراب الأزمنة.
"فُتحت الدُّنيا عَ المسلمين، فنسيو دينهم، بيوتهم
اتملت بكل وسائل التَّرفيه، بينما المصاحف في المساجد ياكلها التُّراب
والهجر".
جلس مستندًا بظهره إلي المنبر المبني بالأحجار، وقبل أن
يفتح المصحف، خطف بصره عصفوران اخترقا نافذة الزَّاوية إلي داخله، ذكر يطارد أنثاه
وهي تتقلَّب في الهواء، تناور بمهارة، كي لا يلحق بها، بينما ترتفع شقشقاتهما، ثم
انطلقا إلي الخارج، من نفس النَّافذة، وبنفس السُّرعة التي دخلا بها.
"ليه ما ضربتهاش بالجنزير زي ما ضربت كل اللي ف
القطر؟!".
"دي كانت أكترهم فتنة وإغواء.. بلوزتها محزَّقه عَ
الآخر.. لونها لون جسمها.. بنطلونها مزنوق بلحمها.. كانت عامله زي العريانه.. يعني أكتر واحده فيهم عاصيه ربِّنا.. ومع ذلك ما ضربتهاش!".
فتح المصحف، ومع أن عينيه تنظران بتركيز إلى أسطر
الكلمات المقدَّسة، إلَّا أنَّه لم يتمكَّن من قراءة أيَّة كلمة، فوجه البنت،
بكامل فتنته، مطبوعًا علي صفحتي المصحف المتقابلتين، شعرها القصير المنسدل كحرير
حتَّى منتصف الرَّقبة، الرَّقبة المنحوتة من رغبة، الفارعة فوق صدر نُحت في أوسطه
مجرى للاشتهاء، ينساب بين بركانين يتفجَّران بالشَّبق.
"أستغفر الله العظيم.. دي كانت تستحق القتل".
"الجنَّة فِ عينيها.. كل اللي عايزه من ربِّنا فِ
عينيها.. راحه.. أمان.. شباب.. طعام.. شراب.. أشجار.. أنهار.. الخلود نفسه في
عينيها.. متهيألي مش ممكن اموت وانا باصص
في عينيها.. أستغفر الله.. أستغفر الله..".
قطرتان من دمع حار سقطتا علي ورق المصحف، فتشربهما.
نظر إلي الورق المقدَّس، المبتل بدموعه، ثم انطلقت من
صدره عاصفة بكاء، أغلق على أثرها المصحف، وتركه يسقط في حجره، ليضع كفيه علي وجهه،
ويرتج من قسوة النَّحيب.
"عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله،
وعين باتت تحرس في سبيل الله".
"وأنا عيني ما بكت من خشية الله.. ولا باتت تحرس في
سبيل الله.. سهرت عيني تـ ـ.. وأبكاها
الـ.. أستغفر الله العظيم.. اغفر لي يارب".
يشهق، وصدره يتطبَّق، والعصفوران يخترقان باب
"الزَّاوية"، يطيران بالمناورة، لا يلحق الذَّكر بأنثاه أبدًا، ولا
يكفَّان عن الشَّقشقة، ثم يخرجان بنفس السَّرعة.
يقف، يمسح دموعه بكم جلبابه، يضع المصحف في الخزانة
القديمة، يأخذ حذاءه، ويخرج.
نسيم الصَّباح، البارد، يلسع وجهه، رائحة الغيطان في البكور، ونور الشَّمس
البهي، وناس يسحبون البهائم نحو الحقول.
أمال رأسه ينظر إلي الملابس التي يرتديها الآن، تأفَّف.
"ازَّاي بيطيقو يلبسو الهدوم دي؟!".
"انت مضربتهاش عشان حبِّـ... ".
يمشي، علي مهل، في المدق الضَّيق بين الحقول، رأسا
تمثالي ممنون يبدوان ويختفيان بين خلل شواشي النَّخيل، لم يزل الموعد بعيدًا،
ساعتان بكاملهما متبقيتان .
"ما تركت فتنة أشد علي
الرجل اللبيب الحازم من النساء".
"صدقت يا رسول الله.. البنت قلبت حالي.. حوَّاء قلبت حال آدم".
هز رأسه بقوَّة، ينفض ما بدأ يلتصق بعقله.
"ليلتصق بالقلب ما يلتصق.. هفوة وينصلح الحال.. لكن
العقل لازم يبقى عفي.. منزَّه عن الحب والكلام الفاضي ده.. خاصة هذي العقول التي
تعتمل في تلافيفها هموم كبرى".
الطريق الإسفلتي، الواسع، الذي يصل جبل القرنة الغربي
بنهر النِّيل.
حقول القصب تمتد علي مرمي البصر، تمثالا ممنون يراقبان
الزَّمن بثبات، وجبل القرنة رابض بملامحه الفرعونية، مثل أسد في تمام الانتباه،
يستشعر خطرًا، ما، يقترب.
"بحبَّها !؟".
ارتبكت خطواته علي الأسفلت، وشعر برأسه يدوخ، فوقف ينظر
حوله مثل تائه ضل الطَّريق.
"تِحبَّها؟!
تحب واحده بتحادّ الله ورسوله؟!
بنت بتجهر بالمعصيه! وتشيع الفاحشه فِ الأرض بسفورها الفاجر؟! بدل ما تتبرأ من أفعالها
تِحيَّها؟!".
"جدِّد إيمانك يا من تدَّعي الإيمان".
أخرجه من سرحانه كلاكس سيارة كبّوت، ينبِّهه السَّائق إن
كان يحتاج توصيلة حتَّى المعدِّية، فأشار إليه بالتَّوقُّف.
وركب.
في الكبُّوت مزيج من رجال ضربهم الهِرم، يرتدون الجلابيب
الصَّعيديَّة، ذات الأكمام الواسعة، وقد غطوا رؤوسهم بلفائف العمم البيضاء، وشباب
يرتدي أحدث ما طلعت به المودة، ونساء ريفيَّات اكتسين بالجلابيب السَّوداء
الطَّويلة، والطُّرح التي تنسدل على شعورهن، وأخريات يرتدين الفساتين الملوَّنة،
وكشفن شعورهن، وتلوَّنت وجوههن بألوان الماكياج.
"ما هو حريم بلادنا بيعصوا ربَّنا بالتَّبرج
برضه.. طب ليه مش بنضربهم
بالجنازير؟!".
السَّيارة تقطع الطَّريق برتابة، جبل القرنة الرَّابض
مثل أسد منتبه يبتعد حثيثًا، وتمثالا ممنون ينداحان إلى الوراء.
"باين علينا ما بنضربش اللي بنحبُّهم مهما كانو
بيعصو الله".
"أستغفر الله العظيم".
كانت السيارة تقترب من النهر.
ترتدي "تي شيرت" نصف كم أحمر، وبنطلونًا واسعًا أبيض، الهواء يطيِّر
شعرها، ويملأ الشُّراع الضَّارب في السَّماء، فيتهادى المركب، فوق صفحة النِّيل،
مثل إوزَّة رشيقة.
فردت ذراعيها بشكل متعامد على جسدها، تسمح للهواء
الدَّافئ بالتَّسلل من تحت إبطيها إلى باقي جسدها الملفوف، فيداعب مسام جلدها،
وتنتشي.
المركب مزدحم بأصدقائها وصديقاتها، يصنعون هالة من مرح
صاخب تتَّسع في سماء النِّيل، بدا وكأنَّهم نسوا أحداث الأمس المرعبة، رغم أن
الضُّمادات تتوزَّع على مناطق مختلفة من أجسادهم.
ـ واضح انِّك
زعلانه أوي من ميشو.. دا مش بتبصي ناحيته
حتَّى!
ـ أنا سافرت مع
بابا بلاد كتيره جُوَّا مصر وبرَّاها.. أزعم إن أجمل أوقات الطَّقس على مدار
السَّنة هيَّا أوقات الضُّحى فِ الشِّتا الأقصري.
ضحكت سميرة:
ــ دا انتي
زعلانه منه بشكل وحش أوي! مش طايقه سيرته
للدرجه دي؟!
صفحة النِّيل صافية الزُّرقة، ومركب كبير غير شراعي، صوت
محركه يطغى على صخب المرح، مملوء بالنَّاس، يمزِّق الأمواج الصَّغيرة، عابرًا
النَّهر من ضفَّته الغربيَّة إلي الضفَّة الشَّرقية، حيث مدينة الأقصر.
رأت لبنى المركب الكبير وهو يقترب جدَّا من مركبهم
الشُّراعي، حتَّي أنَّها، في لحظة، ظنَّت أنَّهما سيصطدمان، وقبل أن يدق قلبها
هلعًا، رأت ما كان مفاجئا لها جدَّا.
الملتحي، الأسطوري، ينظر إليها وقد فتح فمه وعينيه على
اتِّساعهما.
ـ هُوَّا.. هُوَّا!!
"هِيَّا.. هِيَّا!!".
تلوِّح له، في عينيها اللهفة، فهوى قلبه متراقصًا مثل
قشَّة في نسيم، ورفع ذراعه، كان سيلوِّح لها، أيضًا، عندما تذكر أنَّه ملتحٍ،
وأنَّ النَّاس ينظرون إليه.
وبينما مركبها الشُّراعي يبتعد، تحرك مهرولا إلي آخر
المعدية، كي تكون في حدود رؤيته لأطول وقت ممكن.
وعندما ابتعدت جدا، واختفت، سقط قلبه من شاهق، واصطدم
بصخور ناتئة، فتعلق صريعا بإحداها، ينبض بآخر قطرات دم فيه.
"شاورت لي وانا مش قادر اشاور لها!".
"أحسن انَّك ما شاورتش لها.. المرأة حبل من حبائل الشيطان.. يريد أن يسحبك
به من دنيا الله إلى عالمه المنحل.. يريد
أن يلقي بك في جهنَّم".
"لكن....".
استقرت المعديَّة علي المرسى المخصَّص لها، وتدافع
ركَّابها إلى خارجها، صاعدين السُّلم ذي الدَّرجات الصَّخريَّة إلي شارع الكورنيش.
معبد آمون ذي الأعمدة المهولة، والصُّروح الضَّخمة،
والشَّجر الذي تهذَّبت أغصانه فصار اسطواني الشَّكل، مرصوص على امتداد الشَّارع،
السِّياح يمضون على مهل، يستمتعون بشمس الضُّحى الأقصريَّة، والأفراس تركض راقصة،
تجر عربات الحنطور السَّوداء، المحلاة بصفائح النُّحاس اللامع.
رغم طول المسافة فضَّل أن يمشي على قدميه حتَّى فندق
إيزيس، مازالت أمامه ساعة من الوقت، والعديد من المشاعر المتضاربة، والمشي يساعد
كثيرًا على ترتيب الذِّهن.
لأوَّل مرَّة ينظر إلى السِّياح على أنَّهم بشر مثله.
في وجوه بناتهم ملامح من وجه البنت التي يحبُّها الآن،
إنَّهن جميلات جدًا، في عيونهن مرح برئ.
"السِّياح يحبُّون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين..
نظراتهم بريئه لكن قلوبهم مش بريئه خالص..
دي طريقتهم فِ نشر الفساد.. أنظر.. بناتهم عرايا.. نهودهن تتقافز مثل طيور
تذبح.. استغفر الله العظيم.. وراكهم بتلمع بالحُمره..".
اقترب من مبنى السُّوق السِّياحي، عن يساره بالضَّبط
الجزء الأخير من معبد آمون، قدس الأقداس، نُقشت على جداره، المواجه له، صورة
منحوتة لإله الخصب عند الفراعنة، رجل يقف مستقيمًا بينما بدا عضوه الذَّكري
منتصبًا تمامًا، طويلًا كخنجر، حيًا كغصن شجرة غض.
كثيرًا ما اختلس النَّظرات إلى هذا النَّحت الغريب في
أيَّام طفولته، وفي أيَّام مراهقته شغف بهذا النَّحت، ولمَّا عرف أن هذا إله الجنس
عند الفراعنة، أحبَّ الفراعنة الذين احترموا هذه الرَّغبة في الإنسان. لم يحقِّروا
الشهوة، ولم يباعدوا بين الرَّجل والمرأة، ولم ينكروا علي العشَّاق الحب.
"رغم انِّهم أوَّل من وحَّد الله..".
"الكورنيش" يذخر
بالسِّياح، ملابسهم خفيفة في عز الشِّتاء، مثل ملابس...
"اسمها إيه؟!
لازم اسمها جميل زيَّها.. خفيف
النُّطق.. مِدَّلع.. يا سلام لو يكون اسمها لبني! باحب الاسم دا..
لبسها خفيف مع إنها راكبه مركب شراعي فِ قلب النِّيل.. فِ عز الشِّتا.. زي الخواجات".
سائح عجوز يرتدي ملابس كاملة، زاهية، وبرنيطة تخفي نصف
رأسه، يقبض بيده على يد سائحة عجوز مثله، تمشي بجواره مبتسمة، وسعيدة.
"لا تغتر بسعادتهم الكاذبة.. الكفَّار لهم الدُّنيا وفقط".
"قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أحببت من دنياكم
الطيب والنساء".
"ولمَّا سألوه عن أحب النَّاس إليه، قال..
عائشة".
"أنت مجنون!؟ مقارنة إيه دي اللي بتعملها بينك وبين
أطهر خلق الله.. رسوله محمد.. ولا بين
واحده متبرجه تشيع المنكر في القلوب الظمآنه وبين عائشه المطهره من فوق سبع
سماوات؟!"
"بس اللي ف قلبي دا مِش حاسُّه منكر.. حاسُّه حب
للحياة".
يمشى متمهلًا، على يمينه المراكب الشُّراعيَّة تنساب على
سطح النِّيل مثل نوارس، والأمواج الصَّغيرة تتقافز مثل آلاف من أسماك السَّلمون
الصَّغيرة، والحقول الخضراء افترشت البر الغربي حتَّى جبل "القرنة"
النَّابت في الأفق، وعلى شماله ربض، في أنفة وكبرياء، فندق ونتر بالاس القديم،
تحفة معمارية تحتفي بالإنسان المبدع.
لماذا يقطِّب الملتحي الأسطوري جبينه الآن؟!
"وهُوَّا حبِّي للحياه ممكن يتعارض مع حبِّي لله عز
وجل؟!".
"يا لبني..
انتي فين دلوقتي؟"
إنَّها في النَّهر، في مركب شراعي اختفى تمامًا من أفق
الرؤية.
"لو ربِّنا قدَّرلي أشوفها مرَّة تالته.. مش هاسيبها.. دا قلبها كان بيتنطَّط تحت الـ تي شيرت.. أستغفر الله العظيم".
هتفت بلهفة:
ــ
هُوَّا.. هُوَّا.
وأخذت تلوح له
بكلتا ذراعيها.
"سميرة" اندهشت:
ــ مين دا؟!
ــ الملتحي
الأسطوري اللي ضربنا في القطر.
فتحت سميرة عينيها على منتهى اتساعهما، المعدية تمرق
أمامها مزدحمة بالبشر، وثمَّة ملتحٍ يبدو واقفًا، بين النَّاس، يحملق في لبنى، بدا
شكله مختلفًا عن شكل الملتحين، الإرهابيين، الذين ضربوهم في القطار، كانوا يرتدون
جلابيب بيضاء، وطواقي بيضاء، لكن هذا الملتحي يرتدي قميصًا هفهافًا أسود، منقوشًا
بخطوط طولية زرقاء، فوق بنطلون من الجينز السَّميك، شعره منطلق من غير طاقية،
ولحيته تلمع من غزارة دهنها.
كان أقرب إلي شباب الهيبز، من أن يكون متطرِّفا
إسلاميَّا.
ــ معقوله؟! دا مش شبهُّم أبدًا يا لبني!
المعدِّية تبتعد متوجِّهة نحو البر الشَّرقي، والمركب
الشُّراعي يمرق نحو الشَّمال، كادت لبني تقفز ناحية المراكبي لتصرخ فيه بطلب
العودة إلى الشَّاطئ، لكنَّها لم تفعل خجلًا من الأصدقاء.
"هُوَّا لابس كدا ليه؟!".
ـ إيه رأيك بأه
يا سميره .. الملتحي الأسطوري وللا ميشو؟!
كانت نظرات الاندهاش لم تفارق بعد عيني سميرة، تتابع
المعدِّية التي تبتعد، فقط حوَّلت عينيها إلى وجه لبنى وقالت:
ــ انتي مجنونه
يا لبني؟!
ـ شكلي كدا حبيت
الأسطوري دا يا سميره.
ــ إيه؟! بتقولي إيه؟!
تحبِّي إرهابي؟!
هزت لبني رأسها مؤكِّدة، بينما نظرة تحدٍ تلوح في أفق
عينيها، قالت:
ــ مِش إرهابي.
واصلت سميرة النَّظر باندهاش إلى لبنى، وقالت بنبرة
ساخرة:
ــ وهُوَّا اللي
بيفرض أفكاره بالقوَّة على النَّاس ممكن يكون إيه غير إرهابي؟!
ــ بالمعنى دا
كلِّنا إرهابيين.. كلنا بيحاول يفرض أفكاره
على الآخرين بشكل أو بآخر.
ـ أنا مستغرباكي
جدا يا لبنى! انتي لغاية ليلة امبارح كنتي
بتحبي ميشو!
صوتاهما يتوه في
صخب أغاني أصدقاء الرِّحلة، والمركب الشُّراعي ضرب في عمق الشَّمال جدًا، حتَّى إن
بنايات الأقصر وعمائرها اختفت عن أنظار الجميع، وبدت على جانبي النَّهر لوحات
الخضرة المرسومة للحقول والنَّخيل، كل التَّضاريس تغيَّرت، إلَّا جبل القرنة
البعيد، ما زال رابضًا خلف الحقول، يتوهَّج تحت أشعة شمس تتَّجه نحو قلب السِّماء.
ــ ميشو؟! دا بنت مش راجل.. دايمًا قاعد مع شلِّة بنات وعمَّال سهوكه
معاهم! بصِّيلو كدا!
"لكن.. الملتحي الأسطوري راجل كامل الرجوله.. عيشته بين الرِّجاله.. وبيضرب ضرب رجَّاله..
حياته زي حياة الفرسان.. مليانه
أخطار.. لكن عينيه مليانه حنان.. آه من عينيه".
ـ لو شوفتي في
عينيه اللي انا شوفته يا سميره!
***
واجهة مدخل فندق إيزيس، زجاج غامق فخم، خادم يرتدي جلبابًا مزركشًا على النَّسق
المملوكي يفتح الباب.
دخل.
نظر إلى الجالسين في اللوبي نظرة متفحِّصة.
رست نظراته على وجه شاب جلس وحيدًا في ركن منزو، يرتدي
"تي شيرت" أبيض، وسروالًا قصيرًا يتجاوز الرُّكبة بقليل.
تحرك ناحيته، وعندما اقترب منه ألقى عليه تحيَّة الإسلام
بصوت كاد يكون هامسًا.
رد الشَّاب التَّحية بصوت منخفض أيضًا، لكنَّه حاد
وبارد، مثل نصل سكِّين، وأشار بيده يدعوه للجلوس.
جلس في الكرسي الوثير، ثمَّة موسيقى هادئة تنساب في عبق
بارفانات تشع من أجساد تستمتع بالحياة.
تقدَّم، الشَّاب، بجذعه إلى الأمام، مقتربًا من الملتحي
الأسطوري، وهمس بصوته الحاد، البارد:
ــ بكره بمشيئة
الله.
ـ هُوَّا ممكن
يا سميره الأقدار تعملها تاني.. وأقابله صدفه فٍـ البر الغربي بكره؟!
ــ والله موش
بعيده! اللى خلَّاكي تشوفيه صدفه النَّهارده ممكن يخِّليكي تشوفيه صدفه بكره!
جبل القرنة يظهر في أفق الليل كتلة ظلام، ترتعش فيها
مجموعة أضواء تعلَّقت به كحشرات تسلَّقت جسد حيوان ميت.
ـ. موش قادره
أحب الجبل دا!
في شرفة غرفتهما بالنُّزل، وهلال واسع، ذهبي، يتهيَّأ
للانزواء خلف سن الجبل، ورائحة أمواج "النِّيل" طازجة، أنفاس حياة من
صدر عذراء.
ـ من حسن الحظ ان حتسبشوت ما كانتش بتكره الجبل دا
زيِّك.. وإلَّا كنَّا اتحرمنا من التحفه المعماري اللي اسمها معبد الدِّير البحري.
باخرة سياحية تتهادى في النِّيل، تتلألأ أضواؤها وتنعكس
مرتعشة فوق الأمواج الصَّغيرة.
ـ حتسبشوت بَنِت
معبدها من أجل الموت.. دا جبل الموت.
هزت سميرة رأسها بدلال وقالت:
ــ أبدًا.. معلوماتك خاطئة يا لبنى هانم.. اللي بنى المعبد دا المهندس
"سنموت".. موش عشان
الموت.. عشان الحب!
ـ لأ !؟ وجبتي الكلام دا من فين بأه؟!
ـ يا بنتي انتي ناسيه إن أنا "آداب" قسم
"تاريخ"؟! قصة حب حتشبسوت لـ "سنموت" مشهورة.. ونهايتهم
الغامضة خلِّت قصِّتهم مهيَّأة تكون من أجمل قصص العشَّاق فِ التَّاريخ الإنساني
كلُّه.
ـ جبل مليان
مومياوات! جبل مليان موت.. مستحيل يكون
مكان لقصة حب.
ـ بالنِّسبة للفراعنه كان الجبل دا ممر آمن لحياة الخلود
السَّعيده.. المهندس "سنموت" اختار أنسب مكان لبناء المعبد.. هُوَّا حَب يقول لحتسبشوت: حبنا خالد وسعيد.
ادارت سميرة
وجهها منصرفة عن النَّهر، لتنظر بتمعُّن في وجه لبنى.
انعكاسات أنوار لمبات الصُّوديوم الصَّفراء، المتراصَّة
بطول الشَّارع، على وجه لبنى جعلته نحاسيَّا، ومهيبًا مثل وجه ملكة فرعونية.
سميرة همست بالجد:
ــ انتي بتحبي
الإرهابي دا فعلا؟!
***
يجب أن يركع، قبل أن يعتدل، ليهوي ساجدًا، وإلَّا بطلت الصَّلاة.
هكذا هي صلاة المسلمين.
وأحلى ما يصلِّيه المسلم هي تلك الصَّلاة النَّافلة،
التي تكون في الثُّلث الأخير من الليل.
في هذا الوقت يتنزَّل الله من عليائه تنزُّلًا يليق به،
حتَّى لا يكون بينه والأرض أية سماء من سماواته السَّبع، يسمع للمقهورين، وأصحاب
المطالب، ويلبِّي.
بطلت صلاته، إذ أنَّه أخذ يبكي وهو قائم، يرتج بعنف،
ودموعه تسح مثل فيضان، وبدلًا من أن يركع أولًا، هوي ساجدًا، واختلط صوت بكائه
بكلام يتكلَّمه مع الله، وخرج صوته مثل عواء، وديك يصيح في الخارج.
"هاتعمل ايه بعذابي يارب؟! قلبي بين أصبعين من أصابعك.. تقلِّبه كيف شئت..
ليه قلبته ناحية البنت دي؟!".
وجهه منكفئ على الأرض، جبهته مضغوطة، أنفه منسحق بينما
مخاط ينساب منه، يمتزج بدموع عينيه الفيَّاضة، وعيناه غائمتان لا تريا إلا ظلام
الانكفاء.
"أنا أحبك يا الله أكتر من أي شىء.. لكن..".
رفع رأسه، واعتدل جالسًا على ركبتيه، يشهق كأنَّه سيموت،
ويمسح دموعه بكفَّين مفرودين.
"إحنا مش بنضرب النَّاس إرضاءً لله.. إحنا بنضربهم
عشان ما بنحبُّهمش.. بنضربهم عشان بنكره واقعنا اللي بيرغمنا على إنِّنا نتحوِّل
لمجموعة جُبنا.. الحكومه الظَّالمه.. الرَّئيس المستبد.. المعركه يجب أن تنتهي
بانتصارنا.. مش هانكون جُبنا أبدًا".
"يعني الله مش أكتر من وسيله.. هُوَّا سلاح
المعركه.. مِش غايتها!".
انتفض، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يصعد، بحذر، درجات
السُّلم الطِّيني، الصَّاعد إلي سطح البيت، والهواء البارد يحتوشه.
"البني آدم اللي قابلته في الفندق ليس في سيماه أي
ملمح من ملامح التقوى! شكله بتاع
مخابرات.. أو واحد من عصابه بلطجيه.. دا
أبعد ما يكون عن رجل من رجال الله".
سواد الليل، ليل ما قبل الفجر، السَّماء زيَّنها الله
بالنُّجوم الوامضة، هسيس حشرات الحقول، صمت البرِّية الهاجعة، يرى كتلتي تمثالي
"ممنون" رابضتين إلى الشَّرق من بيته، تنعكس عليهما الأنوار الذَّهبيَّة
التي تشعُّها أعمدة الطَّريق المسفلتة.
لكن نورًا غمر عينيه، فجأة، ليرى وجه فتاة القطار،
بريئًا، جميلًا، ساحقًا بدلاله، وخلفية موسيقية تنسكب مثل عطر المسك.
"هِيَّا ما خافتش مني ليه؟!".
جبل "القرنة" شاهق، التصقت البيوت بانحداره،
يربض مثل أسد يترقَّب خطرًا يقترب.
"بحبَّها..
أهواها.. بعشقها".
فوق السَّطح، يرى الدُّنيا في ظلام الاستكانة، حقول
القصب تمتد إلى حيث لا نهاية، النَّسيم بارد، وحبيبة مجهولة، لا يعرف لها مكان سوى
أنَّها في مكان ما من مدينة الأقصر، بالتَّأكيد هي في أحد الفنادق، والأقصر تذخر
بعشرات الفنادق ذات الدَّرجات السِّياحية المختلفة.
"البحث عنها مِش هايكون من الأعمال التي ترضي
ربِّنا".
تتقلَّص معدته، تنقبض، تنقلب، رغبة مفاجئة في التقيُّؤ،
يزوم، ينفجر، صدره يتطبَّق، عواؤه يتردَّد بين جذوع النَّخيل، يمزِّق خشوع ليل ما
قبل الفجر، فتبادله الكلاب نباحًا عاليًا، عشرات الكلاب تنبح في كل مكان من الأرض،
ويشعر بمعدته تدفع ضلوعه، تشق طريقها بمنتهى الصُّعوبة ناحية فمه، تريد أن تترك
البطن.
"مافيش أقوي من الله سلاحًا في حربنا ضد التَّجبر
والطُّغيان، لن نصبر يومًا واحدًا لو ما حاربناش باسم الله".
"اعترفت أيها الحقير! الله مِش أكتر من مقوِّي..
حبوب للشجاعه.. أو مسكِّن للألم.. لم تكن حربنا يومًا في سبيل الله".
عواء القىء يمزق، بضراوة، لحظات السَّكينة السَّابقة
للفجر، وصار نباح الكلاب يملأ الأرض.
"في أي آيه من القرآن حرَّم الله علينا حُب
البنات؟!".
القىء ينقطع فجأة، وتنزلق المعدة منسابة إلى مكانها، تخف
حدَّة نباح الكلاب، والدُّموع والمخاط بلَّلا وجهه ولحيته بغزارة، يستنشق الهواء
ببطء من يعود للحياة.
نسيم الفجر يدنو، وصوت كروان عابر، كروان وحيد.
ـ الله أكبر.. الله أكبر.
صوت المؤذِّن نعسان، خاشع، طري، يتضوَّع بنسمات الصَّباح
المقبل، ويمتزج بصدح "الكروان" الوحيد.
"أهواك..
أهواك.. أهواك".
***
الساعة الثامنة والنصف صباحًا، حافلة سياحيَّة فخمة تقف في مكان مجاور لـمرسى
المعدِّية في البر الغربي، سائقها يجلس بداخلها، يستمع لإحدى محطَّات الرَّاديو
الإخباريَّة، عندما فوجئ بشاب يرتدي زي شرطة الأمن المركزي الأسود، يدلف إلى
الحافلة بسرعة، مدجَّجًا ببندقية سريعة الطَّلقات، وعندما فتح السائق فمه، معترضًا
علي سلوك هذا المجنَّد، كان آخرون، يرتدون نفس الزي، يصعدون إلى الحافلة بنفس
الخفَّة والرَّشاقة، مدجَّجين بنفس السِّلاح، نظراتهم القاسية أغلقت فم السائق
تمامًا، وعندما أمره أحدهم بالتَّحرك، وقد وجه فوَّهة ماسورة البندقية إلي صدغه،
أيقن أنَّه قد وقع ضحيَّة عملية إرهابيَّة من تلك العمليَّات التي انتشرت في صعيد
مصر مؤخرًا..
الحافلة تمضي على الطَّريق المتَّجه إلى جبل القرنة،
طيور أبو قردان تحلِّق في السَّماء، شمس ناصعة السُّطوع تنشر دفئًا في الأرض،
ودقَّات جرس كنيسة في البر الشَّرقي تتراقص مع النَّسيم، يُشرق صوتها لحظات،
ويختفي أخرى.
الحافلة السِّياحية تجري بسرعة، في باطنها خمسة من رُسل
الموت.
تمثالا ممنون لاحا على يمين الطَّريق، محا الزَّمن
وجهيهما، وهشَّم بعضًا من أجزائهما التي نحتها صبر الانسان.
ظهرت في السَّماء أسراب غربان، وجبل القرنة أسد رابض،
نفر شعره الغزير حول رأسه.
الخطر يقترب جدًا.
الملتحي الأسطوري يقف بمحاذاة تمثالي ممنون، ينتظر
الحافلة وقد حمل، أيضًا، سلاحًا غطَّاه بلفافة من قماش.
أبطأت الحافلة من سرعتها، وما إن انفتح بابها حتَّى قفز
إلي داخلها، قبل أن تقف تمامًا، فأخذت تستعيد سرعتها.
كان عليه أن يغيِّر ثيابه، ويرتدي زي عساكر الأمن
المركزى.
أقل من خمس دقائق ستمر قبل الوصول إلي الهدف، كمين
الشُّرطة الرَّئيسى الذي على المفارق، ثم نقطة الشُّرطة السِّياحية الموجودة هناك.
عملية كبيرة، إن تمَّت بدقَّة ومهارة، ستكون صفعة
مدوِّية علي وجه وزارة الدَّاخلية، بل على وجه الحكومة كلِّها، التي سيشلها توقف
السِّياحة.
حاول أن يختلس نظرات خاطفة لعيون رفاقه، عيون صامتة،
راكدة، مثل كائنات ميتة، لم يشعر ناحيتهم بمودَّة الأخوَّة في الجهاد، ولا تلك
البراءة التي استشعرها في تنفيذ عمليات سابقة، لم يكن في صدوره هؤلاء هذا الغضب من
أجل الله، الغضب الذي لا يقتل الحياة فى نظرات العيون.
"هل فيهم حد بيحب بِنـ...؟!".
"لا أظن..
العيون دي لا يمكن تكون عيون محبِّين".
"ومين أدراك بعيون المحبِّين!؟ هَه!؟
كانَّك قضيت عمرك عاشق؟!".
"حبينا واحنا عيال.. وفي المراهقه.. قبل ما يِمِن الله علينا بالطريق ده.. كانت
عيوننا بتتكلِّم.. عيون المحبِّين مِش خرسا زي عيون الجماعه دولا".
سمع صدى عوائه
وهو يتقيَّأ ليلة الأمس، ونباح الكلاب التي أيقظها صوته، ودعاء الكروان.
"يمكن فِ اللي هايموتو النَّهارده حد ليه بنت بتحبه
مستنظراه".
وسطع وجه لبنى.
عبرت الحافلة المفارق، ولم تتوقَّف عند الكمين، وإنَّما
اتَّجهت إلى اليمين، كما أشار أحدهم إلى السَّائق.
كان هذا مفاجئًا للملتحي الأسطوري، فالذي يجري الآن هو
خارج الخطَّة التي يحفظها، ورغم ذلك لم يكن بمقدوره النُّطق.
تلجأ قيادة الجماعة، كثيرًا، لمثل هذا التَّمويه، حتَّى
لا تستطيع الأجهزة الأمنيَّة التَّعرف على خططها بالتَّجسُّس، أو التَّعذيب.
في النِّهاية، هناك خطَّة، ويجب أن تُنفَّذ.
تجري الحافلة على الطَّريق الإسفلتي، المُحازي لسفح جبل
القرنة، الذي يكاد يهب، من ربضته، من فرط احساسه باقتراب الخطر.
***
ـ فعلًا يا
سميرة.. "سنموت" كان عاشق
حقيقي!
لبني تنظر إلي معبد حتسبشوت بعينين مندهشتين، وقلب
منبهر.
ـ العاشق مبدع.
ـ وخايف دايمًا
يا سميرة! بصِّي للمعبد.. كإنِّه مستخبي فِ حضن الجبل! إيه اللي خلَّى "سنموت" يحاول إخفاء
هذا العمل الفذ؟!
"سلوك العشاق هو إخفاء مشاعر الحب، كتمانها، أروع
الحب أكتمه، العاشق يذيبه الهوي ولا يجرؤ على التأوه".
ـ سميره.. أنا حاسَّه اني هاقابل الملتحي الأسطوري هنا.
ــ مستحيل
تقابليه هنا إلَّا إذا كان جاي هًوَّا وأصحابه عشان يضربونا بالجنازير!
واستدركت، سميرة، وهي تنظر في ساعتها:
ــ السَّاعة
دلوقتي تسعه الَّا رُبع.. ولسَّه قدَّامنا
معابد ومقابر فرعونيه كتيرة لازم نزورها..
ونهار الشِّتا قُصيَّر يا لبني.. وانا موش باحب الفرجه عَ الآثار بالليل.
ـ ليه؟!.
غمزت سميرة بعينها وهي تهمس:
ــ الليل
للرومانسيات يا عبيطه!
السَّاحة الواسعة، أمام المعبد، ازدحمت بالسِّياح الذين
ينتظرون أدوارهم لدخوله بصحبة المترجمين، وبعدد غير قليل من طلبة وطالبات الجامعات
الذين انهمكوا في المرح، بينما انتشر في المكان باعة الطَّواقي والهدايا ذات
السَّمت الفرعوني، وبازارات صغيرة اصطفَّت في صفَّين قصيرين، بينما موسيقي صاخبة،
غربية، تضج في المكان.
كانت لبنى قد بدأت تنظر إلي الطريق بقلق المنتظر.
ـ مالك يا
"لبنى"؟!
ـ حسَّاه
قُريِّب أوي..
حافلة سياحيَّة تتوقف بالقرب منهما، ينفتح بابها، ليقفز
منه عساكر أمن مركزي بزيِّهم الأسود، مدجَّجين بالبنادق سريعة الطَّلقات.
مزق صوت الرَّصاص، الذي انهال ناحية السائحين مثل المطر،
ضجيج الموسيقى الغربية.
لعن الله المفاجآت، إنَّها مربكة.
قبل أن يعي أحد ما يحدث، كانت أجساد كثيرة قد سقطت مضرجة
في دمائها.
ورأته.
الملتحي الأسطوري، مدجَّجًا بالسِّلاح، شعره الطويل يطير
حوله، ولحيته تنساب مثل شلَّال صغير، وفي عينيه حب.
الجميع يجري هربًا من المكان، علا التُّراب الأصفر
الرملي كسحابة، وجبل القرنة الصَّلد، خلف معبد حتسبشوت، يزأر بصدى صوت الأعيرة
النَّارية التي تفح من غير انقطاع.
الشَّمس مبهرة، وضحى الشِّتاء الأقصري دفؤه بالغ
الرَّوعة.
رأى الملتحي الأسطوري سائحًا شابًا ينكفئ علي رفيقته،
التي استلقت ميتة على الرمال، يتفجَّر الدَّم من رأسها، يريد أن يرفعها ليجري بها
بعيدًا عن فيضان النَّار، فيخترقه الرَّصاص ليسقط فوقها.
قد لا يكون في هذا العالم من أحب أحدًا مثلما أحبَّت
لبنى هذا الملتحي الأسطوري، وإلَّا كيف تلهَّت عن كل ما يجري حولها، لتهرول بلهفة
في اتِّجاهه، في عينيها حياة جديدة، نضَّاخة، فوَّارة بالعشق!؟
لم يكن قد أطلق أيَّة رصاصة، فقط ينطلق خلف رفاقه، مذهول
بما يجري، إنَّهم لا يُطلقون الرَّصاص وفقط، إنَّهم يمزِّقون من يلقونه بخناجر
مرهفة.
"ايه دا؟!".
وفي لحظة داهمه شعور طاغ.
"لبنى!!".
رآها وهي تجري باتِّجاهه، ملهوفة، في عينيها حياة جديدة،
نضَّاخة، فوَّارة بالعشق، تخترق الغبار ، تطير فوق الجثث، تحلِّق بين زخَّات
الرَّصاص، تخترق صرخات الرعب بوجهها المطمئن.
معبد الدَّير البحري، قصة حب خالدة ربطت بين حتسبشوت
و"سنموت"، ومنحوتة نهايتهما الغامضة.
زخَّة رصاص فائر تشرخ الهواء، تنطلق بسلاسة لتمزِّق نهد
لبنى الأيسر، وتخترق قلبها، ثم تفتِّت لوحة الكتف، وتخرج من ظهرها.
الدَّم يّبُك، ولبنى تواصل الجري باتِّجاه الملتحي
الأسطوري، بينما ابتسامتها المتَسعة تضيق، وألم ينشع في عينيها.
في السَّماء أسراب من طيور الإوز المهاجرة، تحلِّق
بعيدًا، بدأب.
سقطت لبنى على وجهها، وبينما تغالب الموت، ترفع رأسها
تنظر للملتحي الأسطوري، وقد وقف بجوارها كتمثال فرعوني، يحدِّق بذهول، من غير
حركة، في عينين تفرفطان.
"معقول انِّ رسولنا صلوات الله وسلامه عليه ما
اتكلمش عن الحب؟!".
يميل عليها، يجلس بجوارها، يعدل من وضعها لتستلقي على
ظهرها، يضع رأسها علي فخذه، يمسح خديها، همست:
ــ اسمي لبنى.
همس:
ــ عارف.
ابتسمت.
انهمرت دموعه.
ضحى الشِّتاء الأقصري دفؤه بديع، وصوت الرَّصاص
المتقطِّع، وأصحاب البذلات الميري السَّوداء، ينهبون الجثث، ويمزِّقونها بالخناجر.
تحشرج صوتها:
ـــ
أهواك.. باحبك.. باعشقك.
عوي مثل كلب متعب.
***
لم يكن رأسها ثقيلًا عندما مال، لم تكن عيناها مرعبتان عندما ثبتتا ناحية سرب
إوز بدا وكأنَّه مرسوم في لوحة الَّسماء.
"كام حديث عن الحب تحدَّث به رسول الله ولم ينقله
لنا الرُّواة؟".
أراح رأسها على الرمل، وقف، وببطء رجل بلغ من الهرم
عتيَّا رفع بندقيته، صوبها ناحية رفاقه، وضغط على الزِّناد.
"أحبَّ الله أن يسعد آدم فخلق له امرأة
تحبُّه".
كان يغرس دبشك البندقيَّة في الأرض، وينكت ماسورتها في
قلبه، عندما قفزت إلى ذهنه صورة إله الخصب الفرعوني، وعضوه المنتصب يرتعش رغبة في
النَّماء.
ضغط علي الزناد.
بدت إوزَّة أخرى، بيضاء، تطير بكل ما تملك من قوَّة،
تحاول اللحاق بالسِّرب السَّاكن في لوحة السَّماء .
ضحي الشِّتاء الأقصري بديع جدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كُتبت قصص مجموعة "أهواك" بين
عامي 2011 و2013 الميلاديين.

إرسال تعليق