الكتابُ الأوَّل : أحاديثُ الوَحي
باب 2 : في صِفةِ الوَحي
تظَلُّ الصِّلةُ بين السَّماءِ والأرضِ من الاختراقاتِ غير المُدرَكةِ عقلًا؛، والصِّلةُ المقصودةُ، هنا، ليست تلكَ المُتحقِّقة بالعلومِ الطَّبيعيَّة، وعلى أسُسِها اتَّصلتِ الأرضُ بالسَّماءِ عبر المَسابر الفائقةِ، أو الأقمار الصِّناعيَّة، أو مركباتِ الفضاء، بل الصِّلةُ الرُّوحانيَّة ذات التَّحقُّقِ الإيمانيّ بوجودِ خالقٍ، بانتفائه لا يمكن تفسيرُ تركيباتِ الكَون، ولا اشتباكاتِ مخلوقاتِه.
ونظرًا لِما ترسَّخَ في عقلِ الإنسانِ من استحالةِ القدرةِ على التَّواصلِ مع الغَيبِ الإلهيِ بشكلٍ مباشرٍ، فإنَّ خروجَ أحدِهم ليقول: "كلَّمني رَبِّي"، أو: "أرسلَ إليَّ مَلَكًا بالوَحي"، يُعدُّ أمرًا مُستنكَرًا، لا يمكن التَّصديق به؛ وحتَّى في حالةِ الإيمانِ الوَثيق بصدقِ النَّبيِّ، من الأنبياءِ، ونَبالةِ رسالتِه، يظلُّ قلبُ المؤمنِ على درجةٍ من الشَّكِّ.
وقد صوَّر القرآنُ الكريمُ، بآياتٍ محكماتٍ، مشهدًا غايةً في الرَّوعة، مُعبِّرًا بدقَّة عن النَّفسِ البَشريَّة القَلِقة مهما قُرِئ عليها من دلائلٍ وبَيِّناتٍ تَقتضي تصدبق ما أُنزِل إليها. ها هو امرؤ ليس من عَوامِّ البشرِ، بل نبيًّا من أولي العَزم، بل هو أبو الأنبياءِ إبراهيم، عليه الصَّلاة و السَّلام، يسألُ اللهَ أن يُريَه كيف يُحيي المَوتى؛ وقد عَلمَ اللهُ الدَّافعَ الحَقيقيَّ وراءَ هذا السُّؤال، فأنكَرَ عليه: {أوَ لَم تؤمِن}! كأنَّ إبراهيم، بسؤالِه، قد شَكَّ في قدرةِ الله تعالى، والشَّكُّ قادحٌ في اليقينِ. فخرجَ منها إبراهيمُ بأن قالَ: {بلَى، ولكن ليَطمئنَ قلبِي}. فهذا حالُ الأنبياءِ أولي العزمِ مع القلق الإيمانيّ، وسيأتي مثله، بإذن الله، من نَبيِّنا مُحمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، في شرح تَتمَّة أحاديثِ كتابِ "بدء الوحي"، فكيف بحالِ عَوامِّ المؤمنين!؟
في الحديثَين التَّاليَين ينقلُ الرُّواةُ عن الحارث بن هشام أنَّه سألَ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، عن كَيفيَّة إتيانِ الوَحي إليه.
والحارثُ بن هشامٍ أخٌ شقيقٌ لعمر بن هشام الشَّهير بأبي جَهل، فرعون الأُمَّة، وأكبر صناديد الكفر؛ فسبحان الذي أخرجَ من ضِئضئِ رجلٍ واحدٍ، ومن رحمِ امرأةٍ واحدةٍ، أخوَين شقيقَين، أحدهما يروي عن رسولِ اللهِ، صلَّى الله عليه وسلَّم، فيترَضَّى عنه المسلمونَ إلى يومِ الدِّينِ، والآخر يُجهِّلهُ النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، فيلعنُه المسلمونَ إلى يوم الدِّين!
الحديثان:
1 ـ حدَّثنا عبدُالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ عمّ هشام بن عُروة عن أبيهِ عن عائشة أمِّ المؤمنين، رضي الله عنها، أنَّ الحارثَ بن هشام، رضي الله عنه، سألَ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ كيف يأتيكَ الوحيُ؟ فقال رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم: "أحيانًا يأتينِي مثل صلصلةِ الجرسِ وهو أشدُّه عليَّ فيفصم عنَّي وقد وَعَيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثَّل لي المَلَكُ رجلًا فيكلَّمني فأعي ما يقول". قالت عائشةُ رضي الله عنها: ولقد رأيتُهُ ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشَّديد البَرد فينفصمُ عنه وإنَّ جبينَه ليتفصَّدُ عَرَقًا.
حديث 2 ـ كتاب بدء الوحي ـ باب 2.
2 ـ حدَّثنا فَروة، حدَّثنا علي بن مُسهِر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، رضي الله عنها، أنَّ الحارث بن هشام سأل النَّبيَّ، صلَّى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ قال: "كلُّ ذلك. يأتيني المَلَكُ أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، فيفصِم عنِّي وقد وعيت ما قال، وهو أشدُّه عليَّ، ويتمثَّل لي المَلَكُ أحيانًا رجلًا فيكلِّمني، فأعي ما يقول".
حديث 3215 ـ كتاب بدء الخلق ـ باب 6؛ ذِكر الملائكة.
"صلصلةُ الجَرَس": طنينٌ ينتجُ عن قرعِ الجَرَس.
و"يَفصِم": يَنقطِع: الفَصمُ: قطعٌ بلا إبانة، أي: انقطاعٌ يمكن أن يتَّصل. والقَصمُ: قطعٌ بإبانة، أي: انقطاعٌ نِهائيٌّ لا اتصال معه.
و"يتَفصَّد": يَسيل.
فعرضَت للعلماءِ مسألةٌ مُحيِّرةٌ: تشبيهُ الوَحي بالجَرَسِ.
وكان حديثٌ آخر للنَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أوردَه مُسلمٌ في صحيحِه أخبرَ بأنَّ الملائكةَ تنفِر من رفقةِ كلبٍ أو صلصةِ جرسٍ، فكيف يُشبَّهُ المَحمودُ (الوَحي) بالمَذمومِ (الجَرس)؟
بعد البحث المُتأنِّي خرجت إجاباتُ العلماءِ على النَّحو الذي ساقه العسقلانيُّ، فقيل: لا يلزم في التَّشبيهِ تَساوي المُشبَّه بالمُشبَّهِ به في الصِّفاتِ كُلِّها، بل ولا في أخَصِّ وصفٍ له، بل يكفي اشتراكُهما في صِفةٍ ما. أقولُ: أي: المَقصود ليس تشبيه كُلّ الوَحي بكُلّ الجَرَس، بل تشبيه شِدَّة الوَحي بقُوَّة صلصلةِ الجَرس، وليس من صَوتٍ على نفسِ الدَّرجة من قوَّةِ صلصلةِ الجَرس يعلمه السَّائلُ (الحارث بن هشام)، فيُحيله النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، إليه.
وقيل: الصَّوتُ له جِهتان: جهةُ قوَّةٍ وجهةُ طنينٍ، فمن حيث القوَّةِ وقعَ التَّشبيهُ به، ومن حيث الطَّرب وقعَ التَّنفيرُ عنه، وعُلِّل بكونِه مزمار الشَّيطان.
وقيل: يُحتَملُ أن يكون النَّهيَ عنه وقعَ بعد السُّؤالِ المذكور.
أقولُ: قد اعتادَ كثيرٌ من العلماءِ، على طولِ التَّاريخِ الإسلاميِّ، إذا عرضتْ لهم مسألةٌ ظنُّوها مُنقِصة للمقام النَّبويِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، اللفَّ والدَّورانَ حولها، لإيجادِ مَخرجٍ منها، ولو اضطرَّهم هذا إلى قبولِ ما لا يقبله العقلُ، أو المَنطقُ، أو الفِطنةُ على فطرتِها. من ذلك زعمُهم أنَّ تشبيهَ شِدَّة الوَحي (على كرامَتِه) بصلصلةِ الجَرسِ (على نفورِ الملائكةِ منها) مقبولٌ ذَوقًا! فكيف يُقبَلُ وقد وردَ في كُتبِ الأدبِ أنَّ شاعرًا مدحَ وفاءَ مَلِكٍ، فقَرَنه بوفاء الكلبِ! ومعلومٌ أنَّ الشَّاعرَ لم يُشبِّه المَلِكَ كلّه بالكلبِ كلِّه، بل شبَّه وفاءَ المَلِكِ بوفاءِ الكلبِ، مع ذلك كرهِهُ المَلكُ وضَعَّفه الشُّعراءُ. فإذا لم يكن تشبيهُ وفاءِ المِلكِ بوفاء الكلبِ لائقًا الخليفة، وهو إنسانٌ خَطَّاءٌ، فمِن بابٍ أوْلَى لا يليق تشبيهُ شِدَّة الوَحي الإلهيِّ بقوَّةِ صلصلةِ الجَرَس المَعدودة في أصواتِ الشَّيطان!
وفي القَولِ الثَّاني اعتُبِر الطَّنينُ صوتًا مُطرِبًا! وهو اعتبارٌ تأنَفُ منه الذَّائقةُ السَّمعيَّةُ السَّليمة، فلا يمكن لصَوتٍ مُتداركٍ من رنينٍ ممدودٍ أن يكون مُطرِبًا، بل كثيرٌ من النَّاسِ لا يتَحمَّلون سماعَ أصواتِ الطَّنين والرَّنين والصَّلصلة، فتَكزُّ لها أسنانُهم، وتقشَعرُّ منها جلودُهم؛ ولم يكنِ الجَرسُ مشهورًا في آلاتِ الطَّربِ، بل في آلاتِ التَّنبيه، وهو الجُلجُل، علَّقوه في رقابِ النذُوقِ والدَّوابِّ حتَّى لا تَضلّ عنهُم.
وفي القَولِ الثَّالث محاولةٌ ساذجةٌ لإزاحةِ النَّهي عن الصَّلصلةِ إلى بعد زمنِ سؤالِ الحارث، وهي محاولةٌ تقدحُ في المُروءةِ العِلميَّة لأصحاب ذلك الرَّأي، إذ لن يكون الصَّوتُ، ذي الطَّبيعةِ الثَّابتة، مُستحبًّا في وقتٍ ومكروهًا في آخر! ثُمَّ، إذا كانت كرامةُ الأشياءِ من كرامةِ أصحابِها، أو لكرامةِ المَواقعِ، أو الوَقائعِ، فحَقٌّ لصلصلةِ الجرسِ أن تكون أكرمَ الأصواتِ، لأنَّها شابَهت شِدَّةَ الوَحي، ما لا يجعَلها من المَكروهاتِ في أيِّ زمانٍ، خاصَّة وقد قيلَ إنَّ النَّبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، نهَى عن الجَرسِ لأغراضٍ اتُّخذَ لها، لا لذاتِه، فهو يُعلَّقُ برقابِ الجِمالِ والأفراسِ، فيكشِفُ عن حركتِها وقتَ الحربِ، فيما كان يُحبّ السِّريَّةَ التامَّةَ حين يشرعُ في الغَزوِ؛ وقيل مِنهم مَن علَّق الجرسَ تميمةً، فخَوَّفهم بأنَّ الملائكةَ تنفرُ من رفقةِ أصحابِ كلبٍ وأصحابِ تمائمٍ.
وأضيفُ: ربما كَرِه النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، الجَلاجِلَ لأنَّ صلصلَتَها تُشوِّش عليه في أثناء استقبال الوَحي، لمشابهةِ صوتِه صوتَها، كما في الحديثِ.
وأشيرُ إلى أنَّ المُشكلَ دائمًا ما يكون عند العُلماءِ الذين تثحيِّرُهم ظنونٌ ومخاوفُ لا مَحلَّ لها إلَّا في أذهانِهم، فالنَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أوضحَ الأمرَ على الحقيقةِ، ولا تَجبُ مع الحقيقةِ حيطةٌ، وإلَّا لَما فُهِم أنَّه لا حياءَ في الدِّينِ، والعلمُ حقيقةٌ لا يُحتاط منها بالحياءِ، فوصَف، بالضَّبطِ، ما هو حقيقة علميَّة في الطِّبِّ المُعاصِر؛ إذ يصفُ الأطباءُ عَرَضَ ارتفاع ضغط الدَّم بسماعِ صوتِ طنينٍ أو رنينٍ مُتداركٍ مُستَمرٍّ. ولا مناص من أنَّ وقعَ الوَحي، وقد وصَفه النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، بالشِّدَّة والقوَّة، كان يرفع ضغطَ دَمِه، ما يَسمعُ معَه صوتَ الرَّنين، أو الصَّلصلة.
والمَلَكُ من المَلائكةِ.
قالَ المُتكلِّمون بنقلِ العَسقلانيِّ: الملائكةُ أجسامٌ عُلويِّةٌ لطيفةٌ، تتَشكَّل أيّ شَكلٍ أرادوا؛ وزعَمَ بعضُ الفلاسفةِ أنَّها جواهرٌ رُوحانيَّة.
واتُّفِق على أنَّ المَلكَ المُشار إليه، في الحَديثَين، هو جبريل، عليه السَّلام؛ وهو النَّاموسُ، صاحبُ السِّرِّ، الذي يُطلِعُ الأنبياءَ على ما يستُره عن غيرِهم.
يقول العسقلانُّي إنذَ الله، عزَّ وجلَّ، وصفَ جبريلَ بأنَّه "روح القُدُس"، وبأنَّه "الرُّوح الأمين"، وبأنَّه "رسولٌ كريمٌ، ذي قوَّةٍ مكينٍ، مُطاعٌ ثَمَّ أمين"،
ومعنى لفظة: "جبريل": عبدالله. وإذا كان اسمُه سُريانيًّا لكن وقع فيه موافقةٌ، من حيث المَعنى، للغةِ العرب؛ وذلك ـ بحسبِ العسقلانيِّ ـ لأن الجَبرَ إصلاحٌ، وجبريلُ أُوكِلَ بالوَحي الذي يحصلُ بهِ الإصلاحُ العامُّ.
وقيل: إنَّ جبريلَ عربيٌّ، واسمُّه مُشتَقٌّ من جَبروتِ الله. والقولُ لم يَرُق للعسقلانيّ، وقال إنَّ في لفظةِ "جبريل" ثلاثَ عشرةَ لغةٍ، أوردها العلماءُ على الآتي: جِبريل. جَبرِيل. جَبرَأل. جَبرَ. جَبرَلّ. جَبرائيل. جَبرايل. جَبرايئيل. جَبرال. جَبرايل. جَرين. جِرين. جَبرَن.
وقيل: جبريلُ من الكُروبيِّين، وهم سادةُ الملائكةِ.
وفي حديثٍ لابن عبَّاسٍ، أنَّ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، سألَ جبريلَ: "على أيِّ شيءٍ أنتَ"؛ قال: "على الرِّيحِ والجنودِ". والحديثُ ضعيفٌ.
وخلقَ اللهُ جبريلَ قبل آدمٍ، ويميتُه قبل مَلَك الموتِ مباشرةً. والله أعلم.
والتفتَ العلماءُ إلى المُفارقةِ المُروِّعةِ في الظُّهوراتِ المُختلفةِ لجبريل، شديدة التَّبايُن، بين تَجلِّيه للنَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، على صورتِه، مَلكًا عِملاقًا سَدَّ السَّماءَ بسِتِّمائة جَناحٍ، وظهورِه في هيئةٍ بشريَّةٍ ضئيلة، فحاولوا توليفَ التَّبايُنَ، فقال البعضُ، والكلامُ منقولٌ عن العَسقلانيِّ: تَمثُّل جبريل معناه أنَّ اللهَ أفنى الزَّائد من خَلقِه، أو أزالَه عنه، ثُمَّ يُعيده إليه بعد.
وقيل: يجوزُ أن يكونَ الآتِيَ هو جبريلٌ بشكلِه الأصليِّ، إلَّا أنَّه انضَمَّ، فصارَ على قدرِ هيئةِ الرَّجلِ، وإذا تركَ ذلكَ عادَ إلى هيئتِه، ومثالُ ذلكَ القُطنُ، إذا جُمِعَ بعد أن كان مُنتفِشًا، فإنَّه بالنَّفشِ يحصلُ له صورةٌ كبيرةٌ وذاتُه لم تتَغيَّر. وهذا على سبيل التَّقريب.
أمَّا العسقلانيّ نفسه فقد قالَ: والحَقُّ أنَّ تمثُّلَ المَلَك رَجُلًا ليس معناه أَّن ذاتَه انقلبتْ رجلًا، بل معناه أنَّه ظهَرَ بتلك الصُّورةِ تأنيسًا لمن يُخاطِبه؛ والظَّاهرُ أيضًا أنَّ القدرَ الزَّائدَ لا يزول، ولا يَفنَى، بل يَخفَى على الرَّائي فقط. والله أعلم.
وأقولُ: الملائكةُ ـ بالنِّسبةِ للمؤمنين ـ جزءٌ من عالمِ الغيبِ، يلزمُ الإنسانُ الإقرارُ بوجودِه، دون دليل عَينيٍّ، ليصير مؤمنًا؛ أمَّا علماءُ الطَّبيعةِ، الفيزيائيّون، فظلَّت علومُهم ـ إلى وقتٍ قريبٍ ـ أبعد ما تكون عن إثباتِ وجودِ عالمِ الغَيبيَّات المُعتبَرة عند المؤمنين بالأديانِ، ما كان نتيجتُه ظهور طائفةٍ من غير المؤمنين بالأديانِ، ارتكنَتْ إلى المَنطقِ العِلميِّ القائمِ على عدم الاعترافِ بعوالمٍ لم يثبُت وجودُها عِلميًّا. وزادتْ، تلك الطَّوائف، بأن اعتبرتِ الملائكةَ، وأمثالَها من مخلوقاتٍ غَيبيَّة، لا وجود لها إلَّا في وعيِ إنسانٍ مُتخلِّفٍ رَجعيٍّ، يؤمن بإلهٍ مُخترَعٍ، اخترعَته البشريَّةُ لأسبابٍ تتعلَّقُ بطَورِ نشأتِها الأوَّل. ثُمَّ لمَّا تقدَّمت، وأدرَكَت، وتطوَّرت، رفضَته، في حين بقِيَ جزءٌ مُتخلِّفٌ منها مُتمسِّكًا به.
طائفةٌ عِلمانيَّةٍ اغترَّت بعلمٍ في طَورِ البداءةٍ، أما والعلمُ، الآن، يخترقُ مجالاتٍ لم يبحث فيها من قبل، مثل الطَّاقةِ وكَمِّيَّتها وتكوينها النَّوويّ، وما لاحظَه من أنَّ جميع موجوداتِ الكَونِ قائمةٌ على ذَرَّةٍ، وأنَّ ترتيبات التَّكوين الذَّرِّي هو ما يُعطي الموادَ أشكالَها المُختلِفة، ويُعطِي المخلوقاتَ طبائعَها المتغايرة، ما يُمكن معه للعقلِ القبول بأنَّ الملائكةَ والشَّياطينّ، وما شابه، مخلوقاتٌ ذاتَ ترتيبٍ ذَريٍّ مُختَلفٍ، وأنَّها من عوالمٍ موازية، لا عوالم خُزعبلاتيَّة؛ ما يَنبني عليه احترام المخلوقاتِ للذرَّة احترام الإنسانِ لآدم، عليه الصَّلاة والسَّلام، فهو إذا كان أبًا للبشر، فالذَّرَّة أب المخلوقاتِ جميعًا، وفيهم آدم نفسه.
هل الاعتبارُ العِلميُّ قائمٌ أساسيٌّ في إيمانِ المُسلم؟
لا. فالإيمانُ عملٌ قلبيٌّ، أمَّا العلمُ فعملٌ عقليٌّ. والقلبُ يسعُ العقلَ، أمَّا العقلُ لا يسعُ القلبَ. والإيمانُ يقبلُ قواعدَ العِلمِ، أمَّا العلمُ فلا يقبلُ قواعدَ الإيمانِ. مع ذلك يمكن للمُتأمِّل أن يرَى العلمَ صوتُ اللهِ في الأرضِ، كليمُ الإنسانِ، يتكلَّمُ رويدًا رويدًا بنظريَّاته وتجاربِه، ينزعُ الشَّكَّ، ويُرسِّخُ اليَقينَ، فيقول الإنسانُ: بلَى، قد اطمأنَّ قلبي.
وفي الحديثَين فائدةٌ أشارَ إليها العَسقلانيُّ، فقال: السُّؤالُ عن الكَيفيَّة لطلبِ الطُّمأنينةِ لا يقدح في اليقينِ، وجوازُ السُّؤال عن أحوالِ الأنبياءِ، من الوَحيِ وغيره. وأنَّ المسئولَ عنه، إذا كان ذا أقسامٍ، يذكرُ المُجيبُ في أوَّلِ جوابِه ما يقتضي التَّفصيل.
ليس في الحديثَين تعاليمَ دِينيَّة، أو تَوجيهات أخلاقيَّة، أو تشريعات تنظيميَّة، وعَلَيه، فهو ليس حديثًا للمُجتمعات، وإنَّما من الأحاديثِ الرُّوحيَّة ذات الطَّبيعة المُتقبَّلة عَقليًا، يقبلها القلبُ والعقلُ معًا، والماضي والمُستقبلُ معًا.
انتهَى

إرسال تعليق