U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

المسيحيُّ الأخير


 

قبل خمس وأربعين سنة ضمَّ نجع الخمايسة، التَّابع إداريًا لمركز جهينة محافظة سوهاج في صعيد مصر، بين ما ضمَّه من بيوت قليلة بَيتَين مسيحيِّين لأخوين شقيقين، اسم أكبرهما جِندي، واسم الآخر فهيم، كلاهما يصرفان على امرأة وعيال؛ ولأنَّ أيًّا منهما لم يمتلك من الأرض غير بضعة قراريط، هزيلة، فقد بقي الفقر يلبد في بيته، يعوله كأحد أفراد أسرته.

لم يكن النَّاس ينادون فهيم باسمه، بل بلقب عجيب أدهش طفولتي الصَّغيرة كثيرًا؛ "الجرَّار"!

عمِّي عبدالله امتلك عدَّة فدادين وفَّرت له اليُسر، كما أنَّه أُسطى ماكينة الرَّي الألمانيَّة الصِّناعة، ماركة "آلان"، التي لم يُر مثلها في البلاد، بالإضافة إلى أنَّه أحد ملَّاكها، ثم هو ابن شيخ بلد يخبز فرن بيته أرغفة العيش من دقيق لا تشوبه الردَّة، يأكلها النَّاس، ويخبز أرغقة البتَّاو من ردَّة لا يشوبها دقيق، تأكلها الكلاب؛ فهيم دائم الخدمة لعمِّي وبيته وغيطه، يرعى مصالحه بإخلاص وتفان عجيبين؛ سألت هذا العمّ بصوتي المسرسع وقتها: هو ليه بينادوا على عمِّ فهيم يا "جرَّار"، مش يا عمّ فهيم؟

قال: عشان فهيم دا فيه قوَّة زي قوَّة الجرَّار الرُّوماني.

كان الجرَّار الرُّوماني آلة زراعية ينظر لها الفلَّاحون، في سبعينيَّات القرن المنصرم، على أنَّها جنِّي مارد عملاق ساحر، قادر على حراثة الفدادين العديدة في ساعة قليلة! ودراسة محاصيل الغلال في أوقات قصيرة قياسيَّة، بأدنى مجهود، وأقل تعب!

فعلا، كان فهيم يتمتع بجسد فارع التَّكوين، متناسق التركيب، مع سرعة إنجاز.

لفت عمِّي انتباهي إلى أنَّه من العيب استباق اسم فهيم بلفظة "عم"، فهذا الرَّجل ليس مسلمًا، بل مسيحيًّا، أي ليس ممكنًا في أي يوم من الأيام أن يكون أخًا لوالدي كي يستحق هذا التَّخصيص، وقال: كمان احنا بدويَّاته!

ـ يعني إيه بدويَّاته؟

ـ بيقولوا إن العرب زمان، اللي همَّا البدو يعني، كانوا بينزلوا على القرى ومعاهم سلاح وفرسان، وكان النَّصارى بتوعها بيدخلوا في حمى البدو عشان يحموهم، فبقي العرب "بدويَّات" النَّصارى، كل قبيلة أو بيت ليها النَّصارى بتوعها تدافع عنهم وهم يخدموها، والنُّصراني زمان ما كانش يقدر يعدِّي في البلد وهو راكب حمار، لازم ينزل من على ضهره احترامًا لبدويَّاته المسلمين!

لم أكد أنتهي من قراءة الصَّفحة الأولى من رواية "جومر.. جريمة في دير الرَّاهبات"، للكاتب المصري روبير الفارس، حتَّى شممت رائحة مظلوميَّة فهيم الجرَّار في نجع الخمايسة، المسيحيُّ الذي يعيش في وسط إسلاميٍّ ضاغط، يُضطهَد بكياسة فيصبر بلباقة رغم جروحه العميقة! على أنَّ "جومر" أفلتت من ورطة التَّحول إلى مجرَّد بكائيَّة منشوجة في إدانة اضطهاد المجتمع المسلم تُقرأ كرواية ذات غرض واضح، سهل، قراءة واحدة، ثم تنتهي علاقة القارئ بها قبل أن يبتلعها النِّسيان؛ بل يمكن اعتبار هذه الرِّواية أيقونة ثمينة بحق، لأنَّ قارئها، فور انتهائه منها، سيشعر بإزميلها ينقش في عقله سؤالًا عويصًا، وإن كان سبق طرحه لآلاف المرَّات من قبل فقد طُرح هنا بشكل مغاير، وإن كان اقتُرِحَت له آلاف الإجابات لكن ولا إجابة واحدة من بين هذه الآلاف أمكن وصفها بالحقيقيَّة: هل حوَّاء عين يشرب منها آدم، أم بئر يغرق فيها؟

رغم معاشرتي الطَّويلة، والعميقة، لجيراننا المسيحيِّين، ولأصدقاء عديدين مسيحيِّين، ظلَّ عالم هؤلاء مستغلقًا عليَّ كمسلم، فطقوسهم الحياتيَّة ليست على المشاع كطقوسنا، ولا صلواتهم تعصف بالأسماع عبر مكبِّرات الصَّوت ليل نهار كصلواتنا، ولا أعيادهم ظاهرة كأعيادنا، ومهما بلغت حميميَّة علاقة الجيرة بينهم والمسلمين فإنَّهم يظلُّوا حريصين على بقاء السُّور، الذي اعتادوا الاختباء خلفه طوال قرون الاضطهاد الطَّويلة المنصرمة، قائمًا عاليًا.

لم يكن فهيم يلقى الاحترام الكامل من أهل النَّجع المسلمين، وإن لم يفتقد محبَّتهم وتعاملاتهم الأخويَّة له، لكن أطفالهم بالخصوص لا يوقِّرونه، وإنَّما ينادونه باسمه مجرَّدًا، يأمرونه أمرًا بقضاء المصالح، في حين حرص أبي، الذي هذَّبه تحضُّر مدينة الأقصر، وكان قد انتقل للعمل فيها شُرطيًّا، على ألَّا أفعل مثل هؤلاء الأطفال، وألَّا أناديه بغير"يا عم فهيم"، فأحبَّني جدًّا، حتَّى حرص ذات مرَّة على دعوتي لزيارة بيته الذي يعيش فيه مع زوجته وعياله وفقره؛ إنَّه مجرَّد جحر لا يصلح إلَّا لتربية المرض، ولزراعة الكآبة، حتَّى هالة النُّور المحيطة برأس صورة المسيح، المرفوع إلى الآب شكاية، لم تتمكَّن من دفع ذرَّة ظلام واحدة بعيدًا عن فضاء هذا الجحر!

تكاد تكون نفسها المواصفات القميئة لبيت برسوم، الشَّخصية الرَّئيسيَّة لمعظم رواية "جومر"، فهو مكلوم بالفقر، وبالظُّروف السَّيئة، والأيام المعاندة، زوجته رحيل بائعة صور كنسيَّة وأيقونات مقدَّسة على الرَّصيف، يعاملها البوليس كموزِّعة منشورات تخل بالأمن العام! ابنته مريم تحصل على تخرُّج جامعي بحصيلة كبيرة من الدَّرجات، وتقدير ممتاز يؤهِّلها لتحقيق حلمها الوظيفي، مع ذلك يتم اضطهادها لصالح مسلم لا يمتلك إمكانيَّاتها! أمَّا جومر، ابنته الثَّانية، فيأتي اضطهادها مسيحيَّا بامتياز، إذ تقدَّم لخطبتها ابن قس، ثمَّ لمَّا رأى تحرُّرها النِّسبي فسخ الخطوبة ليوقِّع قلبها عقدًا مع الكآبة التي تقودها إلى غواية الإسلام! قبل ارتدادها عنه إلى دينها الأصلي، والالتحاق بأحد الأديرة، لتُقتل داخله!

برسوم في رواية جومر أشقى من فهيم في نجع الخمايسة، فلم ينجب فهيم ولدًا تشتهي مؤخِّرته دبيب الحيوانات المنويَّة مثلما تشتهي مؤخِّرة يوسف ابن برسوم، الذي تحمَّل معايرة الشُّذوذ لكنَّه لم يتحمَّل معايرة أحد المسيحيِّين له بإسلام أخته فيقتله، ويدخل السِّجن!

هذه الرِّواية مكتوبة بصدق، فقد شعرتُ تجاه هذه الأسرة المسيحيَّة "الافتراضيَّة" بنفس ما أشعر به تجاه أسر عديدة مسيحيَّة "واقعيَّة"؛ إنَّهم يعبرون الأيَّام بظهور محنيَّة، مهما أعلنوا المسرَّة في الأرض فإنَّهم تعساء، الحزن ملمح من ملامح وجوههم؛ فكيف يمكن لمن يرزح في الأغلال أن يفرح فرحًا حقيقيًّا غير مُدَّعى؟!

لكن حتَّى مسلمو "جومر" يرسفون في أغلال ما، مهما بدوا أسيادًا و"بدويَّات"، فإن كان بإمكان ولد مسلم اختراق مؤخِّرة يوسف بزنا اللواط، ليصير بعد ذلك مطيَّة كل شواذ المسلمين، فإنَّ فنَّانًا مسيحيًّا أمكنه الاستمتاع بجسد فاطمة، المسلمة التَّعيسة زوجة البوَّاب عبدالغني، بعد كل مرَّة رسم فيها عضوًا منها؛ رائحة بؤس فاطمة نفس رائحة بؤس فهيم، فمهما غيَّرت الأديان من أرواح البشر فإنَّها لا تغيِّر أجسادهم، إنَّها نفس المسام، ونفس العرق البائس.

مات جِندي شقيق فهيم فرحل أبناؤه عن النَّجع، وبقي "الجرَّار" ممثِّلًا للمسيحيَّة في الخمايسة بأسرة وحيدة، قليلة العدد، لم تتركه المصائب عند هذا الحد الصَّعب من الفقر، ورحيل الإعزَّاء، وهدد السَّند، بل واصلت ضربه، لتأتي الضَّربة الأخيرة في مقتل، إذ أصابت رأس ماله، صحتَّه وقوَّته البدنيَّة، اصطاده السُّكري اللعين.

في الجزء الثَّاني من كتاب "وصف مصر"، الذي أنهى علماء الحملة الفرنسيَّة كتابته منذ مائتي سنة تقريبًا، عدَّة دراسات عن القبائل العربيَّة التي اجتاحت مصر واستوطنتها، قدَّمت، هذه الدِّراسات، تفصيلات غاية في الأهميَّة عن هؤلاء البدو، وقسَّمتهم حسب تصرُّفاتهم مجتمعيًّا، وقدَّمت تفسيرات عدَّة عن كيفيَّات التَّمكين لهؤلاء البدو الرُّحل في أرض الحضارة حتَّى صاروا سادة البلاد والعباد، ولم تخرج هذه التَّفسيرات عن التَّصور البسيط الذي قدَّمه لي عمِّي عبدالله، الأمِّي؛ إنَّ سكَّان القرى المصريَّة من القبط النَّصارى استقبلوا هذه القبائل المحتشدة كالجراد، ترفع سيوفها، تحمحم أفراسها، استضافوها بسبب خوف شرخ قلوبهم عميقًا، والخائف مُستعبَد، بينما مرهوب الجانب سيِّد وإن رغمت أنوف! لكن المُستعبَد ليس كالعبد، العبد يعيش ويتكاثر، أمَّا المُستعبَد فإنَّه يضمحل أسىً وحزنًا حتَّى الانقراض.

يترك روبير الفارس "برسوم" معانيًا زمنه العصري، ممزَّقًا بأوجاعه كبائع جوَّال داخل مترو العاصمة، ليرتحل داخل الزَّمن إلى بعيد جدًّا، حيث الاضطهاد الرُّوماني؛ وهنا تنجح روايته في الإفلات، لمرَّة ثانية، من التَّحوُّل إلى مرثيَّة في هجاء الاضطهاد، لتصير مقطوعة بديعة منحوتة في أجواء ترفل بالسُّؤال الأزلي، وربَّما الأبدي، عن مكان المرأة من الرَّجل؛ هل هي الماء الذي يحييه أم الذي يغرقه؟! يكتب الفارس هذا الفصل من روايته بسلطنة مسيحيٍّ حر، وبفروسيَّة رسول يمتطي فرسًا تدهس تنِّين الشَّيطان، وبعزف لغوي مُستقى من أمَّهات كتب القداسة الكهنوتيَّة، حتَّى لتكاد ترى الملائكة تقرأ هذا الفصل الطَّويل من رواية "جومر" بشغف سعيد؛ ليس لهذا الفصل علاقات وشيجة ببقيَّة الرِّواية، جذوره ليست ضاربة في قلب حبكتها الأصليَّة، وهذا في غير هذه يمكن اعتباره خرقًا روائيًّا بشعًا، لكنه هنا بمثابة تاج على رأس، ليست للتَّاج جذورًا ضاربة داخل الجمجمة، مع ذلك يُضفي على المُتوَّج به بهاءً وسيادة.

تلقَّى فهيم مظلوميَّة جديدة، فعلًا اضطهاديًّا وقحًا، إذ قرَّر مسلم من أهالي النَّجع، ضابط صف بالجيش على المعاش، لا يترك المصحف من يده، يصلِّي بالمسلمين إمامًا، يشارك فهيم حدَّ الحقل، الاستيلاء على قراريطه القليلة تحت سمع وبصر الجميع، فنزل عليه بالمضايقة تلو الأخرى، ما اضطر فهيم، الذي لا قوَّة له ولا سند، إلى التَّنازل عن أرضه بأبخس ثمن!

كأنَّ ما حدث لقطة من الجزء الثَّاني للسِّفر الفرنسي العظيم "وصف مصر"؛ إنَّها حالة استيلاء مسلم عصري يحمل نفس فظاظة البداوة الأولى على ممتلكات مسيحي يحمل نفس روح القبطي القديم المستكين!

 كره فهيم نجعه الذي وُلد ووَلِد وعاش فيه لأكثر من ستِّين سنة، ترك بيته الجحر، ارتحل إلى قرية أخرى لا ذكريات له فيها ولا معارف، حيث انتظر هناك موته مجترًّا اضطهاداته بهدوء لشهور قليلة قبل أن يلقى حتفه غريبًا، كما عاش غريبًا! لتخلو الخمايسة من مسيحيِّها الأخير!

"جومر" رواية قصيرة، لكنَّها طويلة التَّأثير، كتبها عاشق حقيقي للكتابة، تبقى في الذِّهن عامرة بجماليَّاتها، صارخة بنقوشاتها، تمامًا كما بقي بيت فهيم في الخمايسة عامرًا بصمت رجل مهاجر، لم ير في الأرض مسرَّة، فحلَّق بروحه إلى الأعالي، علَّه يجد عند الآب مجدًا يُعزِّيه. 

  

  

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة