U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

سيِّدُك المُفضَّل



داخل كل منَّا شغف بالعبوديَّة، تختلف نسب الولع بهذا الشَّغف من شخص لآخر؛ فقد يعشق أحدنا ذلَّ الاسترقاق حدّ عدم الخجل من الانبطاح له علانيَّة، والهتاف بحياة مُستعبده، وقد يبقى شغف العبوديَّة في إنسان آخر مجرَّد بذرة، يحرص على ألَّا يلحقها ماء حتَّى لا يترعرع نبتها الشَّيطاني في قلبه.

وقد عبَّر الممثل الأمريكي الأسود صامويل جاكسون، الذي قام بدور ستيفن في فيلم "جانغو" المُتحرِّر، عن النَّوع الأوَّل من المصابين بشغف العبوديَّة؛ إذ أخلص لسيِّده كالفن، الإقطاعيُّ الأبيض، إخلاصًا قميئًا، درجة مشاركته في عمليات قهر، وبيع، رفاقه من الخدم السُّود، بل والاستمتاع باحتقارهم! في المقابل لم يتوان كالفن عن منح ستيفن العظْمة التي تروق للكلاب، مزايا ضئيلة لا قيمة لها، ومع ذلك كانت تُشعر ستيفن بتميُّزه عن بقيَّة السُّود، ليتصاعد عنفه ضد لونه أكثر وأكثر إلى أن يُقتل في النِّهاية وفيًّا لمُستعبده، ناقمًا على بني جلدته!

بينما مثَّل فريدريك دوجلاس، مؤلِّف كتاب "مذكِّرات عبد أمريكي"، الذي نقله الرِّوائي المصري إبراهيم عبدالمجيد إلى اللغة العربيَّة بصياغة سلسة، هذا الصِّنف الإنساني الذي يحاول جاهدًا كبت عبوديَّته لصالح حرِّيته، رغم أنَّ جلَّ ظروفه تهيِّئه ليصبح نسخة أخرى من ستيفن؛ يرفض فريدريك الاستعباد، يهرب مخاطرًا بحياته من الجنوب الأمريكي المتفشِّية فيه تجارة العبيد، إلى الشَّمال المناهض لهذه التِّجارة الدَّنسة، ليصير هناك أحد أهم الأصوات السَّوداء الجهوريَّة المطالبة بتحرير العبيد.

أوَّل تكوينات الإنسان تتم داخل رحم يحاصره في ذات الوقت يمنحه الغذاء الذي يمدّه بالحياة! وأوَّل تربية للإنسان تتم داخل أسرة تحاصره في ذات الوقت تمنحه الرِّعاية الدَّائمة لممارسة الحياة! ثم ينطلق شابًّا عفيًّا ليكتشف أنَّه يمارس الحياة في حصار من شروطها، وأنَّه لا سعادة دون حزن، لا راحة دون شقاء، لا غناء دون فقر، لا نهار دون ليل، لا حريَّة دون استعباد! لا يمكن التَّعامل مع طرف دون طرف، لا يمكن نبذ طرف دون طرف، لا حب طرف دون طرف، لا وجود لهذا الكون بطرف دون طرف! ثمَّ ينتهي الإنسان شيخًا مؤمنًا بأنَّه لا بد من الخضوع لحصار الموت، وضمَّة القبر، من أجل العبور نحو حياة أخرى رغدة، سعيدة، إلى اللامنتهى.

تكويننا الدَّاخلي مستعد إذن للتَّعامل برحابة صدر مع القيمة "النِّيجاتيف" في سبيل الحصول على أكبر قدر من المكاسب النِّسبية، سواء كانت هذه المكاسب ماديَّة أو معنويَّة!

كتب فردريك دوجلاس في "مذكِّرات عبد أمريكي" الآتي: كان العبيد حين يُسألون عن أحوالهم يقولون إنَّهم راضون. وإنَّ أسيادهم طيِّبون. ولقد عرف ملَّاك العبيد كيف يُرسلون الجواسيس بين عبيدهم ليتأكَّدوا من آرائهم ومشاعرهم، نتج عن ذلك أن تأسَّس بين العبيد المثل القاتل "الصَّمت رأس الحكمة"، صاروا يقمعون الحقَّ في نفوسهم بدلًا من تلقِّي تبعات البوح به، فبهذا يُثبِّتون أنفسهم، في نظر أسيادهم، كجزء من الجنس البشري، وهكذا فإذا كان لدى العبيد شيءٌّ يقولونه عن أسيادهم فهو عمومًا يدور حول جمائل هؤلاء الأسياد..

في فيلم "جانغو" المُتحرِّر، استطاع البطل الأسود استعادة زوجته من براثن كالفن بعد معركة، بالسِّلاح الخفيف، أدَّت إلى مصرع هذا الإقطاعي الأبيض، لكن عبده ستيفن يحمل لواء الثَّأر له، ويُقاتل أسودًا مثله حتى يُقتل!

أيُّ لذَّة في العبوديَّة تدفع النَّاس إلى التَّخلص من حياتهم طواعية لا لشيء سوى الصِّراع من أجل الأسياد، أو أفكار الأسياد؟

أيُّ لذَّة في الشُّعور بـ"الانتماء" في حين أنَّ الانتماء ليس غير وجه آخر من وجوه الاستعباد، أو لجام يُوضع في فم الإنسان من أجل الانقياد لشروط مجتمعه؟!

التَّعصب!

ابحث عن التَّعصُّب.

كتب فريدرك دوجلاس: تحت تأثير التَّعصب اعتقد بعض العبيد أنَّ أسيادهم أفضل من أسياد العبيد الآخرين.. ولقد شاع الشِّجار بين العبيد حول فضائل أسيادهم، فكل فريق كان راضيًا عن الطِّيبة الفائقة لسيِّده، يُقرِّر عبيد الكولونيل اللويد أنَّه الأغنى، ويتباهى عبيد جيبسون بأنَّه الأكثر أناقة ورجولة، عبيد الكولونيل اللويد يفاخرون بقدرته على بيع وشراء جيبسون نفسه، وعبيد جيبسون يفاخرون بقدرته على جلد الكولونيل اللويد.. مماحكات تنتهي غالبًا بقتال بين فريقي العبيد، والفائزون يعتزُّون بأنَّهم حازوا نقطة، ويبدون وكأنَّهم قد اقتنعوا بأنَّ عَظَمة سيِّدهم قد حلَّت بهم!

وبعد الانتهاء من هذه المنافسة، وانفصال الفريقين، يتذكَّر جميعهم أنَّهم، على الحقيقة، يحملون قدرًا كبيرًا من الكره لأسيادهم، هؤلاء الذين لا يكفُّون عن جلد ظهورهم، وتجويعهم، واستغلالهم طول النهار والليل، دون راحة، من أجل جودة مزارعهم.

لكنَّهم إذا التقوا غدًا فإنَّهم يواصلون نفس المماحكة، والتَّغزُّل في القدرات النَّبيلة لأسيادهم!

هه عزيزى: هل لديك سيِّد مفضَّل لا تفتأ تلهج بقدراته النبيلة؟

لا تكن سريع الإجابة، لا تأخذك الحمية فتصرخ: لا.

فقط ابحث في أعماقك جيدًا، ابحث برويَّة وصبر، صدِّقني حين أقول لك: ستجد سيِّدًا لا محالة.

  

     

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة