كنت قد أنهيت دراستي بعد الثانوية العامة في معهد إعداد الفنيين بـ"القاهرة"، وعدت إلى "الأقصر"، عمري فوق العشرين، أصحابي في بنت "المعز"، ولا أصحاب لي في "طيبة". فكانت الوحدة. والوحدة منشأ الإبداع.
وذات ليلة جلست في حديقة "أبو الحجاج"، على
إحدى الأرائك الحجرية، أنظر إلى الناس، وأعمدة معبد "آمون" المهولة،
ومسجد "أبو الحجاج" الأسطوري. وكان هناك من ينظر إليَّ.
رجل في ثمانينيات عمره تقريبا، وسيم، ممتلئ، يرتدي
جلبابا فخما، كان مهتما، على ما بدا لي، بأن يراقبني، وكنت أرمقه بنظراتي السريعة،
ثم أشيح بوجهي عنه.
لكنه أشار إليَّ بالاقتراب، فاقتربت.
صافحته، قال: إجلس.
فجلست. سألني عن سبب جلوسي وحيدا وأنا في سن الشباب الذي
يبتهج بالأصحاب. أوضحت له الأمر. فسألني إن كان لي في الكتابة.
كنت، مثل كل الشباب، أكتب قصائد حب، وغزل في البنات،
ومرات كتبت قصصا.
قلت له إنني أكتب قصصا. فقال تعال إلى نادي الأدب، وشارك
معنا. وقال: أنا "محمود منصور" رئيس النادي.
الذبح.
ما جرى، في نادي الأدب، كان ذبحا.
كنت أقرأ قصصي فلا أسمع إلا صؤت سَن السكاكين، ولا أرى
إلا مساحي الدفن، لكني كنت مصرا على الكتابة، فكنت أكتب، وأذهب إلى سلخانة
"الثلاثاء"، المسماة بـ"نادي الأدب"، باسطا رقبتي لسكاكينهم،
وكانت رقبتي عصية، وأياديهم ضعيفة.
وفي يوم، قبل ميعاد النادي الأسبوعي، وقفت على كورنيش
"النيل"، ومعي صديقي الجميل "محمد عوض أبو دوح"، وكان يكتب
الشعر العامي والزجل، ممن تعرضوا للذبح.
كانت الشمس تغرب، ولون الشفق يرتع في الأفق، فقال
"أبو دوح": الشمس مذبوحة.. ودمها تناثر حولها.
قلت: الشمس متوهجة.. وفستانها برتقالي.
وأفل "أبو دوح" بعدها، ولم يسطع نجمه أبدا.
لماذا أتذكر هذه البدايات الان؟ هل لأني، أخيرا، وبعد
توقف دام لقرابة عشر سنين عن الكتابة، كتبت القصة القصيرة الأولى لي بعد العودة؟
أم لأنها بداية جديدة، ونفس السكاكين؟
لكنها والله نفس الرقبة، ونفسها أياديهم الضعيفة.
لماذا لم يتصدر الأدباء المشهد الثوري في جمعة الغضب؟
سؤال صعب، وإجابته سهلة جدا.
لأن الأدباء انفصلوا عن ذواتهم، فهم أروع من يكتبون عن
القيم العليا، وفي نفس الوقت هم أبعد الناس عن ممارستها، يصرخون، على الأوراق،
مطالبين بالحرية، ثم يجدِّون في طلب كل ما يكبلهم ويستعبدهم، ابتداءً من السعي
لوظائف الدولة، ومرورا بنشاطهم، الحميم، في الانضمام لتشكيلات أدبية، تحت إشراف
مؤسسات الدولة أيضا، وانتهاءً باستسلامهم لخوف قاهر من ضياع ما يرونه مكتسبات في
مستقبل الأيام.
أيام الاحتلال الإنجليزي لـ"مصر"، كان الثوار
هم الشباب، وأهل الحرف، والتجار، والفلاحون، الموظفون امتنعوا، ويكاد يكون السبب
هو نفسه الذي منع ظهور الأدباء في جمعة الغضب، الارتباط بمؤسسات الدولة التي
يمكنها المنح، وأيضا المنع.
ربما هناك ما هو أفظع، وهو إمكانية تعامل الأديب مع
"المحتل"، أو مع الحكومة التي ينصِّبها المحتل.
أعرف أدباء سافروا إلى "العراق" للمشاركة في
مؤتمر أدبي نظمته حكومة تشكلت علي عين "أمريكا"!
أي هدف سام هذا الذي يدفع مثل هذا الأديب للمشاركة في
فعالية هي، سياسيا، من قبيل غسل الأموال في عالم الجرائم؟
وعندما سألت أحدهم كانت إجابته: التفاعل مع الشعب
العراقي الشقيق.
هذه بجاحة، ليس لأنه سافر، وهبط، في مطار تحرسه قوات
أمريكية، فهذه خيانة، وإنما البجاحة لكونه اعتقد أنني أحمق، وسأصدق كلامه.
الأدباء ليسوا صادقين، إنهم يتحدثون كثيرا عن أشياء
كبيرة، ويتكالبون على أشياء صغيرة، يمجدون الترفع، والتسامي، ويتصارعون على رئاسة
نادي أدب، أو عضوية مجلس إدارة تجمع أدبي ما، ثم يكرهون بعضهم، ليكون التشرذم،
والانشقاق، وكل هذا من أجل الأشياء الصغيرة.
لقد كان، يوما ما، الهدف النبيل للأديب إصدار ديوان
شعري، أو مجموعة قصصية، أو رواية تحمل رسالته للقراء، ويعتز بها اعتزاز الأنبياء
بكتبهم الإلهية، الآن يصدر الأديب كتابه ليكون مسوغا لحصوله علي عضوية عاملة في
نادي أدب، أو في اتحاد الكتاب.
والحقيقة إن الأديب في أصله ليس هكذا، إنه الإنسان
الأسمى، بعد الأنبياء، هذه الطائفة من البشر التي همها الكبير هو تعبيد الطريق
للإنسان، وتجهيزه لرحلة الحياة. قضية أزلية، أبدية، مهولة، وحملها يمكن أن يكلف
قطع رؤوس، وسفك دماء، ومعتقلات، ثمن باهظ لكن السلعة تستحق، والذي يدفع هو الأديب
النبي، والذي لا يريد أن يدفع فهو كالأنبياء الكذبة، يزعق بالتعاليم في حضرة
العبيد من أجل متع شخصية.
مرحبا بالثورة، التي شاركتُ في كل جُمعاتها ومعي ولدي
البكر، لقد أسقَطَت ديكتاتورا، لكنها لم تضمن لي عدم ظهور ديكتاتور آخر، لذلك على
الأدباء أن يستيقظوا، ويفهموا مهمتهم الحقيقية. امنعوا ظهور ديكتاتور جديد.
وإذا لم يفهم الأدباء لماذا أعطاهم الله حكمة الأنبياء،
فستكون النتيجة كما هي متحصلة الآن، شعر فارغ، وسرد متهالك عقيم.
ستكون النتيجة الممثل بالملايين، ولاعب الكرة بالملايين،
والراقصات بمئات الألوف، والأديب بملاليم.
ستكون النتيجة
واقع إجتماعي متأزم، ولو قامت مائة ألف ثورة.
أنظر إلى غرب "مصر" فأرى جزءا آخر من وطني
العربي الكبير، ووطني الإسلامي الأكبر، اسمه "ليبيا"، وأرى على أرضه
أحداثا تجري، رُسمت سيناريوهاته في "أوروبا"، و"أمريكا".
الهدف الغربي يتضح مع مرور الزمن، إنه تقسيم
"ليبيا".
لو أرادوا "ليبيا" موحدة لتعاملوا مع الأمر
بحسم، ولأخرجوا "القذافي"، أو لقبضوا عليه بعملية من نوعية القبض علي
"نورييجا"، ولتركوا "ليبيا" بعد ذلك للثوار يصنعون مستقبلها،
موحدة ومستقرة. إن الحلف الغربي قادر على ذلك، ولكن.
لابد من تقسيم "ليبيا"، كما حدث في
"السودان"، وكما يراد لـ"مصر" العصية.
والخطة واضحة، وسهلة، بالنسبة لدول عاشت استعمارية، وتحن
لماضيها، وترى المستقبل في إضعاف كل ما يحيط بـ"إسرائيل"، حتى ولو كان
بعيدا عنها بُعد "ليبيا"، فما هي الخطة؟
إطالة أمد الحرب بين قوات "القذافي"، وبين
الثوار، حتى يعتاد العالم على ليبيا شرقية، يحكمها مجلس ما، بقيادة ثورجي ما،
و"ليبيا" غربية، يحكمها "القذافي" ثورة ثورة، ويجب الحفاظ على
التوازن بين القوتين، فإذا ما طال أمد الحرب لا يكون هناك إلا الحل الإجباري،
دولتين في "ليبيا"، واحدة للثوار، وواحدة للقذافي.
ودولة الثوار هي التي ستكون موطيء قدم
"أمريكا"، حليف "إسرائيل"، دولة الثوار هذه هي التي ستتاخم
طول حدودنا الغربية.
الخطة محكمة، وناجحة، بشرط أن تستوي على نار هادئة.
والأفاعي تصبر جدا.
والأدباء والمثقفون في كل واد يهيمون، إلا وادي
"ليبيا".
ويمكننا أن نضيف إليها "اليمن"،
و"سوريا".
هناك ثلاثة أنواع من الأدباء أعضاء اتحاد كتاب
"مصر": منتفعون كبار.. وهؤلاء هم مجلس إدارة الاتحاد بأكمله، لا أستثني
منهم أحدا. وهناك الطفيليون.. وهؤلاء هم الفئة اللصيقة بأعضاء مجلس الإدارة،
يمسحون الجوخ ليأكلون الخوخ. ثم بقية أفراد الجمعية العمومية.. الذين رضوا من
الكعكة أن يتباهوا بعضويتهم في اتحاد الكتاب على أغلفة كتبهم، أو مقالاتهم
الصحفية، ثم إذا أحسوا بالضيم يلسعهم، حلموا بمجلس إدارة جديد يرفع عنهم الظلم،
ويقيم العدل، فيدلون بأصواتهم في الإنتخابات، ويفوز مجلس إدارة جديد، مجلس يعلم
كلمة السر التي تفتح المغارة، "افتح يا سمسم"، وعندما يدخلون الإدارة
يهتفون بانبهار: " دهب .. لولي .. مرجان". وآخرون يبهرهم منظر الكحكة
الكبيرة، ثم يظهر الزعيم الذي سيمنحهم المكتسبات، في مقابل أن يظل زعيما، حتى ولو
أن لهذا الزعيم من المواقف ما هو مخز، حتى لو كان الخزي سببه التعامل مع الجبابرة،
المتحكمين في أرزاق البلاد، و العباد، من أجل اليوروهات، أو تحييده للاتحاد كي
يصبح خارج حدود الثورة، وفي نفس الوقت يكون في لب الثورة! بوقفة عنترية، للسادة
الأعضاء، تأييدا للثورة داخل أسوار الإتحاد!
ألعاب سياسية، سمجة، يلعبها أعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب
"مصر" للحفاظ على الدهب، واللولي، والمرجان، وعلى الكحكة أيضا.
وطالما باقي أعضاء الجمعية العمومية كلهم قناعة بأن مجرد
اتصافهم بأنهم أعضاء في اتحاد كتاب "مصر" هو الشرف الذي لا يدانيه شرف،
وطالما العضو المنتخب لمجلس الإدارة، بمجرد تسلمه لهذا العمل، ينسي الشرف، ولا
يبقي له من هم سوى البحث عن أجولة يعبئ فيها المكتسبات، أو يبدأ في تصفية
الحسابات، أو يبدأ في ممارسة سياسة المنح، والمنع، مع من يتفق معه، أو ضد من
يخالفه، فلن يكون التعافي قريبا.
إن مجلس إدارة إتحاد "مصر" الموجود الآن، وإن
كان قد تشكل بعد الثورة، إلا أن غالب أعضائه، إن لم يكن جميعهم، هم أفراد تعاملوا
مع النظام السابق بحميمية، ومنهم من كانوا أعضاءً في الحزب الوطني المنحل، والأدهى
إن عمومهم لم يخرجوا في مظاهرات جمعة الغضب، والأنكى إن فيهم من وصف الثوار بأنهم
مجموعة من الرعاع والهمج!
مجلس إدارة مثل هذا يجب أن يزال.
فهو عار علي كتاب "مصر".
وإلا فإن كُتاب "مصر" عار على
"مصر".
وياله من عار ممتد.
عشر سنين من التوقف عن الكتابة، والبعد عن الواقع
الأدبي، كانت ثمنا باهظا، دفعته راضيا من أجل أن يكون إبداعي صادقا، فليس بمقدوري
أن أرى الدم يسيل أنهارا في "فلسطين" ولا أحاول صنع ثورة، وليس بمقدوري
أن أرى الراقصات يتفاعلن مع ما يجري هناك ولا أحاول صنع ثورة، وليس بمقدوري أن أرى
العالم تموج مدنه الكبرى، والصغرى، بالمظاهرات من أجل "محمد الدرة" ولا
أحاول صنع ثورةز
وحاولت صنع ثورة صغيرة في "الأقصر"، كانت وجهة
نظري، وقتها، أن ليس أقدر من الأدباء على صناعة الثورات، فهم المثقفون الذين يحيون
من أجل القضايا الكبرى، وهم من يملكون ثمنها، وهم الذين يعرفون أنهم الرواد على
طرق البحث عن الكرامة، وهم المحاربون من أجل الإنسان، ولما لم أجد إلا الرعب في
قلوبهم، والمداهنة في عقولهم، والخواء في أيديهم، وضعت اليافطات التي كنت أعددتها
للمظاهرة في صندوق قمامة على جانب أحد الطرق، وقلت: هذا آخر عهدي بكم. لكني سمعت
بعد ذلك عجبا.
قالوا: "الخمايسي" ترك الكتابة لأنه انضم إلى
الجماعات الإسلامية التي ترى أن الكتابة حرام!
وقالوا: "الخمايسي" تبع إحدى الطرق الصوفية،
وصار مريدا، وهو الآن يتتبع الموالد في بر "مصر"!
وقالوا: "الخمايسي"، عندما كان في
"القاهرة"، وقع في غرام أديبة تكتب القصة مثله، وأن قصة الحب هذه انتهت
بصدمة جعلته يكتئب، فاعتزل العالم، والكتابة!
وأنا قلت، منذ برهة، السبب الحقيقي وراء تركي للكتابة.
وعندما عدت لم تكن الثورة قد قامت بعد، فلماذا عدت؟
لأن ولدا شاعرا أسمه "شعبان البوقي" لقيني ذات
مرة فقال لي: كنت أهم كاتب قصة قصيرة في "مصر" في جيل التسعينيات، نحن
نتحدث عن كتاباتك في تجمعاتنا الأدبية حتى الآن.
وقلت له: ذكرتني بكلام قاله لي الناقد "محمد محمود
عبد الرازق"، يرحمه الله، في مؤتمر "الإسكندرية"، ولغرابته لم آخذه
على محمل الجد، قال لي: أنت أفضل من كتب القصة القصيرة بعد "يوسف
إدريس".
ويبدو أن الرجل كان مقتنعا بما قال، حتى إنه كتب دراسة
عن مجموعتي القصصية "الجبريلية"، منشورة في مجلة "الثقافة
الجديدة"، وذكر فيها: إن على نجع الخمايسة، الذي أنجب "الخمايسي"،
أن يفخر كما يفخر نجع "البيروم" بإنجاب "يوسف إدريس".
قال "البوقي" إنه: لا يجب على المحترمين أن
ينسحبوا.
وذكرني كلامه بما قالته لي الجميلة "أمينة
زيدان"، قالت: إذا انسحب المحترمون من يبقي في الأرض؟
وتساءل "فهيم غازي عكاشة"، على صفحات
"أخبار الأدب": إن "الخمايسي" لم يفلس فلماذا يترك الساحة؟
وأثر في كثيرا أنه قال: إن أسوأ أيام حياتي يوم علمت أن
"الخمايسي" ترك الكتابة.
وقال "رضا العربي": إن "الخمايسي"
ترك الساحة وفي جعبته الكثير.
وكلام المحبين كثير.
ومن أجل هذا الحب عدت.
فكانت المكافأة هي أغلى حدث في حياتي، ثورة 25
"يناير".
ولقد اشتريت هذا الحدث بعشر سنين فقط من عمري ، وياله من
ثمن بخس لبضاعة لا يمكن تقديرها بثمن.
لماذا أكتب؟ أو بالأحرى لماذا نكتب؟ تلك هي الأزمة.
يقولون نكتب لنبقى.. ويموتون رغم أنوفهم.
يقولون نكتب لنفضفض.. الناس أيضا يريدون الفضفضة.
يقولون نكتب لنستمتع.. يستمتعون برشق السكاكين ووخز
الخناجر!؟
هناك شيء آخر يجب أن يكتب الأدباء من أجله، لم يعرفوه
بعد، ولو عرفوه ما خلت مظاهرات جمعة الغضب منهم.
"الكلمة إيد.. الكلمة رِجل.. الكلمة باب".
أنا أديب أيها العالم، أديب عربي، أكتب حديقة واسعة
مملوءة بالزهور لتعبق الأجواء بالروح المنعش، أكتب لتأتوا إليَّ يا من سكنتم
المقابر، يا من زكمت أنوفكم رائحة الموتي العفنة، لتأتوا إليَّ يا من تعبرون
أيامكم داخل عشش القمامة.
حديقتي تعبق بالروح المنعش، القوا بارواحكم وعقولكم
فيها، واغتسلوا غسلا رائعا.
يا من تريدون الزرع والحصاد، عندي المحراث، وعندي بذور
القمح، وعندي ينابيع الماء.
الكتابة ناسجة الأعشاش، والعش لحبيبين، وحبيبي في عشي
أغازله.
الكتابة حب، والحب حياة، وفي الحياة قتل.
الكتابة فعل، إن لم يؤد إلى فعل فهي الموت، و أنا يا
عالم أديب عربي، أعشق الحياة ولو خضبتها الدماء، وأكره الموت ولو في حديقة زهور.

إرسال تعليق