U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

أجمل بلد بلدي


 
كانت السَّيارة "الليموزين" االتي خصَّصتها إدارة معرض "الشارقة" للكتاب، دورة 2014 المنقضي، لتنقُّلاتي داخل "الإمارات" تجري في شوارع هذه المدينة المنظَّمة متَّجهة بنا، أنا وصديقي النَّاقد "مصطفى عبادة"، الذي فضَّل ترك سيَّارته المخصَّصة له ليسعدني بصحبته، نحو مقر المعرض.

الشَّوارع واسعة جدًّا، نظيفة جدًّا، البنايات شاهقة جدًّا، جميلة جدًّا، واجهات المحلَّات والشَّركات والمكاتب شيك جدًّا، ثمَّ سيَّارات، سيَّارات، سيَّارات، كلّها فارهة جدًّا، لكن الأرصفة حول الطُّرقات تكاد تخلو من النَّاس، وسماء "الشَّارقة"، لا تكاد تخلو من الغربان النَّاعقة بصوت عال جدًّا!

رغم أنَّ كلّ السَّائقين، الذين تبادلوا قيادة هذه السَّيارة،  كانوا سريلانكيِّين أو هنودًا، في إحدى المرَّات كان سوريًّا، إلَّا إنَّه في مرَّة وحيدة كان السَّائق إماراتيًّا! فور تعرُّفه علينا كمصريَّين قال: "مصر" أمّ الدُّنيا، وأمّ العرب والله، بلد التَّاريخ العريق، والنِّيل، والأهرامات، والقلعة.

كانت نبرته صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه، فكان طبيعيًّا أن نبادله الجمال بجمال، والاستحسان باستحسان، فقلت له إنَّ "الإمارات" أيضًا صارت قطرًا عربيًّا مهمًّا جدًّا، وأنَّها تكاد تكون قطعة من "أوروبَّا".

قال: وإيش يساوي هذا بجوار عظمة "مصر"؟

زعق المعلِّق الرِّياضي الإماراتي، الذي صاحب صوته الشَّجي فعاليات مباراة السُّوبر لكرة القدم بين النَّاديين المصريَّين "الأهلي" و"الزمالك"، بنبرة صادقة جدًّا، يتكلم من قلبه، قائلًا إنَّ "مصر" حصن العرب، وإنَّ ثوابتها أربعة لا غير: "الأهلي" و"الزَّمالك" و"الأهرامات" و"النِّيل"، ما عدا ذلك فهو متغيِّر!

لندع الثَّابت والمتغيِّر حسب رؤية أخينا المعلِّق الكروي، ففيه اختلاف، إذ أنَّ كثيرين يرون "الخطيب" هرمًا رابعًا، آخرون يرونه "أم كلثوم"، أو "محمَّد عبد الوهَّاب"، ربما البعض يرى أنَّ الهرم الرَّابع هو "نجيب محفوظ"، هناك طائفة أخرى لا تتخيَّل الهرم الرابع غير أنَّه "فيفي عبده"!  

لنترك ما فيه اختلاف ولنتَّفق على أنَّ الإماراتيِّين يرون "مصر" الدَّولة الأعظم عربيًّا، تاريخًا ومعاصرة.

كانت لي جلسة جميلة مع صديقي المبدع التُّونسي "كمال العيَّادي" على مقهى "زهرة اللوتس" في شارع "العريش"، من شارع "فيصل" في "الجيزة"، دخَّن "المارلبورو"، شرب القهوة، حكى عن بعض الطُّيور القيروانيَّة، قلَّد أصواتها، ثم قال إنَّه سافر إلى معظم بلدان "أوروبا"، بل عاش في "ألمانيا" عشرين عامًا تقريبًا، مع ذلك لم يجد أجمل من "مصر"!

كانت نبرته صادقة جدا، يتكلم من قلبه، ولأنَّ رأسي تصدَّع من طول كلام المغرمين بأوروبَّا، والبلاد الطَّالعة من عباءة أوروبَّا كأمريكا وكندا، حتَّى كدت أقتنع بأنَّنا "في مصر مش عايشيين"، و"يابخت اللي شالوا عزالهم وهاجروا لبلاد برة"، قلت له مندهشًا: إنت بتتكلِّم جد؟! مصر أجمل من أوروبا؟! يا أخي شكلك مسطول! قول كلام غير ده.

أكَّد لي على أنَّه لم يشرب نبيذًا، ولا حتَّى بيرة، وبالتَّالي فهو ليس مسطولًا، ويعي ما يقول، ثمَّ هتف: يا أخي في أوروبا كلّ شيء صح لدرجة تصيبك بالكآبة، فين الخطأ؟ الحياة لا تكون جميلة من غير "صح" و"خطأ"، هذا موجود في مصر مش في أوروبا!

إذًا ليس نعيق الغربان هو الذي ضايقني في "الشَّارقة"، ربما الذي ضايقني هو أن كل شيء صحيح، كما يجب أن يكون، لدرجة تسبِّب الضِّيق والملل!

عندما عدت جلست مع الرِّوائي "أشرف العشماوي" في "ماريوت القاهرة"، أبديت له اندهاشي من كون "الشَّارقة" مدينة عصريَّة للغاية ومع ذلك عامرة بالغربان! فقال: وإيه يعني! الغربان في "القاهرة" لا يحلو لها غير سماء نادي "الجزيرة"، أرقى حتَّه في "مصر"! ما تشوفهاش في "الجمالية"!

فعلًا، أنا لم أرها في "الجمالية"، ولا في "البساتين"، ولا في "اسطبل عنتر"، ولا في كل هذه الأحياء "البيئة" التي سعدت بالسَّكن فيها لسنين طويلة، لكنِّي لم أر الغربان في مدينة "الغردقة"، وهي مدينة مصريَّة راقية، وإنما نوارس، وطيور بحر، وعصافير أشجار، وأجواء نفسيَّة ساحرة. اكتشفتها مؤخرًا بفضل صديقي الأديب السُّعودي "سلطان الحويطي"، الذي دعاني لقضاء أسبوع فيها برفقته وبعض أصدقائه السُّعوديين، مدينة ذات روح، تملك طابعًا لا يسهل وصفه، لكن يمكن تلخيصه في أنَّه طابع بطعم البهجة، ولأنَّ أهلها يسترزقون من السَّائحين فهم مادِّيون، عيونهم لا ترى السُيَّاح بشرًا يمشون في الشَّوارع، بل صرر أو أكياس أو "كريدي كارت" تتجوَّل هنا وهناك، وعليهم التَّفنن في ابتداع طرق يمكنها فتح هذه الحوافظ الماليَّة ليغرفوا منها أكبر قدر مستطاع، حتَّى دون تقديم أي خدمة في المقابل! تسبَّب هؤلاء أكثر من مرَّة في حرق أعصاب "سلطان الحويطي"، فينشال وينهبد أمامهم، يصرخ فيهم بأنَّ هذا ليس من الأخلاق في شيء، وأنَّه سيشكوهم للمسؤولين، ثمَّ يتَّجه إلى أقرب مقهى، "يبرطم" معترضًا على الوضع الذي وصل إليه مستوى الخدمة السياحيَّة في "مصر"، وأنَّ رحلته القادمة ستكون إلى "ماليزيا"، أو "تركيا"، يدخِّن الشِّيشة، يهدأ، يسافر عائدًا إلى "تبوك"، ثمَّ يهاتفني ليخبرني بموعد رحلته القادمة إلى "مصر"! 

يقول لي إن روح الإبداع تتلبَّسه في "مصر"، وإنَّها بلد عجيب، تحبُّه بكل ما فيه، قال: يا أخي حتَّى حرامية "مصر" ولاد حلال! وناسها قلوبهم "بيظه"، بعكس النَّاس في دول عربيَّة أخرى زرتها. كانت نبرته صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه!

صديقتي المغربيَّة تمتلك محل عطور ومستلزمات تجميل، لا علاقة لها بالكتابة، حدَّثتني كثيرًا عن محبَّة أهل المغرب، خصوصًا نسائها، لمصر والمصريِّين، وأنَّ المرأة منهن قد تفضِّل المصري لو خيرت بينه وأحد مواطنيها المغاربة للزَّواج بأحدهما!

وذات مرَّة كنت مع الرِّوائي "هشام الخشن" في محطة مترو "محمَّد نجيب"، في قلب "القاهرة"، "الخشن" جوَّال سِفري، لا ينقضي شهر إلَّا وهو في بلد أوروبِّي أو خليجي أو أمريكي، قال لي: تصدق إن المترو عندنا أنضف من مترو "لندن"؟!

استغربت كلامه، لكن نبرته كانت صادقة جدًّا، يتكلَّم من قلبه.

أمَّا صديقتي "زينب عبد الباقي"، شاعرة لبنانيَّة، فإنَّها تحب مصر حدّ الوله والعشق، هذه الدَّرجة من الحب التي تعمي العاشق عن دمامة معشوقه فيراه غزالًا وإن كان قردًا، يتجاوز عن سيِّئاته حد "بلع الزلط" له، ما نتج عنه رفضها الصَّارم لأي إساءة توجَّه لمصر، ولو من مصري! لا لأنَّ "مصر" بالنِّسبة لها بلد التَّاريخ والحضارة و و و، فهي من بلاد "الشَّام" التي لا ينقصها هذا الشَّرف التَّاريخي التَّليد، ولا لأنَّ "مصر" حصن العرب وخط دفاعهم الأوَّل، فكل الخطوط الدِّفاعيَّة قد اخترقت، وإنَّما لسبب لا تجيد هي نفسها شرحه، فقط يمكن التَّعبير عنه بجمل بسيطة من نوعيَّة: "مصر في القلب"، أو "مصر قطعة من روحي".

بينما أطوِّف في شوارع ثلاث مدن إماراتيَّة غاية في الجمال والتَّنظيم، "الشَّارقة" و"دبي" و"عجمان"، ضبطت نفسي متلبِّسة بالاشتياق إلى عشوائيَّات "الطَّوابق" من "فيصل"!

لا عنصريَّة، ولا وطنيَّة، لكن أحاسيس تمور في وجداني، لن أجيد شرحها، تجعلني أدندن مع المغنِّي، بقلب أبيض منفتح، وسعيد، وروح متفائلة طيَّارة بالأمل: أجمل بلد بلدي.


 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة