عنوان أحد أهم كتب المفكر الاستراتيجي "زبيجنيو بريجنسكي"، يناقش فيه الدور العالمي للسياسة الأميركية بعد قيام 19 إرهابيا بضرب الداخل الأمريكي بالطائرات التجارية، وقصف "البنتاجون"، وإسقاط برجي التجارة، وبالتالي سقوط نظرية الأمن الأميركي المعتمدة على التحصينات الطبيعية ببحرين شاسعين، المحيط "الأطلنطي" شرقا والمحيط "الهادي" غربي. وأي الأمرين أفضل لأميركا: السيطرة على العالم، أم قيادته؟
صدر الكتاب سنة 2004م، عن دار "الكتاب العربي"، في "لبنان"، بترجمة ممتازة للأستاذ "عمر الأيوبي".
وإذا كان الشأن السياسي الأميركي موضوع هذا الكتاب، فما يضيف لأهميته هو أن الكاتب، "بريجنسكي"، عمل مستشارا للأمن القومي الأميركي، وذلك فترة تولي "جيمي كارتر" الرئاسة. مع ذلك يمكن للقارئ الشعور بأن "بريجنسكي" المواطن الفخور بوطنه "أميركا" هو من كتب هذا الكتاب بأكثر من أن يكون كتبه "بريجنسكي" المفكر الاستراتيجي المحايد. فهو يؤكد، بحماسة وعاطفية، على أن أمريكا إمبراطورية (غير مسبوقة تاريخيا!)، إذا رفعت يدها عن العالم ستندلع الثورات والحروب، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة بالإنسانية، وعليه، ليس للعالم بد من القبول بالتغلغل الأمريكي إذا كان ـ التغلغل ـ صمام الأمان اللازم والضروري، وبحسب قوله: "إنها في النهاية التوليفة المتوازنة للديموقراطية الأمريكية والهيمنة الأمريكية، التي توفر الآن للبشرية أفضل آمالها في تجنب النزاعات العالمية التي تتسبب في ضعفها". ويستغرق "بريجنسكي" مناقشا دور هذا الصمام الأميركي في كل مناحي الكرة الأرضية، ابتداء من "اليابان" شرقا وحتى "المكسيك" غربا، مرورا بـ"روسيا" و"الصين" و"الهند" و"أندونيسيا" و"إيران" و"تركيا" و"الخليج العربي" و"الاتحاد الأوروبي".
سقطت "الشيوعية" إلى الأبد، انتهى "الاتحاد السوفيتي"، وريثته "روسيا" التي على قوتها أضعف من أن تكون ندا لـ"أمريكا"، و"الصين" كذلك على طموحاتها الاقتصادية الهائلة، أما "اليابان" بحسب قوله نصا: "إنه لفخر للشعب الياباني، ولنخبته السياسية في الواقع، أن تصبح القيم الديموقراطية والنزعة الأخلاقية القوية المعادية للنزعة العسكرية، عميقة الجذور في استشرافهم للمستقبل"؛ وهنا لا يسعنا إلا التعجب من الانفصام الرؤيوي الذي يعانيه "بريجنسكي"، حين يرى القيم الديموقراطية والنزعة الأخلاقية المعادية للنزعة العسكرية في ذات الوطن الواحد موضع فخر، مع ذلك لا ينفك يؤكد على أن القيم الديموقراطية والأخلاقية الأمريكية يلزمها بالضرورة نزعة عسكرية تضعها دائما بين خيارين ارتكز عليهما عنوان الكتاب: السيطرة، أو القيادة. وهما خياران من فبيل الإيهام بالأساس، لأنهما بالحقيقة خيار واحد، إذا كانت السيطرة لازمة للقيادة، أو القيادة ناتج طبيعي للسيطرة. فلا قيادة بدون سيطرة، ولا سيطرة بدون قيادة.
وإذا كان قد تناول العلاقات الأمريكية بمختلف بؤر العالم، فقد أفاض بخصوص العلاقة مع "أوروبا"، وكيانها الموحد "الاتحاد الأوروبي"، و"الحلف الأطلسي" المشترك، وما إذا كان يمكن تمديد "الناتو" ليضم "أوكرانيا"، أو حتى ليضم "روسيا" نفسها، مع نصيحته بضرورة الإسراع في ضم "أوكرانيا" (فيما يشبه النبوءة بالحرب الروسية الأوكرانية قبل عشرين عاما!). ولا يزال "بريجنسكي" يؤكد، فيما يشبه الرسالة إلى "أوروبا"، على أن محاولاتها، بين الحين والحين، من أجل تكوين قوة عسكرية أوروبية بعيدا عن "أمريكا" لن يقوض من قدرات "أمريكا" فقط (المؤلف يعتبر الاتحاد الوروبي هو الكيان الوحيد الذي يمكنه منافسة أمريكا بالفعل!) بل سيقوض إمكانيات "أوروبا" نفسها.
أما القارئ المصري، المتشبع بالخطابات الإعلامية التي تضع "مصر" أسا من أسس استقرار أو زعزعة "الشرق الأوسط" (وهو أمر حقيقي)، والمتعطش لأن يرى طرفا علائقيا أمريكيا مصريا في هذا الكتاب، سيدهش حين ينتهي من قراءته، فلا يجد فيه ذكرا لأي دور مصري في المنطقة يلقى اهتماما أمريكيا، رغم صدور الكتاب في فترة ملتهبة من تاريخ العالم، سقط فيها برجا التجارة العالمي، وقصف "البنتاجون"، وهروب الرئيس "بوش" الابن إلى أحد المخابئ بعد توقعات بقصف "البيت الأبيض"، وشنت الحرب العالمية على "أفغانستان" و"العراق"، وكانت "مصر" قد وظفت (بإرادتها الحرة أو بإغراء تخفيف الديون) من أجل تأدية دور مهم في الحرب على "العراق". أما الأكثر إدهاشا فهو تغييب "بريجنسكي" لـ"مصر" درجة عدم ذكرها في أي شأن يخص أفكار حل معضلة "الكيان الصهيوني المحتل"!
وإذا كان يلزم النفوذ الأمريكي وجود قضية عالمية تبرر انتشاره، فقد كان من الضروري إيجاد مبرر بديل بعد تفكيك "الاتحاد السوفياتي" واحتضار الشيوعية، ولم يكن هذا البديل سوى الحرب على "الإرهاب". والحقيقة أن "بريجنسكي"، في هذا الكتاب، لا يتبنى الأطروحة القائلة بأن دوافع الإرهاب إسلامية بالضرورة، أو أن مشرب الإرهاب ديني بالضرورة، بل يؤكد على أن: "كل نشاط إرهابي، تقريبا، ينبع من صراع سياسي يستمد منه وجوده وديمومته، وهذا ما ينطبق على الجيش الجمهوري الأيرلندي في أيرلندا الشمالية، وعلى ثوار سك في إسبانيا، وعلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى الثوار الشيشانيين في روسيا، وعلى باقي المجموعات الأخرى". ولنا ملاحظة أن "بريجنسكي" لم يشر إلى ثوار "طالبان" ضد الاحتلال الأمريكي لـ"أفغانستان"!
ليس الدين، (الإسلام)، هو السبب الجوهري للإرهاب، بل ما يبشرنا به المستنورون، والتنوريون الطيبون: "العلمانية"! يلفت بريجنسكي الانتباه بقوة إلى أن: "الأسباب العلمانية، مثل الفساد، والتوزيع غير العادل للثروة، مصادر رئيسية أيضا لعدم الاستقرار السياسي، حتى لو بدا الدين الحافز الأول للاضطراب السياسي". وأضاف إلى العلمانية الديكتاتورية، حيث: "ساعد غياب التقاليد الديموقراطية، في غالبية الدول الإسلامية، في تفريخ جمعيات، أو حركات سرية، لجأت إلى اغتيال مناوئيها". وهكذا: "يرى الأوربيون أن الإرهاب ناتج عن السياسة، أكثر مما هو مظهر للشر".
إذن، الإرهاب من منظور "بريجنسكي"، هو: "استمرار للسياسة بوسيلة أخرى"، وهو: "من تقنيات الحرب، فإنه يستخدم بشكل عام من قبل أناس معينين لأغراض سياسية يمكن فهمها. ولذلك، نجد غالبا أن خلف كل عمل إرهابي تكمن مشكلة سياسية"، ولذلك: "تجدر الإشارة إلى أن رئيس وزراء إسرائيل "أرييل شارون"، والرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، والرئيس السابق للصين "جيانج زيمين"، استغلوا جميعا كلمة "الإرهاب": "من أجل الترويج لجداول أعمالهم الخاصة، فبالنسبة إليهم كان التعريف الأمريكي المبهم (للإرهاب العالمي) مفيدا وملائما في جهودهم لقمع الفلسطينيين والشيشانيين، وطائفة الديجور، على التوالي".
ولي أن أضيف: وكان مفيدا لبعض الأنظمة العربية، المعادية للديموقراطية، في قمع شعوبها، وإخصاء المعارضة.
إذن، لم يكن الحل الذي قدمه "بريجنسكي" لمعضلة الإرهاب هو ما يحلو للمستنورين التكأة عليه، وتقديمه باعتباره حلا سحريا فوريا للإرهاب (نقصد: التخلص من الكتب والأفقاه التي تمثل بزعم هؤلاء المرجعية الإسلامية للإرهاب)، بل: "من أجل التغلب على الإرهاب، والتخلص من الإرهابيين: التصدي، بأية طريقة ملائمة، للدوافع السياسية التي تستند إليها أفعالهم".
مع ذلك، كان ضروريا التغاضي عن هذا الخطأ الرابط بين "الإسلام" و"الإرهاب"، ليس لأنه ذريعة "أميركا" لترسيخ نفوذها في نواحي العالم، بل أيضا لأن الضربة الإرهابية، في 11 سبتمبر 2001م، فتحت: "الباب أمام من يشعر، بقوة، بأن الدول التي تخوض صراعا إلى حد ما مع المسلمين، سواء أكانت روسيا أم الصين أم إسرائيل أم الهند، ينبغي النظر إليها الآن على أنها شريكة طبيعية ورئيسية لأمريكا. بل إن البعض يرى بأن على أمريكا أن تعيد ترتيب الشرق الأوسط، باستخدام القوة الأمريكية باسم الديموقراطية لإخضاع الدول العربية لإدارتها، واستئصال التطرف الإسلامي وجعل المنطقة آمنة لإسرائيل".
ها هو المقتطف الأخير لا يكشف فقط عن كون "محاربة الإرهاب" ذريعة أميركية، بل حتى "نشر الديموقراطية" هو ذريعة أميريكية أخرى، تستهدف المزيد من التغلغل في العالم، ثم، إخضاع العرب (المسلمين)، وتأمين "الكيان الصهيوني" غاصب "فلسطين". وهي الحقيقة التي نؤكد عليها مهما وصفها "بريجنسكي" بأنها رؤية "البعض".
لقد برر المفكر الاستراتيجي التجاوز عن بعض السلوكيات الديكتاتورية، المقيدة للحريات الشخصية، (حتى في أمريكا نفسها بعد أحداث سبتمبر 2001م)، إذا كانت ممارسة الديموقراطية قد ينتج عنها ما يسيء للديمواقراطية! ومن هنا نفهم سبب تجاوز الولايات المتحدة الأمريكية عن الممارسات الديكتاتورية في بعض انحاء الوطن العربي، التي تساهم في قتل الطموح السياسي الإسلامي.
ولا يمكن الاقتناع بأن الديموقراطية يمكنها الإساءة للديموقراطية إلا إذا قُصرت "الديموقراطية" داخل حدود الدول، بحيث يمكن لنظام حكم الإيمان بها ولنظام حكم آخر الكفر بها، في حين تشيع "الديكتاتورية" على مستوى الدول، فيتاح لدولة مهيمنة ما لا يتاح لدولة مسالمة، ويمنح حق "الفيتو" لدولة ويمنع عن دولة، ويقسم العالم إلى مناطق نفوذ السيطرة فيه للأقوى، هنالك تتجاوز دولة تمارس الديموقراطية داخل حدودها، مثل "أميركا"، عن نظام دولة أخرى يمارس الديكتاتورية داخل حدوده، لا لشيء سوى أن هذا يصب في ما تعتقد "أميركا" انه مصلحتها.
أما الحقيقة الكامنة في ذهن "بريجنسكي"، وقد كشف عنها باقتضاب متعمد، كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، هي أن ثمة خوف أميركي حقيقي من انتشار "الإسلام"، لا انتشار "الإرهاب"، لأن الإرهاب، في النهاية، فعل إجرامي، هلامي، ليس من مواصفاته الطبيعية القدرة على الانتشار، بعكس "الإسلام"، الذي يمتلك من المقومات الأخلاقية، ومن التاريخ الحضاري، ومن الطموحات الثقافية والدعوية، ومن الإعلانات الواضحة عن قدرته على فرض النفوذ العالمي، ما يقلق دولة مهيمنة بحجم "أميركا"، خصوصا وأنه مع النظر: "إلى المعدلات العالية للولادات، وإلى أعداد الذين يتحولون إلى الإسلام، يعتبر الإسلام حاليا أسرع الأديان نموا في العالم"، ضف إلى القلق قلقا، عندما يرى الناظر أن القسم الأكبر من شعوب الدول الإسلامية يتكون من: "صغار السن، وسيبقى الحال كذلك، أو يزيد".
وهكذا، بعيني نعامة تدفن رأسها في الرمال، وبعد أن تكلم بإيجاز عما سماه "قوة الضعف"، وأنها القوة التي يعتبرها الاستراتيجيون العسكريون الحرب غير المتناظرة، (غير المتكافئة)، وكيف أن 19 متعصبا، فقط، ألحقوا ضربة قوية بـ"أمريكا" القوية، يتساءل "بريجنسكي": "كيف يمكن التغلب على عدو ضعيف ماديا لكنه يملك دافعا متعصبا؟".
يطرح الكتاب حلين لا ثالث لهما:
الأول: الإقرار بأن الإسلام ليس على ما يوصم به من تخلف أخلاقي أو سياسي: "إن الاتجاه الغربي، والأمريكي على وجه الخصوص، نحو التركيز على المظاهر الرجعية والفظيعة للأصولية الإسلامية، وبخاصة في إيران وأفغانستان تحت حكم طالبان، يعكس الجهل المطبق بحدة النقاشات التي تدور بين المثقفين الإسلاميين ذوي الميول السياسية وأفقها الثقافي. فهذه النقاشات لا تتلاءم تماما مع الفكرة النمطية بأن الإسلام متحجر في قالب من القرون الوسطى، ومعاد بطبيعته للحداثة، وعاجز عن استيعاب الديموقراطية"، فـ:"لا يمكن القول إن الإسلام، من الناحية الدينية، أكثر عداء للديموقراطية من المسيحية أو اليهودية أو البوذية"، وعليه، فإن من مصلحة الأمن القومي الأمريكي: "أن يرى المؤمنون بالإسلام أنفسهم جزءا من المجتمع العالمي الناشئ كما هو الحال بالنسبة إلى المناطق غير الإسلامية الأخرى من العالم الأكثر ازدهارا وديموقراطية حاليا"، إذ: "لايمكن التوصل إلى عالم أكثر سلاما من غير المشاركة البناءة لمسلمي العالم الذين يبلغ عددهم مليارا و200 مليون نسمة (الإحصاء قبل عشرين سنة)".
الثاني: انتشار ثقافة الإلهاء والاستهلاك الأميريكية، فيقول: "إن الثورة الثقافية العالمية المستلهمة من أمريكا، بعدم اعتمادها على اتجاه سياسي ولا على الدعاية الديماجوجية، تعيد تعريف التقاليد الاجتماعية، والقيم الثقافية، والسلوك الجنسي، والأذواق الشخصية، والطموحات المادية الفردية لمعظم جيل الشباب في العالم. هذا الجيل، والقسم الحضري منه بوجه خاص، يتسم على نحو متزايد بتطلعاته المشتركة، وميله إلى أنواع التسلية، وغرائز التملك. وبرغم أن الوسائل المادية المتوفرة للأفراد البالغ عددهم 2.7 مليار فرد في مختلف أرجاء العالم تتراوح أعمارهم ما بين 10 و34 عاما، تتفاوت بدرجة كبيرة بين بلد وآخر ـ مما يعكس التباينات العامة في مستويات المعيشة ـ فإن هناك درجة عالية من التشابه في الرغبة الذاتية في الحصول على أحدث الأقراص المدمجة، والافتتان بالأفلام والمسلسلات الأمريكية، والانجذاب إلى موسيقى الروك، وانتشار الألعاب الرقمية، وانتشار سراويل الجينز، وحتى في تشرب التقاليد المحلية للثقافة الشعبية الأمريكية. قد تكون النتيجة خليطا من المميز محليا والعالمي، لكن الأخير يرجع بوضوح إلى أميركا".
بالأخير، يدعو "بريجنسكي" مستشاري الأمن القومي الأمريكي، من واضعي خطط السياسة العالمية لـ"أمريكا"، إلى نبذ خيار "السيطرة"، وإلى تبني خيار "القيادة"، فمع الأولى (بحسب رؤيته) تكون "أمريكا" القوية الناقصة، ومع الثانية تكون "أمريكا" القوية المكتملة. إنه يدعوها إلى المزيد من الهيمنة، لكن بقبضة حريرية لا يشعر الآخرون بها فيما تعيد تشكيلهم تابعين لها.
إنه يؤمن بأن لـ"أمريكا" حضارة عظيمة، لكن، وبحكم السنن الطبيعية، لا بد لهذه الحضارة الساطعة من أفول، ولا بد لإيناعها من ذبول، لكن إذا كان لا بد من ذلك، فليكن بعد وقت طويل، تتمكن فيه أمريكا من الاستعداد لموضعة جديدة، لا تختفي معه في ظلام ما بعد الغروب.

إرسال تعليق