U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

أحلى من السُّكر


 
يسري مرض السُّكري في الأرض سريان النَّار في الهشيم، طوال الوقت يضمّ إلى جعبته آلاف جديدة من البشر تُضاف إلى قائمته المليونيَّة المعذَّبة بنوعيَّة من الألم مقرفة ومحبطة، ألم "الانتباه التَّام على الدَّوام"؛ فهذا "الانتباه التَّام"، وإن كان أفضل من "الموت الزُّؤام"، يبقى أسوأ ما قد يواجه الإنسان في الحياة، إذ عليه العيش كذئب لا يغمض عينيه الاثنين سويًّا، لا بد وأن تبقى إحداهما مستيقظة ومنتبهة، هكذا يُصنَّف المصابون بالسُّكري باعتبارهم طائفة من طوائف العائشين مطاردين في الأرض؛ فإن كان البوليس يطارد المجرمين، والظُّلم يطارد البسطاء، والجَّشع يطارد أصحاب المال، والسَّطوة تطارد أصحاب السُّلطة، فإنَّ الموت نفسه هو ما يطارد مريض السُّكري، يلاحقه بأقوى الشَّهوات الإنسانيَّة على الإطلاق؛ اشتهاء الطَّعام.

بعد فشل الضَّبط الذَّاتي، داخل الجسم، في القيام بمعادلة نسبة السُّكر داخل الدَّم، بسبب انغماس البنكرياس في حالة أنتخة مُضجرة؛ يصبح على المريض بالسُّكري ممارسة هذه المهمَّة الصَّعبة دون إغفال طوال حياته، سيبقى هذا المريض في حالة انتباه دائم، لن يأكل كما يحب، ما يعني أنَّه لن يعيش مستقبلًا كما يحب؛ سيصبح منذ لحظة اكتشافه لهذا المرض وكأنَّه قائد سيَّارة يعاني مقودها خللًا بشعًا، لو مال قليلًا إلى اليمين، أو إلى اليسار، قد تخرج السَّيارة عن السَّيطرة، لتكون النَّتيجة الحتميَّة وقوع حادث مروِّع ينتهي بفقد الحياة، أو ممارستها بصحبة عاهة مستديمة.

حال الانتباه الدَّائم تصيب مريض السُّكري بقلق مزمن، فتصبح الدُّنيا ضيِّقة في وجهه، تصير سبلها الواسعة أحبالًا مشدودة في فراغ، يخطو فوقها قابضًا، إلى النِّهاية، على عصا اتِّزان ثقيلة، يعبر أيَّامه ولياليه بقلب مشحون خوفًا؛ فالمرض مزمن، وعصيٌّ على الباحثين والعلماء، ظهرت أمراض غاية في الخطورة، ظهرت أدويتها، بينما بقي السُّكري دون أدوية ناجعة!

قبل عشر سنوات أصبت بالسُّكري، أكتشفت إصابتي به صدفة، عندما ألحَّ عليَّ صديق، عائد من سفر استغرق شهرين، كي أقوم بإجراء تحليل الدَّم، قال لي: أنت خاسس جدًّا بشكل مش طبيعي.

كنت أنهض من نومي، ليلًا أو قيلولة، أكثر من ست، سبع، مرَّات للذِّهاب إلى المرحاض، أشرب كل ربع ساعة ما يقارب لترًا من الماء، أصنع لنفسي كلّ صباح "كنكة" شاي كبيرة، أحلِّيها بأكثر من عشرين ملعقة سكَّر وأشربها كاملة، وقعت في حبِّ كل الحلويَّات والمُحلَّيات بشكل غير مسبوق، أستيقظ من نومي صباحًا، أو ظهيرة، فلا أستطيع وضع قدميَّ على الأرض، فكعباهما كأنَّهما وتدان حديديَّان يغليان نارًا، الجنس تحوَّل إلى مشكلة كبيرة، بعد أن كانت الممارسة الجنسيَّة نزهة صقر في سماوات مفتوحة، يحلِّق حتَّى دون تحريك أجنحته، صارت معاناة شبيهة بمعاناة حمار يجر عربة حُمِّلت بستِّين طن حديد، إطاراتها "مفسِّيَّة"، محشور أمامها عوائق حديديَّة، يظل المسكين يجر، يحزق، حتَّى يسقط في عرقه "مَرَقُه"، بينما العربة لا تتحرَّك سنتيمترًا واحدًا!

مصيبة سوداء، داهية دقَّت، فأن تعضَّ قلبي أتحمَّل، أن تعضَّ رغيفي أتحمَّل، لكن تعضَّ ذكورتي فهذا ما لا يمكن تحمُّله!

ذهبت لمعمل التَّحاليل بناء على نصيحة صديقي الجزع، أظهرت النَّتائج صدق تخوُّفاته، قياس السًّكر في الدَّم، صائمًا، أربعمائة وستِّين، في حين يجب أن يكون تسعين فقط! أخذت الورقة وذهبت إلى صديقي الطَّبيب الصَّيدلاني، بعد أن نظر فيها زعق: حالًا تخرج من هنا لطبيب باطنة يظبَّط لك السُّكر، أنت في خطر كبير، 460 صايم؟!

خرجت من صيدليَّة صديقي إلى بيتي؛ فعيادة أسد أحبُّ إليَّ من عيادة أحد أطبَّاء هذا الزَّمان، الذين حادوا عن الإنسانيَّة إلى الرَّأسماليّة فأودوا بصحَّة النَّاس إلى إعياء تلو إعياء، وبتاريخ الطِّب المصري العريق إلى حاضر هيِّن رقيع.

كان عليَّ مواجهة هذا المرض السَّالب للحريَّة الشَّخصية بشكل مختلف. 

وقد حدث.

أفادني في المواجهة طبيعتي التي لا تجزع؛ فكل المصائب ليست غير أسئلة تُطرح على أحدنا، والإجابة هي المقياس الذي يُحدِّد مدى تطوُّره على التَّدريج الإنساني؛ لذلك، عندما تأكَّدت من إصابتي بالسُّكري، مارست هوايتي المفضَّلة: "ضبط الأعصاب عند حصول الخسارة"، ووطَّنت نفسي على عدم الاستسلام لفكرة المرض، وعدم الذِّهاب إلى أيٍّ من عيادات أطبَّاء الغبرة، الذين إن وقعت في يد النَّبيل منهم عاملك كآلة عليها الالتزام التَّام بمقاييس التَّشغيل، وإن وقعت في يد الخسيس منهم عاملك كحيوان داجن خلقه الله عنيمة له، يحلب أمواله دون اهتمام حقيقيٍّ بصحَّته! ساعدني على هذا الأمر هو أنَّ للسُّكري ميزة مهمَّة للغاية، يراها الكثيرون عيبًا، إنَّه مرض لا يسبِّب آلامًا لحظيَّة مبرِّحة تدفع المُبتلى به دفعًا اضطراريًّا إلى عيادات الإطبَّاء، لذلك فضَّلت التَّعرف عليه جيدًا بالقراءة عنه، ومحاورة المصابين به، فأحد أهم أمثال جدَّاتنا هو: "إسأل مجرَّب ولا تسأل طبيب". 

اشتريت كتابًا عن "السُّكري"، انهمكت في قراءته، كان الطَّبيب، المؤلِّف، رقيقًا ومتفائلًا! تمكَّنت من معرفة معلومات كثيرة عن هذا المرض الدَّاهية، أهمُّها أنَّه الوحيد الذي يمكن للمريض إنشاء علاقة صداقة معه! اندهشت لهذه المعلومة جدًّا، أو بالأحرى اندهشت من كيفيَّة التَّعبير عنها؛ تساءلت عن نوع الصَّداقة الذي يمكن إقامتها مع طرف آخر يخضعني لشروطه وضغوطه! و"السُّكري" لا يضع شروطًا فقط، أو يمارس ضغوطًا فقط، بل يفعل ما هو أسوأ من هذين الفعلين، إنَّه يفرض الوصاية الكاملة كأبشع مُحتل استيطاني، أو حاكم مستبد!

أمَّا الحقيقة التي اكتشفتها بنفسي، على مدى عشر سنوات سكَّري، هي أنَّه كلَّما تعامل المريض مع هذا المرض باعتباره صديقًا أذلَّه أكثر! إذ يخلعه من تلقائيَّة التَّصرف ليلقي به في جُبِّ الحركات المحسوبة، أي يحوِّله من إنسان عاديٍّ إلى روبوت؛ يأكل بحساب شديد خشية زيادة السُّعرات الحراريَّة عن المعدَّل المسموح به، يتحرَّك بحساب شديد خشية إصابته بجروح قطعيَّة قد تؤدِّي إلى بتر أعضاء كاملة من جسده، كالقدم أو الأكف أو حتَّى الأصابع، أيضًا عليه الانفعال بحساب شديد! فالانفعال الشَّديد أسوأ ما يمكن أن يفعله هذا المرء المسكين في حق صحَّته؛ أي تتحوَّل معيشة الذي يصادق "السُّكري" إلى حساب في حساب، وقيود في قيود، ليعيش عمره ناسيًا نفسه متذكِّرا المرض، يمارس حياة ميكانيكيَّة أشبه بالموات!

لذلك، منذ أوَّل يوم، قرَّرت ألَّا أصادق "السُّكري" مطلقًا، بل أعاديه، ولا يقتل عدوًّا رذلًا كالسُّكري غير التَّجاهل التَّام، أنساه واهتم بنفسي، بهذا يمكنني انتزاع حياتي من بين براثنه، وقد حققت أوَّل انتصاراتي التكتيكيَّة عليه عندما أصررت على عدم الذِّهاب إلى طبيب الباطنة لضبطه، وضبطه بنفسي، بالشَّكل الذي يروق لي؛ قلَّلت السُّكريات والنَّشويات بشكل تدريجيٍّ، بطيء جدًّا، على مدى خمسة عشر يومًا، لتخبرني القياسات الجديدة بوصوله إلى 130 وأنا شبعان!

فالأكل ليس الخبز فقط، أو الأرز، أو المعجَّنات المُسكَّرة، أو الدُّهونيات، هناك أكلات كثيرة لذيذة يمكن لأحدنا أكلها، وملء البطن بها، دون أي زيادات تُذكر في نسبة سكَّر الدَّم؛ الخضروات جميعها مفيدة، حتَّى البطاطس بطريقة طهي معيَّنة لا تضر، الأسماك كلُّها، اللحوم الحمراء، الدَّجاج، مائدة الطَّعام ما زالت عامرة أمامي، لم تنفد مباهجها.

لكن حتَّى عملية الضَّبط هذه مع الوقت لم ترق لي، لأنَّها تعني بشكل أو بآخر أنَّني أُولي هذا المرض السَّخيف أهمِّية ما، هذا الاهتمام ليس غير دال على استمرارية وجوده داخلي هاجسًا لا ينصرم، بينما أريد محوه تمامًا من ترتيبات حياتي، فقرَّرت إعادة سيرتي الأولى تجاه الغذاء، آخذ راحتي في الطَّعام والشَّراب، آكل ما يعن لي من محشيَّات حادقة، وحلوة، أصناف المكرونة، العصائر، المياه الغازية المحلَّاة بالسُّكر الصِّناعي العادي، الشَّاي، القهوة، مُستدلًّا بنومي غير المتقطِّع ليلًا، بعد تحليق سهل كصقر تام العنفوان في سماوات اللذة الليليَّة، على أنَّ منسوب السُّكر في دمي مضبوط جدًّا.

لم أتناول أدوية طوال الوقت، فقط كلَّما عنَّ لي ابتلعت حبَّة من حبوب "الدوانيل" صباحًا قبل الإفطار، دلَّني عليها بعض رفقاء هذا المرض، وبعض مغليَّات الأعشاب، انطلقت أعيش حياتي بالطُّول والعرض، في أوقات كثيرة كنت أراقب التَّغيرات الطَّارئة على وجهي في المرآة، على وزني، فأجد نحافة غير مُستحبَّة، تجاعيد تعكس عمرًا كبيرًا غير حقيقيًّا، فأعرف أنَّ نسبة "السُّكري" في دمي مرتفعة، فأعاود المناورة بتخفيف السُّكريات والنَّشويات؛ وهلمَّ جرَّا.

تسع سنوات على هذا الوضع قبل اكتشاف أنَّ ثمَّة خسارة فادحة قادمة على الطَّريق! فقد ذهبت إلى طبيب العيون لتفصيل نظَّارة طبِّية، لكن الأجهزة المختصَّة قرَّرت استحالة هذا الأمر لعدم قدرة أجهزة فحص العين على تسجيل قراءات! السَّبب تجمُّع المياه البيضاء في العينين بكثافة تستلزم عمليَّة فوريَّة، بل إنَّ "السُّكري" فعل ما هو أخطر من ذلك، ضرب شبكيَّة العينين برشوحات وترسيبات يستلزم التَّخلُّص منها عملية حقن، يتبعها الليزر؛ كانت نسبة "السُّكري" في دمي، طوال التِّسعة سنوات الماضية، تتراوح بين 350 و600 وأنا لا أدري! عندما أخبرت طبيب العيون، مبديًا اندهاشي من ارتفاع هذه النِّسب، بأنَّ جروحي القطعيَّة سرعان ما تندمل، كما لا أعاني من أيِّ دوخات سكَّرية، وأمتلك قدمين غير سكَّريتين، علَّل الأمر بأن جسدي يتمتَّع بمناعة قويَّة.

الحقيقة أنَّ روحي، لا جسدي، هي ما يتمتَّع بهذه المناعة، صمدت تسع سنين متواصلة إزاء نسب سكَّرية مرتفعة حد القتل، لأمارس حياتي كرجل معافى؛ لكن الطَّبيب، الذي أجرى عمليتي المياه البيضاء، طالبني بضرورة ألَّا يرتفع منسوب السُّكر، بعد إتمام العمليَّة، عن 200 بأي حال من الأحوال، لأن الارتفاع إلى أبعد من ذلك سيؤثِّر بشدَّة على العدستين المزروعتين، ما يؤدِّي إلى تلفهما، وشدَّد على ضرورة إجراء عملية حقن شبكيتي العينين.

تسع سنوات من الحياة الكاملة في ظلِّ وجود سكَّري خبيث، دون متابعة طبيب، أو مداومة على علاج، ثمَّ لا تتعدَّى الخسارة عملية في العينين، يعود الإبصار بعدها إلى حالته الطبيعيَّة، لهو انتصار كبير فعلًا.

بعيدًا عن نصائح الإطبَّاء السَّاعين إلى حشد الزَّبائن في عياداتهم على قدم وساق، حتَّى إنَّهم كادوا ينصحون النَّاس بزيارتهم قبل النَّوم وبعده! بعيدًا عن المقولات الانهزاميَّة للمرضى المتشعِّبة في قلوبهم تهيُّبًا من "السُّكري" كسفَّاح تاريخي قديم، هذه المقولات التي تصب في زيادة عبوديَّتهم له، وابتعادهم عن الحياة، ليعيشوا موتى؛ بعيدًا عن هذا وذاك إليك نصيحتي أيُّها المُبتلى بهذا الدَّاء: الإنسان روح وجسد، المرض يصيب الجسد، لكن الرُّوح تصيب المرض، قوِّ روحك يضعف مرضك ويشتد جسدك، واعلم أنَّ أيامًا مملوءة بالحياة أفضل جدًّا من سنين مملوءة بالتَّعاسة؛ كما لا يفوتك النَّظر بعمق إلى أنَّك قد تصل إلى الستِّين، والسَّبعين، والثَّمانين، من عمرك وأنت مريض سكَّري، بينما غيرك قد يموت فجأة بكامل صحَّته وفي عزِّ شبابه! حتَّى إن كنت ستموت في عمر العشرين فغيرك مات وعمره خمس سنين! ثق في أنَّ العمر لا يُقاس بالمتر الطُّولي، بل بالمتر المُكعَّب، لذلك، وبعد خبرة طويلة نسبيًا مع هذا المرض، لا أقول لك: "صادِقه". إيَّاك أن تفعل هذا، فلا يصادق العدو إلَّا أحمق مهين، كما لا أقول لك: "اتَّخذه عدوًّا". ففي العداء الصَّريح خطورة أيضًا، ولكن أقول لك: استخدمه.

نعم، ليعمل "السُّكري" خادمًا لك، هو مؤهَّل لذلك، ليكن مثل كلب يرود القافلة، يتقدَّم لاستطلاع الطَّريق، "السُّكري" مؤشِّر بيان صحِّي جيِّد، لمبة حمراء تنبِّهك إلى استخدامك للطَّعام والشَّراب بطريقة خاطئة قد تدفع جسدك إلى هاوية الأمراض الأشد فتكًا وألمًا.

لا تجزع؛ في ستَّة أيَّام من الأسبوع تناول كلَّ الأطعمة البعيدة عن النَّشويات والسُّكريات والدهون ما شئت دون قلق، ليكن حلوك المفضَّل هو الفواكه، المشروبات الدَّايت، قزقز "لب" كما تحب، التهم الفول السُّوداني، والتِّرمس، بأبشع ما يلتهم "سيِّد قشطة" البطاطا، كلُّ ذلك لن يؤثِّر على منسوب السُّكر في دمك.

في اليوم السَّابع انتقم من إحساس الحرمان، افترس الكرنب والأرز والمعجَّنات افتراسًا احرص على ألَّا يخل بقدرات جسدك المناعيَّة. هذا اليوم مهمُّ جدًّا، فهو يوم التَّنفيس عن أي كبت قد يكون داهمك خلال الأسبوع.

الخلاصة؛ كلمة اسمعها مني و"حطَّها حلقة في ودنك": اجعل السُّكري خادمك تعيش أطول، وأصح، وأجمل.

اسأل مجرَّب!

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة