في يوم النَّيروز تخلو شوارع وطرقات وبيوت جزيرة بوطان من المارَّة والسُّكان، فجميعهم يخرجون منذ الصَّباح الباكر إلى خضرة الغابات، وزرقة البحر، يتنزَّهون، يمارسون الفرحة العارمة بهذا العيد.
حتَّى الأمير زين الدِّين، ملك الجزيرة، وكلّ من في
قصره، يفعلون في هذا اليوم ما يفعله الشَّعب، يخرجون للتَّنزه وتعاطي المرح.
في هذا العام، غير المحدَّد تاريخيًّا، لأنَّ الحكاية
مرويَّة شعبيَّة، قرَّرت الأميرتان زين وستي، شقيقتا الأمير زين الدين، التَّنكُّر
في هيئة الرِّجال، لأنَّ جمالهما بلغ من الخطورة حد سقوط من يراهما مغشيَّا عليه،
في نفس الوقت الذي يقرِّر فيه كل من تاجدين، فارس شاب من رجال القصر، ومَم، ابن
كاتب من كتبة القصر، التَّنكر في هيئة النِّساء كي يمكنهما اختراق تجمُّعاتهن والتَّمتع
بجمالهن عن قرب، بهذه المفارقة تبدأ الحكاية، وتتصاعد أحداثها لتنشئ قصَّة حب
عميقة بين مم وزين تحديدًا، تنتهي بمأساة خلَّدها الرُّواة الشَّعبيون عندما ظلُّوا
يروونها في تجمُّعات المناسبات، ناقلين إيَّاها في شتات القبائل الكرديَّة.
كان يمكن لهذه القصَّة أن تبقى مجرَّد مرويَّة شعبيَّة،
مثلها مثل ملايين المرويَّات والحكايات والأحاجي التي يتناقلها النَّاس في مختلف
البلدان والثَّقافات، لولا أن قيَّض الله لها شاعرًا كرديًّا كبيرًا، قرَّر أن
يصنع منها كتابًا شعريًّا ينقل به الأمَّة الكرديَّة من أمَّة لا تمتلك كتابًا
شهيرًا إلى أمَّة تضاهي الفرس، والعرب، وكلّ الأمم التي تمتلك كتبًا شهيرة تمثِّل
بطاقات هوية لها.
من هو هذا الشَّاعر الفذ؟
إنَّه أحمد خاني، المولود عام 1651، في مدينة بايزيد الواقعة في الشَّمال الشَّرقي من كردستان الشَّمالية، أوَّل ما تلقَّاه من علوم كان في العقيدة الإسلاميَّة، كحفظ القرآن وبعضًا من الأحاديث النَّبوية، والتَّعرف على علم التَّجويد، والاطِّلاع على السِّيرة النَّبوية، ودراسة الصَّرف والنَّحو والمنطق والفقه، عمل والده كاتبًا في ديوان أمير بايزيد، إلَّا أنَّه تُوفِّي مبكِّرًا، ليعيش خاني اليتم في كنف أخيه الأكبر قاسم، الذي استلم منصب أبيه.يكبر خاني، يبرع في اللغة والشِّعر ليتولَّى نفس المنصب،
إلى جانب اشتغاله بالإمامة والتَّدريس في مسجد بايزيد، سافر إلى مصر ليحصل فيها
على إجازة للتَّدريس والإفتاء، ومنها ارتحل إلى عدَّة بلاد أخرى، أشهرها الآستانة،
عاصمة الدَّولة العثمانيَّة، التي كانت في أوج قوَّتها، واختلف المؤرِّخون في
تحديد تاريخ وفاته، ليلجأ بعضهم إلى تحديد هذا التَّاريخ عن طريق علم حساب الحروف،
وبالنَّظر في حروف جملة "طار خاني إلى ربِّه"، المكتوبة على شاهد قبره، حدَّدوا
توقيت وفاته بين العامين الميلاديين 1706 و1707.
قال أحدهم: الفردوسي أحيا الأمَّة الفارسيَّة، وخاني أنقذ الأمَّة الكرديَّة بكتابه هذا من الموت المحتم.
أوَّل اطِّلاعنا كعرب على هذه القصَّة الأسطوريَّة كان في مطلع الخمسينيَّات من القرن العشرين، عندما قام الدُّكتور سعيد رمضان البوطي بترجمة هذه القصَّة إلى العربيَّة بأسلوب قشيب يحرص على استعمال كل ما هو بلاغي في اللغة، كعادة أهل الكتابة أيَّامها.في 2007 ينتهي جان دوست، وهو أحد الأدباء الأكراد المهمِّين، من ترجمة أخرى لكتاب أحمد خاني تكشف عن نقص كبير في ترجمة البوطي، الذي اهتم بالقصَّة فترجمها سردًا بينما كتبها أحمد خاني شعرًا، كما أنَّ البوطي لم يحفل بأفكار المترجَم فاجتزأ المقدِّمة الطَّويلة ليبتر أبعادًا فلسفيَّة كبيرة، ودعوات أصيلة للتَّأمل، وكأنَّ البوطي لم يكن مهتمًا بغير تسلية القارئ، واستعراض مهاراته اللغوية؛ ولقد قرأت التَّرجمتين كاملتين، ترجمة البوطي وترجمة دوست، لأجد أنَّ الأخيرة خرجت إلى النُّور مهتمَّة بعقل القارئ، فضلًا عن التَّسلية المصاحبة عادة لكل الحكايات الشَّعبية.
يقول جان دوست في مقدِّمة ترجمته، لافتًا الأنظار إلى نواقص ترجمة البوطي: أهملت المقدِّمة الفلسفيَّة والتَّصوفية والقوميَّة البالغ عدد أبياتها مئتين وخمسة وثمانين بيتًا، تتضمَّن أفكارًا قوميَّة ربما لم ترق للبوقي، وربما لم يكن الرَّقيب الحكومي ليسمح بنشرها؛ كما أهمل ترجمة الأبيات التي تتحدَّث عن زواج الأميرة ستي بموظَّف البلاط تاجدين لما فيها من مشاهد خادشة للحياء! كما تمَّ إهمال مشاهد لقاء العاشقين مِم وزين لما فيها من احتفاء مبالغ فيه بالجسد! كما أنَّ البوطي أهمل فصلًا كاملًا في نهاية القصَّة بيَّن فيه أحمد خاني خلاصة فلسفته ونظرته إلى الكون.يستدرك جان دوست موضِّحًا دافعه إلى استخراج هذه التَّرجمة
الجديدة: إنَّ رائعة مِم وزين ليست قصَّة حب بقدر ما هي كتاب فكر وتأمُّل، لذلك
بادرت إلى ترجمة هذا النَّص الكردي الكلاسيكي الشَّرقي الآسر بكل ما فيه، دون أن
أجعل نفسي رقيبًا على مؤلِّفه، فما فيه من أفكار وعقائد وطروحات ملك للمؤلِّف فقط.
جاء كتاب "مَم وزين" لأحمد خاني في حوالي 2660 بيتًا شعريًّا، ويعتبر الكتاب المقدَّس للقوميَّة الكرديَّة؛ كما أنَّه، على حدِّ تعبير دوست: "يعتبر الإسهام الكردي الأكثر قوَّة وشهرة في تكوين البنيان الثَّقافي العالمي.
وفي مزايا هذه التَّرجمة كتب المفكِّر السُّوري الرَّاحل هادي العلوي في مقدِّمته لها: لم تحظ مم وزين بترجمة عربيَّة متقنة وكاملة حتَّى ظهور هذه التَّرجمة التي أجراها المريد الكردي جان دوست، نجل الشَّيخ ملا بشير الشَّيخ صالح، وتضمَّنت النَّشرة الجديدة مقدِّمة دراسيَّة للمترجَم، وأرفقت بشروح وافية لغوامض معانيها ورموزها دلَّت على تمكُّنه من الثَّقافة الصُّوفية. وبهذا الظُّهور الناجح تكون الملحمة قد توفَّرت للقارئ العربي مستوفية شروط النَّقل الفنِّي السَّابق بما يجعلها نصًّا عربيًّا مبينًا يُقرأ كما يُقرأ أي نص عربي أصيل. والقارئ العربي في حاجة لقراءة هذه الملحمة بعد أن قرأ الملاحم الأجنبيَّة المترجمة عن لغات أوروبَّا، وهي أقرب إليه منها، لأنَّها داخلة في ثقافته الإسلاميَّة المشتركة، كما في أدب المنطقة الحضاريَّة الواحدة التي تضم الشُّعوب الثَّلاثة الكبرى: الفرس والكرد والعرب.أمَّا أحمد خاني نفسه فقد قدَّم كتابه تقدمة بديعة،
نجتزئ منها هذا المقطع الريَّان، حيث يقول: عسى أن يسأل لي الرَّحمة كلُّ من
يسترحم لهما، وعسى أن يدركني أثرٌ من عطفهم وقبسٌ من دعائهم، وعسى أن يقول أناسٌ:
رحمه الله، فقد وشى حياتهما بوشي جميل، وغرس قصَّتهما في بستان الخلود، وعسى أن يتلطَّف النَّاقدون لسِفْري
هذا في نقدهم، فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال لكنَّه طفلي الغالي، عزيز إلى نفسي، مدلَّل عند قلبي، جميل في عيني. وهو بستان وإن كان قد يُرى بين ثماره ما هو فج غير
يانع، غير أنَّها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبِّي. وحسبهما من جهدي ما قدَّمت، وحسبي منها ما أثمرت.

إرسال تعليق