U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "صالة أورفانيللي" لأشرف العشماوي

 



و"أورفانيللي" يهودي عاش في "مصر" قبل ثورة "الضباط الأحرار"، مصري صميم، نشأ بصحبة صديق الطفولة "منصور". ومنصور "مسلم"، وصديقه الوحيد. استمرت صداقتهما حتى وفاة "أورفانيللي" في ريعان شبابه، بعد أن أنجب ابنا أسماه "أورفانيللي منصور"، على سبيل الامتنان لهذه الصداقة الوطيدة.

وكان لـ"منصور" حلم كبير: امتلاك صالة مزادات، من تلك التي تباع فيها التحف والأنتيكات، فاستطاع مع الوقت تحقيق حلمه بفضل ذكائه الطاغي وتمويل "أورفانيللي"، فامتلكا صالة في وسط البلد، "القاهرة"، وضعا على واجهتها يافطة كبيرة مكتوب فيها: "صالة أورفانيللي منصور". وبفضل طموح "منصور" الدافق الفياض يتواصل نجاح الصالة لتصبح صالة المزادات الأهم على الإطلاق.

ليس لـ"أورفانيللي" أي فضل في نجاح الصالة سوى عمله الوظيفي في مصلحة الضرائب، وكان ينجح من خلاله في استبعاد الصالة عن الضرائب المستحقة عليها، وحتى هذا العمل لم يؤده "أورفانيللي" بدافع ذاتي، بل بتوجيه صديقه النشط "منصور".

لا شيء يمكنه تعطيل مسار طموحات "منصور"، فيمضى قدما في تنفيذ جميع عمليات النصب التي تكتنفها أسرار تلك المهنة، تجارة الأنتيكات والمزايدة عليها. فتورد الرواية صورا مختلفة لهذه العمليات الفاسدة، بدءا من تقليد وتزوير القطع وبيعها باعتبارها أصلية، ومرورا بالتدليس على الزبائن، وذلك عبر عرض منتجات زمن "أحدث" باعتبارها منتجات زمن "أقدم".

"أورفانيللي" ضعيف الشخصية، منسحق بصدد "منصور"، لا كلمة له ولا قرار، حتى عندما أراد "منصور" استغلال زوجته، "ليلى"، جنسيا لصالح عملية شراء مقتنيات من قصر الملك "فاروق"، لم يتمكن "أورفانيللي" من الاعتراض لشرفه. وعندما تضبط الملكة "ليلى" في القصر يتم التخلص منها عبر تلفيق تهمة مخلة بالشرف، لا يتحمل قلب "أورفانيللي" وقعها، فيسقط ميتا على باب الصالة.

كان "أورفانيللي" قد ألحق ابنه بالصالة ليتعلم فنون المزادات، خاصة والولد لم يكن موفقا في المدرسة، فأبدى الابن مهارة وذكاء شديدين، لقيا إعجاب منصور، الذي لم يبخل عليه بتعليمه أسرار الصنعة قولا وعملا. لكن "أورفانيللي الابن" لم يكن وفيا لـ"منصور"، فلقد نشأ وكبر وهو يحمل في قلبه ضغينة سوداء تجاه هذا الشخص الذي تسبب في سجن أمه، وموت أبيه.

تستمر احداث الرواية، إلى انتهائها، بنجاح "أورفانيللي الابن" في قتل "منصور"، قبل أن يلقى حتفه، بدوره، مسموما من قبل أحد الأطراف الطامعة في الحصول على الصالة.

 هذا وتتماس أحداث الرواية مع تبعات ثورة "الضباط الأحرار" على المجتمع المصري، وكيف أنها كانت تبعات سلبية، ألقت بظلالها على نشاط صالات المزادات وتجارة الأنتيكات في العموم، حيث ظهر الضباط متكالبين على سرقة آلاف القطع من التحف المبثوثة في قصور الملك والأمراء وكبار رجال الدولة قبل الثورة، وليظهر نوع جديد من الفساد يقوم على رعايته الكاب العسكري، ممثلا في شخص "محمود العيسوي"، الضابط المنظم لعمليات الفساد والرشاوى.

قسم "العشماوي" روايته في ثلاثة أقسام بعناوين: البداية . أورفانيللي / الحكاية . منصور / النهاية . أورفانيللي منصور.

وسرد أقاصيصه مستخدما "ضمير المتكلم" على طول الرواية؛ فيقوم "أورفانيللي" بالحكي في القسم الأول، وفي الثاني يحكي "منصور"، وفي الثالث "أورفانيللي الابن".

 وضمير المتكلم (من وجهة نظري) ليس أفضل الخيارات لكتابة رواية شغلها الشاغل سرد عشرات المواقف المستهدفة لتفجير التشويق الناتج عن حبكة أقرب ما تكون إلى حبكة الألغاز وأجواء الجريمة، فهذه الأجواء يخدمها جيدا السرد بواسطة "راو عليم". وأبلغ دلائل عدم توفيق استخدام راو بـ"ضمير متكلم" في هذه الرواية هو سقوط الكاتب في خطأ فني فادح: حيث يفاجأ القارئ ـ مع نهاية كل قسم ـ بأن الشخصية التي تحكي له قصتها على مدى 150 صفحة تقريبا، وبكل هذا التفصيل الممل، وبكل هذه القدرة على تذكر التفاصيل، هي شخصية  تلفظ انفاسها الأخيرة، إما موتا بالسكتة القلبية: "أورفانيللي"، أو قتلا بالرصاص الحي: "منصور"، أو بالسم: "أورفانيللي منصور".

 ولتقريب الصورة: دعونا نتخيل أحدهم مطعونا في صدره بخنجر، والدم يثج من جرحه ثجا، في الرمق الأخير من حياته، مع ذلك يكون قادرا على حكي قصة حياته في 150 صفحة، وبالتفصيل الدقيق!

ولا يخفى أن "العشماوي" مغرم بصياغة "المشهد"، ولا ينكر شغفه بما يطلق عليه: "المشهدية"؛ ولمن لا يعرف المقصود بـ"المشهدية" فهي السرد على النمط التلفزيوني، أو السينمائي.

أي: أن "يشاهد" القارئ المكتوب بحروف "اللغة العربية" وكأنه "كادرات بصرية" في مسلسل، أو فيلم.

 ولهذا النوع من الكتابة الروائية مشاكله العويصة، والتي أخطرها على الإطلاق ضرورة سعى الكاتب إلى اختلاق عشرات الأحداث الجانبية التي قد لا تصب في صالح نماء الفكرة بقدر ما تضرها تمييعا وتفكيكا. فالكاتب مجبر على اختلاق عشرات الأحداث إذا كان راغبا في تسرييع وقع روايته "المشهدية"، وإلا فإنها تموت بطئا وركودا.

 هكذا يستحيل على الرواية "المشهدية" الإفلات من أحد خطئين فادحين:

"الركود" إذا لم يتخمها الكاتب بالأحداث.

أو "المياعة والتحلل" إذا هو فعل.

 وقد ماعت "صالة أورفانيللي" وتحللت بعشرات القصص الجانبية غير المفيدة، فهو، مثلا، يصر على الزج بمجموعة مواقف تؤكد مكر "منصور"، وهشاشة "أورفانيللي"، وتدليس القائمين على المزادات، وهو يقصد تسرييع الأحداث.

 هذا وقد أحكم التأثر بـ"المشهدية" قبضته على "العشماوي"، وهو يكتب روايته، درجة تحريك شخصياته الروائية تحريكا مطابقا لتحريك المخرج السينمائي، أو المسرحي، لشخصيات فيلمه أو مسرحيته.

 وللتوضيح: في حيواتنا الطبيعية يتبادل أفراد الأسرة الكلام فيما هم جالسين على أرائك الردهة، لا يغادر أحدهم مكانه مهما احتدم النقاش إلا لسبب طارئ، مع ذلك يقوم فن السينما، أو التلفزيون، أو المسرح، بتحريك أفراد الأسرة أثنائ النقاش حركات مدروسة، فهذا يدور حول ذلك من الخلف، وذلك يواجه هذا من الأمام، وهكذا دواليك، يقصد المخرج إشاعة الحركة في الصورة كي لا تركد فيملها المشاهد.

هكذا يفعل "العشماوي" وهو يكتب، يحرك شخصياته حركات "تمثيلية"، لا "واقعية"، مع أن رواياته "واقعية"، لكن هذا ما تفرضه عليه "المشهدية"؛ فكأنه، بالنهاية، يكتب "سيناريو" بلغة أكثر روائية، لا يكتب رواية على الحقيقة.

 والنتيجة: يخرج قارئ الرواية "المشهدية" كما دخلها. لا حصيلة ثمينة بحوزته، فقط هشيم من أحداث تابعها على سبيل التسلية وإزجاء الوقت، لكنها لم تثر في عقله أسئلة، لم تحقق له انتباهة، لم ترعه التياعا، ولم تدعه إلى قراءتها مرة أخرى كمحاولة جديدة مبذلة من أجل الاهتداء في التيه.

 ولغة "صالة أورفانيللي" لغة "توصيلية"، ليست "أدبية"، فالجملة لا تستهدف أكثر من نقل "المشهد". تماما كاللغة "الصحافية" تستهدف فقط نقل "الخبر". وعليه فلن يقف القارئ أمام جملة ساحرة التركيب، أو بديعة التكوين، ريشتها طازجة، وخطها فتان، تغويك لاستعادة قراءتها لا لشيء سوى عبقرية خطها وسطرها. هذه العبقرية التي هي "الأدب" في حقيقته، وهنا لا أقصد اللغة المصنوعة "المفتعلة"، لا أقصد اللغة "المنقوشة"، لا أقصد اللغة "المتفسيفة" (من الفسيفساء)، وإنما اللغة "الصدى لحالة المبدع" وهو يكتب رواية تراوغ "الروح والقلب"، لا رواية تغازل "العين والنظر". لغة الرواية المراوغة للروح لغة مُحلِّقة بأجنحة خفاقة، ومُخلِّقة لأكوان إبداعية أبعد سموا، وأدفأ مشاعرا، من لغة أقصى أمانيها خدمة البصر بكتابة مشهد تلو مشهد تلو مشهد.

 و"العشماوي" قاض، أي: ليس بمعزل عن أجواء الجريمة، ما يعرضه لعديد من قصص الجرائم المحبوكة، مع ذلك لا يغزل أبدا جريمة محبوكة في رواياته، وقد قرأت له أكثر من رواية، أشهرها "البارمان"، التي تحتوي على جريمة ساذجة، يمكن للمتهم فيها (وكان عامل توصيل أكلات على موتوسيكل) الخروج براءة وطلب التعويض لو ترافعت "أنا" عنه، مع أني لست محاميا متخصصا، مع ذلك قاد الروائي المتهم البريء إلى الحكم عليه بالإعدام. وهنا (في صالة أورفانيللي) عدة جرائم، جميعها غير محبوك بدقة، يمكن تبرئة أصحابها بسهولة، مع ذلك يقعون في مغبة حكم جائر. وهذا عجيب من كاتب روائي يعمل بالأصل في القضاء.

 وكان البعض قد أشاد بجهد الكاتب في تضمين الرواية بمعلومات غزيرة حول سوق المزادات وخباياه، وهنا أقول إن كل ما ورد في الرواية من خبايا سوق المزاد شاهدناه قبل في مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية، وقرأناه في أعمال سابقة، ليس بجديد، سوى أن الجو في صالة أورفانيللي عتيق مناسب لأجواء ما قبل يوليو. هذا مع التأكيد ان الرواية ليست فن تضمين المعلومات، فللمعلومات مصادر أوثق من الروايات، لكن الرواية فن إنساني أشبه ما يكون بمراكب الشمس، تستقلها أرواحنا إلى عوالم سمائية، نفتح بواباتها بقلوب تزعجها لغة المعلومات.

 لماذا انتظرت شهرا قبل الإقدام على كتابة رأيي في هذه الرواية؟

 لأتأكد من صحة ظني في أن الروايات "المشهدية"، وفور الانتهاء منها، ومع مرور الوقت، تأخذ في الخفوت والتلاشي السريع، حتى أنني، الآن، لا أتذكر من "صالة أورفانيللي" سوى خطها الرئيس:

"أورفانيللي الابن" انتقم لأبيه "أورفانيللي" من صديقه الغدار "منصور"، ثم يموت مقتولا بالسم.

 وبس.

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة