U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "ثرثرة فوق النيل"




 

 

رواية "ثرثرة فوق النيل"، للأستاذ "نجيب محفوظ"، كلام في كلام، على كلام، جنب كلام. رغم أنها بدأت بداية عبقرية، من تلك البدايات الإبداعية المحفزة للقارئ على الذهاب إلى المطبخ، وإعداد واحد قهوة محوج مضبوط، بنفسه، على مزاجه، ليضبط دماغه على التردد الإبداعي العالي الذي يبثه أول الرواية.

تبدأ بالرواي العليم وهو يصف لنا الحالة النفسية لأحد الموظفين، سيكون "أنيس ذكي"،  وهو على مكتبه، بينما تتراءى له تخيلات أشبه ما تكون بتخيلات المجانين، يتصور فيها "رئيس القلم" برأس بالوني يطير مرتفعا إلى السقف، قبل أن يستدعيه "مدير القسم" ليوبخه ويعاقبه كونه قدم له بيانا إحصائيا مكتوبا بسن قلم فارغ من الحبر!

إنه، "أنيس ذكي"، رجل غريب الأطوار.

وما أحلى العمل الأدبي، الذي يحلق بنا إلى الأطوار الغريبة، تجاه غريبي الأطوار.

لكن.

وكعادة "نجيب محفوظ" في روايتيه: "ميرامار"، و"قشتمر"، يقوم بضغط العالم الرحب الفاعل في مكان ضيق بليد، ما يحد من حرية الكتابة. ما يشعر معه القارئ بأن رواية "نجيب محفوظ" (حتى الآن بالنسبة لما قراته) وكأنها ركن قصي من مسرح واسع، المسرح كله مظلم ميت، فيما إضاءة شاحبة تسقط ذابلة على هذا الركن الذي تدور أحداث الرواية فيه.

وما ينمي الإحساس المسرحي تجاه "الثرثرة" بأكثر من سابقتيها هو: الحوار.

فالرواية تقع في 160 صفحة قطع متوسط، لو استخلصنا صفحات السرد منها لن  يتجاوز عددها الخمسين صفحة على أكثر تقدير، والباقي حوار، حوار، حوار، حوار، حوار.......

وحوار مثل لعبة "البنج بونج"، كرة صغيرة سريعة تأخذ نظر المشاهد بعيدا عن اللاعبين أنفسهم. وإذا كان هذا مبدعا في "البنج بونج" إلا أنه ليس كذلك في الرواية. "البينج بونج" يهتم بالكرة، "الرواية" تهتم باللاعبين.

وهكذا يخرج الحوار الجاف من ردود الأفعال الإنسانية، غير الممزوج بما حوله من كون حياتي، حوارا مسرحيا من حوارات تلك المسرحيات القديمة، التي تعتمد على قوة حنجرة الممثل، لا على قوة قلبه وحرارة أحاسيسه.

وعلى نفس الثيمة إياها:

المكان الذي لا تأثير له في حياة الأبطال سوى أنه أرضية لقاء، يضم مجموعة من الأصدقاء، يتبادلون حكي حياتهم وخيباتهم وتناقضاتهم، حكيا خارجيا لا نصيب له من الغوص داخل النفس، ما يجعل التفاعل الإنساني بين القارئ وما يقرأه غير حميمي بالمرة. فمثلا، يكتب "محفوظ" عن حادثة مصرع رجل بسيارة أحد أصدقاء الشلة، بينما كانوا جميعا في رحلة ليلية عبثية، ينقلب حال الشلة، صراخ، حزن، بكاء، توتر، تخوف، لكن القارئ لا يحزن، ولا يبكي، ولا يتوتر، فهو ينظر إلى المشهد من الخارج، يؤديه ممثلون أصواتهم مفتعلة، وأعلى من دقات قلوبهم.

تتكون شلة أصدقاء عوامة الثرثرة من "أنيس ذكي"، الموظف الحكومي، والذي سيتسلم دور راوي الرواية من الرواي العليم. مثقف، غارق في الحشيش لأذنيه بصحبة شلته، أثر الحشيش على وعيه درجة رؤيته خيالات، غالبا ما تكون تاريخية، كونه محب للتاريخ. وهي حيلة من "محفوظ" حاول بها إضفاء عمق على هذه الثرثرة الفارغة.  

و"على السيد"، الناقد الفني، والذي يعكس نجيب محفوظ من خلاله رؤيته للنقاد، فهم أوغاد، يتاجرون بنقدههم لمكاسب شخصية دنيئة قد تصل إلى حد الحصول على "صندوق ويسكي"! و"علي السيد" بلا عقيدة، بلا خلق، حتى أنه ـ على حد وصف إحدى بطلات الرواية له ـ لا يتورع عن ارتكاب جريمة إذا أمن العقاب.

و"رجب القاضي"، ممثل مشهور، بلا عقيدة أيضا، بلا مبادي، ورجل جنسي، تسبب في الأزمة الأخيرة، عندما قاد السيارة ليلا، رفقة الشلة، بجنون أودى به إلى دهس أحد الأشخاص، وعدم التوقف لتقديم المساعدة، بل الهرب، لتنشر الجرائد صباح غد عن العثور على حثة قتيل دهسته سيارة هرب قائدها. وهو الحادث الذي جاءت تبعاته سريعة ومفاجئة، ينقض معها التماسك بين أفراد الشلة، ذلك التماسك الهش في رهافة دخان الشيشةـ والمهزوز المتأرجح كالعوامة على ماء "النيل".

و"خالد عزوز"، الأديب الذي يكتب فنا هلاميا، ينضح بالانحلال والإباحية والإلحاد، ليس له قيمة، ولا شهرة لأعماله الأدبية، سوى قصة قصيرة وحيدة، ويعيش من ممتلكات واسعة ورثها عن أبيه.

و"مصطفى راشد"، المحامي، مدعي ثقافة، محب لتهويمات المطلق ولوغاريتمات الفلسفة، لكنه (نتن في داخله).

(سبحان الله. تحس "نجيب محفوظ" يصف أولاد الهرمة من النقاد والكتاب الربع لبة الذين يملأون أجواءنا الآن بنتانتهم وتهويماتهم ولوغاريتمياتهم).

و"أحمد نصر"، مدير حسابات، أقرب أفراد الشلة إلى الإيمان، وأثبتهم انفعاليا، ما يؤكد لنا الإحساس الإيماني النابض بقوة في قلب "نجيب محفوظ".  

وطبعا، لا بد من البهارات النسائية في قعدات الأنس والفرفشة. وإن كانت الرواية لم تنقل لنا تطور الهلس الحشيشي بين الأبطال والبطلات إلى مستوى ممارسة الجنس الصريح، فقد اقتصر الأمر دائما على قبلات وأحضان مخطوفة، لا أكثر ولا اقل. وكن أربع شخصيات: "ليلى"، التي تعمل في وزارة الخارجية. و"سناء"، البنت الجامعية. و"سنية"، ربة المنزل المثقفة التي تهجر بيتها وزوجها احيانا كثيرة وتنضم لشلة الأنس. وأخيرا "سمارة بهجت"، الصحافية المنضمة إلى الشلة برغبة دفينة لا تفصح عنها، وهي دراسة هذه الشخصيات الهلامية، من أجل كتابة مسرحية عنها.

أما الشخصية الميتافيزيقية، ويمكن اعتبارها أثرى محاور "ثرثرة فوق النيل"، فهي شخصية عم "عبده"، حارس العوامة، الكبير جدا في السن، مع ذلك قوي جدا، الضخم جدا المطيع جدا، الموجود واللا موجود، الحاضر والغائب، يجلب الحشيش وبنات الليل في ذات الوقت يحرص على رفع الآذان في المسجد القريب، وإقامة الصلاة، وإمامة المصلين وقتا بوقت. وفي كثير من الأحيان يتكلم الراوي عن عم "عبده" الخرافي بصيغة تحيل القارئ إلى تصور مفاده أن عم "عبده" هذا معادلا بشريا لله عز وجل (سبحانه). كأنه جبلاوي "اولاد حارتنا".

كتبت هذه الرواية في 1966.

فيمكن ضمها إلى المنتجات الروائية لتيار "العبث". فهي ثرثرات غير مفهومة في السياق العام، إذ يمكن للقارئ فهم كل جملة بذاتها، مع ذلك ليست مفهومة في سياقها، ما يربك القارئ كثيرا، وما يشكك في قدرات فهمه، وكأن تيار "العبث" ليس له من هدف سوى أن يعبث، ولو بعقل المتلقي أيضا،، ليفككه كما فكك العالم، فينتهي البشر إلى مجرد كائنات ترى من أعلى مثل ذرات ذخان متفرقة. بحسب كلام "أنيس ذكي" داخل الرواية.

هكذا الرواية، بمنهجها العبثي، مناسبة تماما لعنوانها، إنها ثرثرة "غير مفيدة بالمرة" على "النيل".

شيئان مضيئان في هذه الرواية، وهما من الأسس المكينة للفن الروائي، "اللغة" و"الأسلوب".

فاللغة هنا سلسلة جدا، أدبية في ذات الوقت، لا تحتفي بمزينات لغة. لغة أدبية على طبيعتها، لا تضع "ماكياج".

وإن كانت مكتوبة في منتصف ستينيات القرن الماضي، إلا أنها بنت هذا الزمان أيضا، حية، وشابة. وأظن أن العاصفة الستينية الإبداعية الخلاقة كان لها دور في صقل لغة هذه الرواية.

أما "الأسلوب" فإنه رشيق في جميع مناطق السرد، نشيط سريع أخاذ. ولولا مئات السطور الحوارية، التي أثقلت الأسلوب جدا، حيث تظهر وكأنها دائرة التحميل مع النت الضعيف، لكان لهذه الرواية شان آخر.

وإلى لقاء ثالث على محطة روائية "محفوظية" قريبة.

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة