U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "قصة الأمس" لماجدة جادو

 



"يا اسكندرية بحرك عجايب".

رواية "قصة الأمس"، للأديبة المصرية "ماجدة جادو"، تشبه بحر "الإسكندرية":

موجة وراء موجة.

وأنا من المغرمين بوضع تصورات لأساليب السرد الروائية مقتبسة من طبيعة واقعنا المعاش؛ مثلا:

لدينا سرد روائي يشبه "رقصة التحطيب" الصعيدية: يبدأ هادئا جدا، مزمار ممطوط، متكاسل، شاك، يتحرك بنغمه راقصان، كل منهما يقبض على طرف عصا مشرعة، تتنقل أقدامهما ببطء؛ ثم، رويدا رويدا، يأخذ الطبل البلدي الضخم في القرع، ويسخن المزمار بوهج صدر الزمار، تنبعث حرارة القلوب، تتسارع الأقدام، تتلامس العصوان، حتى إذا أعلن الطبل غضبه، وتدفق المزمار يصرخ، تبدأ المعركة، وتحتدم، تتسارع الخطا، وتصطك العصوان، ويتصاعد الغبار، وتتعالى الصيحات، إلى النهاية الخاطفة بضربة من أحدهما، يتلقاها الآخر في مقتل. وتنتهي الرقصة. أو تنتهي "الرواية".

ولدينا سرد روائي يشبه "شوك السمكة": عمود فقري تتفرع منه الأشواك. قصص كثيرة، كل قصة منفصلة عن أختها، ولا رابط بينها سوى الحدث الرئيس، الفكرة الرئيسة. أو "الفقرة" الرئيسة.

أما السرد الروائي في "قصة الأمس"، للأديبة المصرية "ماجدة جادو"، فأشبه ما يكون بـ"أطراف البحر على الشطآن"، توالي أمواج، موجة وراء موجة، لكل منها أثر في أختها، موجة رافعة تخفضها أخرى؛ موجة دافعة تسحبها أخرى؛ موجة مد، وموجة جزر.

الحبكة حول "قصة حياة" أسرة هجرت من إحدى مدن القناة، بعد العدوان الثلاثي، واستوطنت "الإسكندرية"، الأسرة مكونة من امرأة وعيالها، عدد من الأطفال لم أهتم بحصرهم، كما لم اهتم بحفظ أسمائهم، فقد ألقت الروائية أسماءهم جزافا، وكأن ليس من أهمية لهم في الوجود سوى أنهم أسماء، والأسماء، إذا لم تكن لأشخاص معتبرين، تفقد اهميتها.

مثلت تلك الأسرة المهجرة الجيل الأول، المؤسس، من أجيال الرواية الثلاث، وهو الجيل ـ الأول ـ الذي لم يهتم بأكثر من ضمان موطء قدم في الحياة، لم يتعد طموحه أبعد من "لقمة" و"هدمة" و"أوضة". مع ذلك، ورغم شقائه العنيد، يظهر في الرواية أسعد حالا من جيل الأبناء (الجيل الثاني)، والمعجب في الأمر أن سبب الشقاء هو نفسه سبب السعادة: قناعته. جيل لم تفرق الطموحات نفسه، لم يتحير بالتنافس، فقد الأمل في اي مكتسبات، وظل آملا في الله، وفي الأسرة التي تأويه ويأويها. من هنا، كان رب الأسرة، من الجيل المؤسس، رغم فقره وعوزه، قادرا على جمع كل أفراد الأسرة، ومعظم الأقارب، وما تيسر من الجيرة، حول طبلية واحدة عليها ما تيسر من الطعام، في حين تكشف الرواية عن جيل الأحفاد (الجيل الثالث) وقد تعلم في أرقى المدارس، وامتلك المال، وركب السيارات الفارهة، وسكن القصور، لكنه افتقد القدرة على التواصل الأسري والعائلي الحميم، لتفجر "قصة الأمس" المفارقة المرعبة: فقراء لم يأخذوا بنصيب من العلم فهموا الحياة، وأغنياء متعلمون عجزوا عن فهمها!

لقد فقدت الجدة، المؤسسة، أحد أبنائها في رحلة التهجير، حيث استقلت بهم قطارا مزدحما، نزلت منه على رصيف "محطة مصر"، وأحصت أبناءها لتجدهم وقد نقصوا واحدا، جزعت وهلعت، وحزنت، وبكت، مع ذلك واصلت الحياة، وكونت أسرة، وسكنت بيتا، الخلاصة: شيدت عائلة. في حين تعلمت الحفيدة تعليما راقيا، وونضج عقلها لدرجة الالتحاق بالعمل السياسي، فانضمت لحزب يساري يتبنى مجموعة من القيم الاشتراكية المستهدفة لرفعة حال البسطاء، وأحبت شاعرا، وتزوجت مثقفا، وصارت موظفة، غير أنها لم تتمتع للحظة بقوة الجدة، بل كانت هشة على الدوام، ليس لها من دور سوف اكتشاف الخيبات، وتلوينها بالبؤس، والمرور على أيام الحياة مرورا لا مباليا، كئيبا، ولتنتهي "قصة الأمس" المبهجة، رغم الفقر، في "غد"، ما، حزين، رغم الانفتاح!

كتبت "ماجدة جادو" جميع ذلك في رواية ذات نسق سردي تموجي ـ أمواج ـ أول موجة لا تحض على استكمال القراءة، فالمطلع مكتوب باستخفاف شديد، لغة توصيلية إخبارية، ومشهد سريالي لجموع من البشر تقطع أرضا جرداء موازية للنيل! كأنهم زرافات من "الزومبي" في أفلام الرعب الأمريكية، حتى ينتهي بهم الأمر إلى محطة قطار، تستلقي الجموع على الأرض، تنتظر قدوم قطار لا موعد محدد له. ثم يأتي، ويغادر بعدما ابتلع ما استطاع من هؤلاء "الزومبي"، قبل أن يلفظهم على رصيف "محطة مصر" بـ"الإسكندرية". يقيض الله للجدة المؤسسة من يساعدها على تدبير شؤونها في بيت وعمل، يغادر القطار، وتمضى الأيام.

من خلال الحبكة، وفي إطار حكي "قصة الأمس"، تحكي الكاتبة "قصة الإسكندرية" في موجات تتناغم مع موجات أقوى تحكي بها "قصة الوطن" منذ الموجة العسكرية التي أطاحت بالملكية في 1952م، وحتى بعد انحسار موجة "السادات" برصاص الإرهاب الذي سبق ورباه بنفسه. لم تتعد الرواية مرحلة "السادات" رغم إنهاء الكاتبة روايتها في 2016م. وقد جرت مياه كثيرة جدا، ومتنوعة، في القناة المجتمعية المصرية، وكأن الرواية تقول: ما جرى بعد "السادات" ليس سوى مضاعفات مرض أساسي. ولا فائدة من النظر في المضاعفات قبل النظر في المرض الأساسي.

"قصة الأمس" واحدة من روايات "إيقاظ الوعي"، تطلعنا على زيف خدع السياسيين، إذا كانوا في أحزاب المعارضة، وعلى زيف النظام الحاكم اللصيق بكرسيه، ومن زيف إلى زيف، حتى تنتهي بنا إلى زيف المثقفين، وكيف أن المثقف الذي لا يكف عن الطنطنة بمبادئ الحرية والاشتراكية، هو نفسه في البيت، بوضعية "الزوج"، ديكتاتور مستبد أناني. وأن الجوهر الأصيل هو جوهر "عزيزة" أمها، و"لمعي" أبوها، عمودا خيمة الحقيقيين، الذين لا يعرفون مبادئ اليسار "الاشتراكية"، ولا تعاليم الإسلاميين "السلفية"، لكنهم يعرفون جيدا، بالسليقة، كيف يقدمون للإنسانية شرابها وطعامها، كيف يصيرون الشموع المتراقصة، فيما هي تحترق، تمنح نورا، من فوقه نور، من تحته نور.

وعلى ما أخذه السرد من الشكل التماوجي، فقد تنوع بين طبيعتين: طبيعة "أدبية"، فتتزين العبارة، وتتحلى بلغة تنفذ إلى "الشعري" من الحبكة، تظهر كثيرا في المقاطع التي تتناول الذكريات القديمة، ذكريات العائلة، وذكريات الإسكندرية، والذكريات الشخصية المتعلقة بالحب. ثم طبيعة "تقريرية" بحتة: فتتخلى العبارة عن زينتها لصالح الحقائق الجافة، الحقائق الكاشفة، ذات الضوء الباهر المزعج، لنرى كيف ضاعت "أم الرشراش"، (إيلات حاليا)، من "مصر" في ظل نظام حكم "عبدالناصر"، الذي اعتمد إعلاما كاذبا، يظهر الكذب، حتى في الوقت الذي نهش فيه "الصهاينة" ميناء مصرية بالكامل. ولتكشف لنا أضواء "قصة الأمس" خيانة "سعودية" تتمثل في تخليهم عن الحامية المصرية التي كانت على جزيرة "تيران" في نكسة 67، ما أسقط جميع أفراد هذه الحامية في يد العدو. ثم لنر كيف أن "اليسار" لا يفرق عن "اليمين"، وأن الخطابات، مهما اختلفت صياغاتها، جميعها يؤدي إلى "روما" واحدة.

أخيرا، ألفت الانتباه إلى أن أسماء شخصيات الرواية ليست ذات أهمية فعلا، حتى لم يعلق بذهني منها سوى أسماء "عزيزة" و"لمعي" و"ناهد". والأخيرة هي راوي الرواية، ما يؤكد على أن "السطوة"، في هذه الرواية، كانت دائما لصالح "الحالة الشعورية". حالة الحدث.

"قصة الأمس" رواية ماتعة.

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة