لا نهضة لبلادنا في ظلّ وعي متلبِّك داخل رحم مستغلق بالجهل، تحيط به ظُلَم الأميَّة الثَّقافية من كل جانب، الوأد مصيره المحتوم، لا يحلم حتَّى بولادة متعسِّرة!مهما خطب زعماؤنا، وغنَّى مطربونا، يُمنِّون الشُّعوب العربيَّة بالمستقبل الرَّطيب، تبقى الأغاني الوطنيَّة مجرَّد رقصات يؤدِّيها هؤلاء رغبة في نيل الرِّضا السُّلطاني، وتبقى الثَّعالب الماكرة تحاصر الدَّجاج في حظائر الكلام، ويبقى الدَّجاج غبيًّا، يرحِّب بثعالب تمنِّيهم بالقمح، وتظل تمنِّيهم بالقمح، وتستمر تمنِّيهم بالقمح، فإذا ما قأقأ من طول الجوع استبدل الثَّعالب التَّخويف بالتَّجويع، يتركون الكلام عن القمح ليخيفونه بالذِّئاب، فيلتصق أكثر بالثعالب، فمبدأ الدَّجاج هو: الحياة جوعًا أفضل من قمح يواكبه موت!
ليست الثَّعالب هي مشكلة الدَّجاج الحقيقيَّة، بل وعيه
المتلبِّك داخل هذا الرَّحم المستغلق بالجهل، المحاط بالأميَّة، المتبلِّد الفكر
درجة أنَّه قد يرى بعينيه مخالب الثَّعالب، وأنيابها، تقتنص أعزَّ رفاقه، تخرب
حظائره، مع ذلك يظل يصدِّقها خوفًا من ذئاب قد تعوي بعيدًا، لبعض الوقت، لكنَّها
لا تظهر أبدًا!
هل يمكن القيام بعمليَّة إنقاذ وعي آمنة، ومضمونة النَّتائج،
في بلادنا؟
تكاد الإجابة تطلّ علينا بوجه بائس: مستحيل.
فعملية إنقاذ الوعي تحتاج إلى عاملين فاعلين على أقلّ
تقدير: مثقَّف مُخلِص. وأداة تُخلِص لنشر نتاج هذا المثقَّف.
مثقَّف مُخلِص في انحيازه للإنسان كفرد له كيان مستقل،
وخصوصيَّة، وحقوق أدبيَّة وماديَّة يظلّ أداؤها كاملة هو مؤشِّر نجاح النِّظام
الذي يحكمه.
وأداة مُخلِصة تنشر نتاج هذا المثقَّف كي يصل إلى أكبر
عدد ممكن من الجماهير ليتمكَّنوا من القراءة، واكتشاف ذواتهم، وخصوصيَّاتهم، وما
يتبع هذا الاكتشاف من التَّعرُّف على كلّ حقوقهم المعلَّقة برقاب مسؤولي الأنظمة
الحاكمة.
هذان العاملان لا يتوفَّران في بلادنا، بل يمكن القول إنَّهما أندر من الزئبق الأحمر!
كشفت عواصف الرَّبيع العربي عن أنَّ المثقَّف العربي ليس سوى كائن عاشق للسُّلطة، لا يحب المساواة، يهوى السِّيادة، يلعب بكلمة "التَّنوير" كما يلعب الحاكم الدِّيكتاتور بكلمة "الشَّعب"، الاثنان لا يؤمنان بكلمتيهما، وإنَّما يستغلَّانها استغلال الأصوليِّين لكلمة "الدِّين"، من أجل الحصول على أكبر قدر من الهيمنة المؤدِّية للبغددة و"النغنغة".الباحث في حياة بعض هؤلاء المثقَّفون االكبار، من النُّقاد
والأدباء تحديدًا، الأحياء منهم والأموات، سيُصاب بحالة هذيان، أو غثيان!
فسيرى أن معظمهم أدَّى أصعب حركات الأكروبات خطورة في سيرك الحكومات، سواء حكومات أوطانهم، أو حكومات غير أوطانهم، بل غامر بعضهم حد اللعب مع حكومة الكيان الصهيوني المحتل بشحمها ولحمها من أجل مكاسب ليست غير عفن زائل.
يستغل المثقَّف الدَّعي، كلمة "التَّنوير" بأكثر من طريقة ابتزازيَّة؛ فمرَّة يستخدمها فزَّاعة يُخيف بها النِّظام حتَّى يُسبغ عليه بعض مكتسبات عينيَّة أو معنويَّة، فـ"التَّنوير" يمثل أقوى مبيد للنُّظم الاستبداديَّة القائمة على استغفال الشُّعوب؛ ومرَّة يستخدمها لتجميل وجه النِّظام بعد أن يكون، هذا الأخير، قد أسبغ عليه بالفعل بعض المكتسبات! ليعتبر هذا النِّظام تنويريًّا يحارب المتطرِّفين دينيًّا!في كلا الحالين يبقى "التَّنوير" قميص
"عثمان" المرفوع، يُلعب به سياسيًّا لصالح الخاصَّة في علِّيين، وأبعد
من أن يعمل المثقَّف مخلصًا لترسيخه بين النَّاس الأسفل سافلين!
وإذا جاد الدِّيك يومًا ببيضة، وظهر مثقَّف حقيقي ينتمي للشَّعب، يهمُّه قلَّة وعيه، مستعد لدفع الثَّمن الباهظ من أجل "تنوير" حقيقي، غير مزيَّف ولا مُستعمَل لأغراض وسخة، فلن يجد الوسيلة التي يمكنها أداء هذه المغامرة الخطرة، فلا إذاعة حقيقيَّة، ولا تليفزيون حقيقي، ولا صحافة حقيقيَّة، ولا دور نشر حقيقيَّة! إنَّما الكل مقيَّد بقيود يحرص على إبقائها محيطة بمعصميه! بل يحرص على أن تكون هذه القيود متينة حتَّى لا يكون الفكاك منها أمرًا سهلًا!
فالكل أفراد في قطيع ينتهي قياده بين أصابع يد نظام مستبد، يسوق إعلامه لتهيئة رأي عام معيَّن، وحالة وطنيَّة معيَّنة، غالبًا ما تكون ضد أي نبتة "تنوير"، فتحرص أدوات الإعلام على البقاء آمنة في صحبة القطيع، تنشر ما يرضى عنه السُّلطان كي لا تصطدم مع مؤسَّساته الأمنيَّة، تنشر ما يُرضي الشَّعب الذي يعاني وعيه تلبُّكًا داخل رحم مستغلق بالجهل، تحيط به ظُلَم الأميَّة الثَّقافية من كل جانب.وكان أحد النَّاشرين قد قال لي غاضبًا: على الكُتَّاب أن
يتفهَّموا حقّ النَّاشر في تحرير أعمالهم المقدَّمة له، من حقِّي حذف ما أرى أنَّه
لا يضيف للعمل، أو يسيء لذائقة القارئ!
النَّاشر الأوروبِّي أو الأمريكي يفعلها، تضع هيئة
تحريره مبضعها في العمل المقدَّم له قبل نشره، لكنَّه ناشر واع، لا يعاني من التلبُّكات
المعويَّة الخاصَّة بالتَّابوهات التي لا تزال تمثِّل هاجسًا مرعبًا عند ناشرنا
العربي المسكين؛ إنَّ لفظة "صريحة" في رواية أدبيَّة يراها ناشرنا
العربي لفظة "مخلَّة بالآداب"! بآداب من؟ آداب الشُّعوب التي شارف وعيها
على الموت وأدًا في أرحامها!
النَّاشر الأوروبِّي، أو الأمريكي، يحذف على أساس فنِّي
يتعلَّق بعمليَّة الكتابة فقط، لكنَّه لا يذهب إلى حدّ حذف الفكر، الذي هو لبّ
العمل التَّنويري.
النَّاشر العربي، بدوره، يتمسَّك بحق الحذف والتَّعديل
رافعًا راية "ذائقة القارئ"! شعار آخر يمنح مدَّعٍ آخر نصيبًا من
الهيمنة، وقطعة من تورتة الرِّضا السُّلطاني؟!
إنَّنا في موقف صعب للغاية.

إرسال تعليق