لا أعيش حياتي غارقًا في الكتب أو جليس مقاهٍ كما يجدر بروائيّ؛ بل أعيشها ربّ أسرة، رجلًا بيتيًّا يستمتع بعائلته الصَّغيرة، يتابع أحوال عائلته الكبيرة، يجلس في ردهة الشَّقة بجوار زوجته أمام التِّليفزيون، يتابع معها برامج وقنوات المطبخ مُضمرًا السُّخرية من سذاجتها، ثم رويدًا رويدًا يجد في هذه البرامج ما يجذبه لمتابعتها باهتمام لا يقل، إن لم يزد، عن اهتمام زوجته المصون!
يبدو الشِّيف شربيني رجلًا طيِّبًا، ملامحه غارقة في المصريِّة،
طريقة إعداده للأطعمة تشي بأنَّه لم يكن أكثر من طباخ أفراح لعب زهره فتغير حاله ليصبح
أشهر شيف في أشهر فضائيَّة مختصَّة بأمور الطَّبيخ! وبينما زوجتي تهتم بتسجيل مكوِّنات
الطَّبخة وطريقة إعدادها أكون مهتمًّا بتكوين صورة بانوراميَّة لكل ما تعكسه الشَّاشة،
ألاحظ التَّوافقات والمتناقضات، فأجد أنَّ الطَّبخات الغريبة عن واقعنا المصري البسيط
تتوافق مع ديكور المطبخ المجهَّز بالأدوات المتقدِّمة تقنيًا، عير المتاحة لعموم البيوت
المصريَّة، في هذا الزَّخم الغربي ديكورًا وطبيخًا يتنقَّل شربيني مصري شرقي حتَّى
النُّخاع، يكلِّمنا بلكنة ابن بلد من حواري السيِّدة زينب واصفًا تراكيب خليط من أطعمة
فرنسيَّة أو إيطاليَّة أو أمريكيَّة، أو حتَّى يابانيَّة!
الشِّيف حسن يبدو أكثر نباهة، ملامحه قوقازيِّة، يُعد الطَّعام
بشكل أكثر حرفيَّة، يصلح شيفًا حقيقيًّا لمطابخ فنادق راقية، متناسق مع أجواء مطبخه
الأنيق غربي الدِّيكور والأطعمة أيضًا، ومع ذلك يُصر على أن يضع بنفسه ما يخل بهذا
التَّناسق، عندما يردِّد مباهيًا: "يا تكَّاتَك يا حركاتك"! إنَّه تعبير
شعبي يجوز لإحدى سيِّدات إسطبل عنتر الهتاف به
وهي تستنشق أبخرة طشِّة الملوخيَّة الممزوجة بأبخرة ماء مجاري يحيط بأثاث غرفتها،
لكنَّه لا يليق مطلقًا بشيف قوقازي الملامح يتحرَّك بين أدوات طبخ أوروربيَّة ليعد
أطعمة غربيَّة!
أيَّام دراستي المعهديَّة، في النِّصف الثَّاني من الثَّمانينيَّات،
سكنتُ غرفة حقيرة على سطح بيت رديء في حي البساتين القاهري؛ السَّطح عال، كلَّما نظرت
إلى أسطح البيوت دوني أرى النِّساء يقمن بتقطيع أكوام روث طازج لخيول وبغال عربات الكارو
التي يسترزق بها أزواجهن، يشكِّلونها قوالب "جِلَّة"، يلصقونها بالجدران،
حتَّى إذا جفَّت استُعملت كمصدر مهم من مصادر الطَّاقة اللازمة لإشعال النِّيران في
أفران الخبيز الخاصَّة ببيوتهن، في هذه الأفران كن يطبخن أصنافًا من الطَّعام لن
يكون لها مذاقها المميَّز لو لم يتم طهيها بنار "الجِلَّة" تحديدًا.
"الجِلَّة" مخلَّفات كائن حي، بينما "البوتوجاز"
غاز تكوَّن من تعفُّن رمم كائنات ماتت قبل عشرات الآلاف من السِّنين.
فرق كبير بين طعم ما طُهي بنيران ناتجة عن طاقة حيَّة وآخر
طُهي بنار ناتجة عن طاقة ميتة!
قبل عقدين لم تكن قُرانا الجنوبيَّة تعرف طبيخ البوتاجاز،
بل طبيخ الجِلَّة وبوص الذُّرة وحطب القطن، حيث ركن كبير من البيت يحتوي على أكثر من
كانون، تجتمع فيه كل نسوة العائلة، المرأة الكبيرة وحريم عيالها، يطبخن وهنَّ يلُكن
سيرة النَّاس في الجوار، يتَّخذن منها العبر، ويتصبَّرن بمصائبها، ويفرحن لأفراحها؛
عندما دخل البوتاجاز بيوت القرى هُدمت الكوانين، وتفرَّقت نسوة البيت الواحد في أكثر
من مطبخ، ولم تعد روائح الطَّبيخ بذات القوَّة والطَّزاجة، فحتَّى وإن كان مُضافًا
إلى الأطعمة كل المتبِّلات العصريَّة فقد خلت من المتبِّل الأساسي: ونس الحكايات.
ربما طبيخ السِّت نجلاء على قد الإيد فعلًا، لكنَّها تعاني
ممَّا يعاني منه العم شربيني والعم حسن، أقصد التَّناقض المُخل بالمعنى، فالمطبخ متطوِّر
جدًّا، وفي الدِّيكور رسمة لباب عتيق لشقَّة كلاسيكيَّة قديمة! كما أنَّ سلوك السِّت
نجلاء نفسه ليس عفويًّا كسلوك السِّت غالية، هذه المرأة المصريَّة البسيطة، الطَّيبة
الحنون، التي تتكلَّم كيفما اتَّفق، تعبِّر بتلقائيَّة ست بيت بلدي عن سعادتها
بحبِّ متابعينها، لا تهتم بوضع خطَّة مفادها "أنا لا أكذب ولكنِّي أتجمَّل"،
تتواءم مع مطبخ بسيط جدَّا، موجود فعلًا في أكثر من 95% من بيوت مصر، تطبخ فيه أكل عموم شعب مصر، تمارس
الطَّهي بالمتبِّلات المعروفة، أهمها ونس الحكايات، حيث تستضيف أحدهم لتتكلَّم معه
عن القيم والأخلاق بعفويَّة، فيخرج الكلام من القلب للقلب، ليتم طهو الطَّعام على
أشهى ما يكون، تكاد روائحه القويَّة الطَّازجة تنفذ من الشَّاشة إلى أنفي.
أتذكَّر أمِّي زمان، وقت كان يمكننا فيه الجلوس على سطح
بيتنا دون أن تكشفنا الأسطح المجاورة شاهقة العلو التي انبثقت من الأرض مؤخرًّا،
تفرش لنا في شمس الشِّتاء حصيرًا، تُحضِر طبقًا كبيرًا، مقدار كف من مسحوق أوراق
الملوخيَّة "النَّاشفة"، كوب ماء كبير، عددًا من "ضروس"
الثُّوم، ليمونتين أو ثلاثة، وبينما تخلط هذه المقادير على البارد، دون نار، تضحك
وتقول: الشَّلَوْلَو.. طبيخ السِّت على فرشتها.
مطابخ الشِّيف شريبني والشِّيف حسن والسِّت نجلاء، ومن
على نهجهم، ليست مصريَّة أصيلة، بل هُجِّنت بأصناف من الطَّعام المستورد، تخاطب
مصريِّين يواجهون شتاتًا وجدانيًّا، لا هم أحبُّوا بلدهم فتمثَّلوها ولا هم كرهوها
ففارقوها، زغللت مطابخ الخارج أمعاءهم، فأطلقت فيهم روح السَّرف المطبخي، النَّهم،
والشَّره.
مطبخ السِّت غالية يربط المصريِّين ببلدهم، يطمئنهم، بل
يدفعهم إلى المباهاة بتميُّزهم الخاص بهم دون غيرهم، إذ ليس الأمر طعام يُعَد، بل
قيمة وحكاية وحوار محشو في قلب اللقمة، وإنَّ أشهى الطَّعام ما تُبِّل بونس
الحكايات.
دخلت أفران البوتاجاز بيوت البساتين فتوقَّفت النِّساء
عن صنع أقراص الجِلَّة للوقود، فتُرِكت فضلات الأحصنة والبغال، التي ما زالت تجر
عربات الكَّارو، في الشِّوارع ومقالب الزِّبالة تشيع الذُّباب والرَّوائح الكريهة.
في القرى الشماليَّة اضطر الفلَّاحون لحرق قش الأرز بعد أن كان وقودًا سائغًا
لأفرانهم وكوانينهم، فانطلقت السُّحابات السَّوداء تقض راحة القاهرة سنين عددا؛
وها هم فلَّاحو الصَّعيد يشرعون في حرق أكوام ضخمة من البوص في حقولهم، يتخلَّصون منها
بعد أن كانت تُخزَّن بمنتهى الاهتمام كمصدر طاقة لا يمكن الاستغناء عنه.
الشَّاشات تهدم ببطء ومثابرة تلك الفروق الأصيلة
المُميِّزة للقرى عن المدن، ولمصر عن سائر الأمصار.

إرسال تعليق