U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

صافرة القطار يا هيلينا


فارقتني "هيلينا" في "الإسكندرية".

كنت قد قضيت معها هناك أربعة أيام، خلال أحد المؤتمرات الأدبية، نتجول فى جهات الحب الأربعة، وتغسل صدئي بصوتها الشبعان هوى، وكنا قد نوينا الرحيل إلى بلادنا في "الصعيد" سويا، لكن العزَّال تدخلوا، ورغم أنهم كانوا من أهل القلم، إلا أنهم لم يكونوا من أهل الصدق، يكذِّبون فى الحياة الدنيا ما يكتبونه على الورقة، فرسان الخواء، ونساء الحمل الكاذب، فسافرت وحدي إلى "القاهرة"، وسافرت هي معهم، لا أدرى إلى أين، وعلى رصيف ثمانية وقفت أنتظر القطار.

لم يأت قطاري بعد، لكن قطارات أخرى أتت، وقطارات ارتحلت، التي صافراتها تتقطع مثل زغرودة هي قطارات الوصول، فرحة بالقدوم من بعيد إلى المنتهى المراد، والتي صافراتها تمتد مثل نحيب أم غارقة في عدودة هي قطارات الرحيل، تبكي الفراق، يؤلمها السفر، والآن، وأنا واقف في مساء تلك الليلة البعيدة على رصيف رقم ثمانية، كل القطارات تعوي، كل القطارات قطارات رحيل، وصافراتها تنشرخ، وأنا أنظر إلى بدر مصفر يعبُر مريضا عتمة سماء العاصمة، أعرف، أنا أعرف أن كل الدنيا حزينة من أجلي، أنا الذي أقف وحيدا، ليس بصحبتى "هيلينا".

ـ "أشرف".

هذا صوتها!

ـ "أشرف".. "أشرف".

وأنظر ناحية الصوت القادم يتراقص مثل زهر الربيع في نسائم الليل، و"هيلينا" تظهر من بوابة بهو المحطة تهرول نحوي، "هيلينا"!

"تعرفين يا هيلينا! كل القطارات وقت ظهورك أطلقت صافراتها المغردة، كلها كانت قطارات وصول، والبدر أضاء حليبا ناصع البياض، وسماء العاصمة توهجت بالحلك، وقلبي سكن، هذه اللحظة يا هيلينا كانت لحظة كشف، تجلى فيها حبي لك، وعرفت حبك".

مضت السنون، ومضت معها "هيلينا"، وفي كل سفر إلى "الصعيد"، أقف وحيدا على رصيف ثمانية، في نفس المكان الذي سمعت فيه صوت "هيلينا" وهي تنادينى: "أشرف".

يتقدم القطار، بطيئا، ليقف أخيرا، وأجلس على الكرسي، أتابع حركة الراكب والنازل، وأتهيأ لسفر طويل حتى "الأقصر"، من سيجلس بجوارى؟ جلست "هيلينا" بجوارى مرة واحدة، كانت كفيلة لتجعلني أهتم، في كل مرة أركب القطار، بسؤال نفسى عمن سيجلس هنا، وسأظل أسأل نفسي هذا السؤال حتى الموت: هل ممكنا، في يوم ما، أن تجلس "هيلينا" بجواري مرة أخـ....

تحرك القطار، وعندما ارتج على حديد أحد المفارق، سمعت صوت "حمدي أبو جليل"، وكان رئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة"، ينسل من حنجرته البدوية عبر سماعة الهاتف: أتمنى لو تكتب للمجلة موضوعا عن "الصعيد".. بالتحديد "الصعيد" الذي من أول "أسيوط" وحتى "قنا".

تذكرت "جمال الغيطاني" زمان، لما طلب مني الكتابة عن أسواق "جهينة" لـ"أخبار الأدب".

يمكن أن أجعل السوق هو المدخل إلى "الصعيد"، أسواق القرى المنصهرة بشمسنا المشتعلة تختلف، تتشابه أسواق "الصعيد"، في كل سوق لابد من وجود تجار للبقر والجاموس، وتجار للماعز والغنم، وآخرين يبيعون الحمير، وجزار يبيع اللحم الطازج، بينما يلتف حوله الزبائن في خشوع، ينتظرون منابهم، وهم يستظلون بعمائمهم الملفوفة فوق رؤوسهم بعناية، والقهوجي ينصب غرزته في أحد الجوانب، ويعد الشاي، والحلبة، والجنزبيل، والقرفة، ويشعل جمر الجوزة، وبائع الأقمشة التي يطلبها الرجال، بماركاتها الإنجليزية، رغم بساطة الحال، وقلة الأموال، والذي يطوف بعصا علق عليها أكياس حلوى "شعر البنات"، يصنع بهجة الأطفال.... اااااه يا "هيلينا"! والله يمكن أن أكون رأيتك في أحد أسواق "جهينة"، حيرني لدرجة الجنون شعوري بأني قد رأيتك قبل أن ألقاك، أول مرة، على شواطيء "الإسكندرية"، لكن لم أعرف أبدا أين كان هذا! الآن عرفت، كانت في أحد أسواق "جهينة" بنت تحمل ملامحك السمراء، وتبيع الورد.

"الورد؟! الورد لا يباع في أسواق الصعيد يا تائه، أنت أحمق، وأنت من فرطت في هيلينا، والورد لا يباع في أسواق القرى، وهيلينا باقية في قلبك لتعذبك".

أخرجت من حقيبتى رواية "تقاطعات الموت" لـ"سراماجو"، أهدتها لي البنت المبدعة "نهى محمود"، وقالت لي إنها رواية ستعجبني، تحاول أن تصل علاقتي بـ"سراماجو" بعد أن قطعتها بسبب روايته "الآخر مثلي"، فقلت أقرأها في هذه الرحلة الطويلة.

لكن ما الذى يجب أن أكتبه عن "الصعيد"؟!

ضحك "أحمد الجعفرى"، وهو يقود سيارته منطلقا بنا إلى مطعم "فرحات" بـ"المهندسين"، لما قلت له إنني أقرأ عن "الصعيد" لكتابة مقالة عنه، وقال: تعيش في "الصعيد" أربعين سنة وتقرأ كي تكتب عنه!؟

من يقول لك إن أصحاب المكان هم من يعرفونه أفضل فقد أخطأ، ربما يعرفون تضاريسه، وجغرافيته، وتاريخه، أفضل من الجميع، لكن المكان بمعناه الأشمل، روحه، وجمالياته، وإيحاءاته، يعرفه من يحيا خارجه أفضل من أصحابه، وعندما كنت أمشى في شارع "المعز"، مع "محمود حامد"، قلت له: كيف لم تكتب عن هذا المكان؟ كيف لم تكتب عن أسوار "القاهرة"؟ عندكم كنز وتتركونه!

ولما قلت لـ"أمينة زيدان" ما جرى بينى وبين "محمود حامد"، فتحت فمها مندهشة، وقالت بدلع: آه والله صحيح!

ونسيت أنى عشت عمري كله في "الأقصر"، ولم أكتب كلمة واحدة عنها، وهى أم المدائن الأسطورية، صانعة أعظم تاريخ!

العابرون هم من يكتبون المكان.

يجب أن أتصل فورا بـ "أبو جليل" كي أبلغه بعدم مقدرتي على الكتابة عن "الصعيد".

 

عندما أرى الكباري العلوية، التي تماثل الكباري المنثورة في "القاهرة"، من نافذة القطار، تنساب في مشارف مدخل المدينة، أعرف أن هذه المدينة هي "أسيوط"، وعندما يدخل القطار محطتها أشعر ببعض الارتياح، فلقد انتصفت الرحلة، ولأن القطار يتوقف هنا وقتا طويلا، نسبيا، أفضل النزول إلى الرصيف، لأشم الهواء، وأفك عظامي.

"أسيوط" بلد الكآبة، والعذاب، والموت، مات عم لي في مستشفاها الجامعي، وابن عم لي مات بعد رحلات عديدة إليها لطلب العلاج من سرطان المثانة، وذهب إليها عم آخر يعاني من آلام في ظهره، وعاد منها لا يعرف كيف يمشى معتدلا، وهنا قتل "متولى" أخته العاشقة "هيلينا"!

"هيلينا"، لمَّا تركت العزَّال في "الإسكندرية"، وجاءت لي على رصيف رقم ثمانية في "باب الحديد"، كانت تكرر نفس ما فعلته من قبل، زمان، عندما تركت العزَّال في "جرجا"، وجاءت إليّ لنرحل إلى آخر بلاد المسلمين، ظننا آخر بلاد المسلمين هي "أسيوط"، واكتشفنا أنها لم تكن كذلك، بل أبعد من ذلك، كانت "أسيوط" آخر بلاد الحياة لـ"هيلينا"، التي لم تظن أبدا، وهي تفتح باب البيت للطارق، أنها ستجد أخيها "متولي" يطل عليها بعيني "عزرائيل".

موج البحر يضرب صخور الشاطيء بدلال، كنت أجلس مع "هيلينا" على سور "الكورنيش"، وهي تحكي لي عن لحظة القتل، وكيف أن "متولي" وجه نصل سكينه بالتحديد إلى قلبها، قالت: وقتها يا "أشرف" سال دمي متوهجا بالحمرة، وضاءً، ورائحة مسك "العنبر" تفوح منه، رائحة حبك، لم أشعر بألم، فقط كنت أتمنى وقتها لو تكون أمامي، تمد يدك وتتلقف روحي الطالعة.

"يا بحر إسكندرية، يا بحر يا هادر، ربما لهذا السبب كلما مشيت في شارع الموسكي، وشممت رائحة مسك العنبر، يرتعد جلدي، ودموع تملأ مقلتى؟".

"سراماجو" تحدث، فى "تقاطعات الموت"، عن عالم لا يموت ناسه، كرهت هذا العالم، يقينى أن أجمل ما في العالم هو الموت، لأنه حل مشكلة إنسان يشيخ في كل لحظة، الجحيم نفسه هو أن تتردد أنفاسك في عالم ليس لك مكان فيه، ولا دور سوى أن تتحول إلى قفة من لحم مملوءة بعظامك، لكن العالم من غيرك يا "هيلينا" أصعب من الجحيم، ولابد من أكتب عالما لا يموت، أضعك فيه فتبقين خالدة، ليلتف حولك كل عازفي "الربابة"، وكل نافخي "المزمار"، وكل ضاربي "الطبل البلدى"، ويغنون حكاية قلبك، وحكاية حبي.

قالت "نهى محمود"، وصوتها يمرح في سماعة هاتفي: الرواية ستعجبك جدا.. "سراماجو" مجنون.. وأفكاره لاسعة.. الناس لا يموتون! تصور!

قلت لها: هذه فكرة رواية دنت فتدلت.. حتى إذا كانت قاب قوسين أو أدنى من روحى.. مد يده ابن الحرامية وخطفها قبلي.

 

الموج يتكسر على الصخور، والبحر يتهيأ لشمس المغيب، وشفق كئيب، و"شفيقة" تنحدر من عينيها دمعتان تنسابان إلى شفتين تبتسمان نصف ابتسامة.

قالت "شفيقة": على ضفاف "أسيوط" تحطم حلمي الكبير.

القطار يتحرك، وتنزاح تدريجيا مباني المحطة الكالحة إلى الوراء.

 أقول لك يا "هيلينا" إن حلم شيخ العرب"همام" تفتت أيضا في "أسيوط"، لما انهزم جيشه أمام مماليك "علي بك الكبير".

كان جيش "همام" آلافا من رجال "الصعيد" المدربين، بالكاد، على القتال، يدفعهم الحلم بـ"صعيد" مستقل عن ظلم من جاءوا عبر أسواق النخاسة، كان شيخ العرب "همام" يحلم بسلطنة "الصعيد"، من "أسيوط" وحتى "الشلالات" في الجنوب، بينما "علي بك الكبير" يحلم بالمملكة المصرية كلها، من "الشلالات" وحتى "إسكندرية"، حلم "علي بك الكبير" أكبر من حلم شيخ العرب "همام"، وصاحب الحلم الأكبر دائما ينتصر، حتى وإن كان الحلم الأصغر حلما أنبل

ليست الخيانة، إذن، هي سبب هزيمة "همام" في "أسيوط".

رجل يدفع أمامه "سيرفيس" بوفيه القطار في الطرقة الضيقة داخل العربة، وينادي بصوت هامس على محتويات الـ"سرفيس"، أخذت منه شايا.

في "أسيوط" تحطم حلم آخر كبير، عندما انهزم رجال "الصعيد" مرة أخرى أمام نصراني حارب لصالح الفرنسيين لما احتلوا "مصر"، اسمه "يعقوب حنا"، الجنرال "يعقوب حنا"، كانت قوته تحمل الخيانة، وآلات قتل فرنسية جبانة، تقتل الناس عن بعد، ورجال "الصعيد" يحملون سيوفا، وطواري، وبلط، وليس بالشجاعة وحدها تنتصر الجيوش، الأهم الخيانة، أو الخديعة!

بكت "هيلينا" فتطبق قلبي، قالت: ألا ترى نفسك يا حبيبي!؟ مشبوحا على الصليب، سلمك "الحاقد" للحاكم الروماني، ليس لشيء سوى لأنك مخلص للحب.

وشهقت، وصوتت برنة تفلق الحجر، وتعلقت بقدمي المثبتتين إلى الخشبة بمسمار، فكسى كفيها دمي الحار، ونادت، فتقلب صوتها في السماوات: يا مسيحي، يا مسيحي.

همستُ، وآخر قطرة من روحي تزحف من ركن ضيق بين شفتي، منسابة كلؤلؤة سيالة: يا "مريم المجدلية".

"أسيوط"  كنيسة "المسيح" في "مصر"، والـ"مسيح" صُلب، وآه منك يا "أسيوط"! 

أرشف الشاي، ربما كنت قادرا على الكتابة عن "الصعيد"، ربما القطار يمضي بي الآن أمام "جهينة"، والغرب البعيد، وحدود غيطان قريتي نجع "الخمايسة"، ربما القطار عبر النخلة التي تسلقتها خلف "هيلينا"، أطاردها مثل عصفور يطير وراء عصفورته، كنت أريد أن أقبلها بين سباطات البلح، لكنها ناورت تماما مثل العصفورة، وهبطت، بينما بقيت معلقا بين السباطات، غير قادر على الهبوط، مثل عصفور خائب علق في فخ، وبينما عيناى تتقافزان في محجريهما من الفزع، كانت أذناى سعيدتان برنة ضحكاتها، وقلبي يتنطط بالفرح.

 

"سوهاج.. يا عروسة النيل.. سوهاج.. يا بلد المووايل".

تغنيها "داليدا" مثل عذراء سوهاجية عاشقة، تحب فتاها بالسمع، لا تراه، فتكتم حبها وتموت حية، أو تكيد لتراه، فتفشو حكايتها وتُقدم  للقتل، كسرت هذه القاعدة أنا وبنت عمي، فأنا الولد الذي سكن بندر "الأقصر"، يأتي كل عام مرة في إجازة المدارس الصيفية، فينزل في بيت عمه المحدوف داخل الحقول، البنت بيضاء مثل قمر، وعيناها غنج، تدعواني لقبلة بجوار عشة الحمام، شفتاها يا هنائي لو مصصتهما، ومعذور لو أكلتهما، والبنت بنت عمي، لو أخذها العريس على الفرس في ليلة دخلته، فمن حقي أن أدليها من على فرسه وآخذها على فرسي، وأخذتك يا "هيلينا" على فرسي.

الليل، وبحر "إسكندرية" يغرق في غموضه، ونسيمه يصفو، أنظر في عيني "شفيقة"، هادرتان بالقلق، وصارختان بالوجع، قالت لي: أوحشتنى "جرجا"، لماذا مشيت في شارعنا يا "أشرف"؟ لماذا مشيت في شارعنا ونظرت إلى شباك بيتنا؟ لماذا نظرت إلى شباك بيتنا ووضعت عينيك في عيني؟ ولماذا لما وضعت عينيك في عيني رشقت حبك في قلبى؟ ما تعرف يا حبيبي أن الحب طائر مهاجر لا يستوطن بلادنا الحارة؟ ما تعرف يا روحي أن الحب في "جرجا" غربة وغرابة؟

يقف القطار على محطة "سوهاج"، ينزل ناس، ويصعد ناس، ويمر رجل "بوفيه" القطار بمنضدته المتحركة في الطرقة الضيقة داخل العربة، يأخذ كوبه الفارغ، وأدفع إليه نقوده، ويجلس قبالتي رجل ضخم مهيب، في جلبابه البلدي الواسع، وعمامته المزهرة الأنيقة، شاربه كث ومهذب، وبشرته مشدودة تكاد تكب دما، وعيناه واسعتان نافذتان، رجال "سوهاج" يحملون جمالا خاصا، وتكسوهم مهابة العمد، ومشايخ البلد، رجال ينسلون من قبائل عربية تركت صحارى "نجد" لتطوف بلادا لم تكن للعرب، صارت لهم الآن بفضل تغريبات هذه القبائل، تغريبة قبائل "بنى هلال" أشهر تغريبة، ويقال إن "بنى هلال" أصل كل القبائل العربية التي نزلت في مختلف بلدان "مصر"، وعلى طول "الصعيد"، قبائل، "بنو سليم" و"جهينة" وغيرهما.

يقول التاريخ إن القبطي كان يقدم للعربى القادم أفخر ما لديه من طعام على صواني، ويرحب به ترحيبا شديدا، وإذ كان يقدم للعربي الطعام، كان ينتظر أن يأخذ منه الإنقاذ، أن ينقذه من جور بواقي نظام الرومان المنهزمين، فكان القبطي يرحب بالعربي المسلم، والعربي المسلم ينجب كثيرا، ومعه أفراس الحرب، وسيوف القوة، وروح القتال، وليس مع القبطى غير دعة، وحب سلام، ونفس قهرتها عقيدته، قبل أن يقهرها الرومان الوثنيون.

الجنرال "يعقوب حنا" عندما حارب "الصعيد" لصالح "الفرنساويين"، كان يحارب المحتل العربي لصالح المحتل الفرنسي، والمحتل الفرنسي أقرب نفسيا لـ"يعقوب"، لأنه مثله، يقدس خشبة اللعنة، لكنه لم يكن يعرف أن المحتل، وإن كان من بقية أهله، هو نفسه اللعنة.

"الصعيد" هو مهرب القبائل العربية، فهو الحاضنة المهيأة لاستعادة القوة، وهو الأصعب تضاريسيا، والأنسب طقسا، ولهذا هرب إليه المماليك بعد عداء "محمد علي" لهم، ولنفس السبب هربوا إليه بعد هزيمتهم أمام الفرنساويين، وهذا ما جعل شيخ العرب "همام" يفكر في سلطنته الخاصة.

"الصعيد" ميدان الخشونة، ومعترك الصراعات، لا يصلح بالنسبة للحب والعشاق، غير مذبح.

عربة القطار تكاد تكون فارغة، قليل من الركاب الغارقين في النوم، القطار يجرى هاتكا حجب الظلام، وأنوار هشة، دقيقة، منثورة في سواد الحقول الفارة إلى الوراء، أشعر أن "هيلينا" هنا، داخل العربة، فأقف وأنظر على امتداد العربة، وهناك بجوار باب العربة، ظهرت رأس مغطاة بطرحة مزوقة بالزهور المبهجة، "هيلينا".

"يا عبيط! إياك والذهاب إليها، ربما لا تكون هيلينا".

"لكن هذه الطرحة طرحة هيلينا، كانت تضعها على رأسها وهي جالسة بجوارى على سور كورنيش بحر إسكندرية، وكان الهواء يرقِّص ذؤابتيها".

"إجلس يا مسكين، إجلس".

"سوهاج" بلاد الرزق الضيق، والفقر الواسع، ومشايخ العرب، والنصارى المطحونين، والعاشقة الجرجاوية "هيلينا".

لن يمكننى الكتابة أبدا عن "الصعيد"، ولابد من الاتصال بـ"حمدى أبو جليل" وإخباره برفضي للكتابة في هذا الموضوع.

"أسيوط" أكبر من أن أكتبها، "سوهاج" أوسع من أن أحتويها، و"قنا" بلاد العشق، وبلاد العزة، الموالد والرقاصات، وغرز الـحشيش، وكاسات الخمور تُصب على أنّات الرباب، "قنا" الكسولة، وقبائل "هوارة" البربرية المغربية، الأنوف الشمة، والبطون الجائعة، والحملة الفرنساوية التي أغرقها الصعايدة القناوية في "النيل"، و"السمطة" التي تحيا على ضفاف بحور الدم.

"قنا" العذاب، و"قنا" مستشرف نسيم الحضارة المصرية القديمة.

نسيم "المسيح" يتضوع في سماء "أسيوط"، وعبق الفواكه الربيعي يسري في أجواء "سوهاج"، لكن في فضاء "قنا" الرحب تهب رائحة الفراعنة.

أنا أحبك يا "هيلينا"، فلا تتواني أبدا عن جمع جسدى الذي بعثره "ست" الشرير في كل مكان تصل إليه أشعة الإله "رع".

يا "هيلينا" دمعة من دموعك لا تسقطيها على تراب خوَّان، يمتصها ثم لا شيء، وإنما اغسلي بها جسدي، فأنا "أشرف"، لم أحب يوما غيرك، لم ألوث نبع حُب، لم أسبب أذى لعاشق، يا "هيلينا"، يا روح هذا العالم، يا روحي المعلقة ثمرة طايبة في قلبي المهووس بك، يا عذابي.

"هيلينا"، يا قاتلتي بسكيني، اجمعيني، واحييني، لا تؤاخذيني أن ضيعتك يوما في مفازات عقلي، فأنت ربة، وأنا ابن عبد.

"إيزيس" قالت، بينما انتصب واقفا من موتي المفجع: أنظر يا "أوزور" كيف حطموا معابدنا، أنظر إلى وجوه ملوك الفراعنة كيف كشطوها، آه يا "امنحتب" الحبيب، ألقوا بتمثالك على الأرض، وكسروا رأسك وذراعك.

ــ من فعل هذا يا "إيزيس"؟!

ــ دمروا "طيبة"، ها هى شرفة بيتنا قد تهشمت، والأصص تناثرت، وانتزعت منها الزهور.

ــ من فعل هذا يا "إيزيس"؟!

ــ يريدون محو حضارتنا، يريدون محونا.

ــ من فعل هذا يا "إيزيس"؟!

ــ الرومان.

ــ الرومان؟! الرومان حضاريون يا "إيزيس"، لديهم معابد مثل معابدنا، مليئة بتماثيل آلهتهم؟!

ــ نعم يا "أوزور"، لكنهم الآن مسيحيون، لقد اعتنقوا دين "المسيح"، الذي يصف تماثيلنا بالأوثان.

يقولون إن "الإسلام" دين يخاصم التماثيل، لكن "عمرو بن العاص" فتح "مصر" فلم يطمس وجه تمثال، ولا أحد من المسلمين الأول، الذين كانت قضيتهم الأولى نشر "الإسلام"، والقضاء على الوثنية، اهتم بنزع تمثال فرعوني واحد، كانوا يعرفون أن الإسلام ليس ضد التماثيل، وإنما ضد الأصنام التي تعبد من دون الله، وهذه التماثيل الفرعونية ليست أكثر من تماثيل لآلهة صارت في ذمة التاريخ، وانتهت فعاليتها.

الجبل الغربي يبدو من نافذة القطار معتما، لكن انعكاسات المصابيح الضخمة الكاشفة التي تضيء معبد "حتسبشوت" تجعله يبدوا، في الأفق، سابحا مثل سحابة.

ـ أنا بنيت لك هذا المعبد يا "هيلينا"، تذكارا لأعظم قصة حب في تاريخ العالم، أنا لا أبالغ يا حبيبتي، قصص الحب العظيمة هي تلك التي تكون نهايتها مصحوبة بمأساة، وهل هناك مأساة أعظم من قتل الحبيبين دفعة واحدة، أنا هندسته مُخبأً في حضن جبل "القرنة"، العشاق دائما خائفون يا "هيلينا"، وبنيته بين عالم الموتى، على مشارف الخلود.

اقتربت "هيلينا" مني، ومدت ذراعيها وحضنتني، وشفتاها دنت من لهيب شفتي، فاحتوته برضابها، وأطفأته، وقالت: شكرا لك يا "سنموت"، يا مهندسي الأثير، لكنهم يتآمرون على مليكتهم العاشقة، سيقتلوننا يا "أشرف".

ـ بنيت معبدنا يا "حتسبشوت" الجميلة، واستمتعت معك بدموعي الحارة، وكم انتشيت لقلبي الذي قطّعه بعدك وأنت في بلاد "بونت"، لقد أعطانا الحب أعمارا طويلة يا "هيلينا"، وإذا متنا معا فأهلا بالروح القاتل، يحملنا على جناحيه إلى سماء الخلود.

 

القطار يدخل إلى محطة الوصول، "الأقصر"، لكن صافرته لا تزغرد، وإنما تئن بترنيمة حزينة مثل عدودة.

وأنا أسحب حقيبتي من على الرف، نظرت إلى الرأس المغطى بطرحة الزهور، مازال فى مكانه يتكيء على مسند الكرسي، رأس "هيلينا".

"يا عبيط، ربما لا تكون هيلينا، امض في طرقة العربة إلى بابها للنزول، ستمر بجوارها، ربما يدك تحف كتفها، لكن إياك أن تنظر إليها".

مررت في الطرقة الضيقة للعربة المكيفة، كانت الزهور تبرق أكثر بألوانها الزاهية كلما اقتربت، وأنا أعبر صاحبة الطرحة، حف ذراعي كتفها، ارتعدتُ، وسالت دموعي، لماذا لا أنظر إليها؟ لماذا نضطر إلى أن نكون مجرد عابرين على الأحبة؟

"العابرون يا خمايسى هم فقط من يعرفون حقيقة الأمكنة، والحبيب مكان، والمحب يظل أسطورة العشق، طالما هو مجرد عابر".

وقفت على رصيف محطة "الأقصر" ذات الطابع الفرعوني، أنظر إلى القطار، بداخله "هيلينا" التي بالتأكيد رأتني، ولم تناد عليّ!

يطلق القطار صافرته التي كرهتها، ويتحرك متثاقلا، كدموعي المنحدرة إلى زاويتي شفتي، وعندما مرت أمامي تلك النافذة رأيت "هيلينا".

كانت "هيلينا"!

"يا عبيط، لماذا لم تمض وراء إحساسك، ومضيت خلف خوفك، يفوز باللذات من يصدِّق أحاسيسه".

القطار يسرع من حركته، لكني جريت نحو النافذة، بالكاد وصلت إليها، نظرت "هيلينا" إليّ، كأنها شهقت، عيناها اتسعتا، وانفتح فمها، شهقت.

زعقت: "هيلينا"، سأنتظرك على رصيف ثمانية في "باب الحديد".

كان القطار يبتعد، ووصلت إلى منتهى الرصيف.

أخرجت هاتفي، وطلبت "حمدى أبو جليل"، قال بصوته البدوى المضعضع: أيوه يا "خمايسي".

ــ لن أستطيع الكتابة عن "الصعيد".

وأغلقت الخط.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة