عربة
فورد، موديل 1948، تقطع الطَّريق الإسفلتي الواصل ما بين قريتي الطُّليحات
والجُبيرات، التَّابعتين لمركز جهينة، محافظة سوهاج، ورغم ذلك، العربة تبرق بوميض
باهر لأشعَّة الشَّمس المنعكسة على معدنها الملوَّن باللون الأخضر الغامق، إنَّها
تحافظ على بهاء سيَّارة خرجت الآن من الفابريقة، أو الأجانس، صوت محرِّكها ناعم،
يهمس مثل موج بحر هادئ، وصوت محمَّد فوزي ينسل، بعبث طفولي، من الرَّاديو بداخلها:
"ذهب الليل.. طلع الفجر.. والعصفور صو صو".
يقفز،"الجمِيل"،
خلف طارة الدِّريكسيون الواسعة، حتَّى أن كرشه ينحشر تحت الطَّارة، ويزعق بعلو
صوته:
ــ
صاو صاو.
تهدِّئ
السَّيارة من سرعتها، فالطَّريق الإسفلتي انتهى، وستمضي على طريق مترب، وعر.
محمد
فوزي يتعابث أكثر:
"شاف
القطة قالها بِسْ بِسْ.. قالتلو نَوْ نَوْ".
يقفز،"الجميل"،
خلف طارة الدِّريكسيون الواسعة، حتَّى أن كرشه ينحشر أكثر، وكاد ينزلق إلى ما فوق
الطَّارة، ويزعق بصوت أعلى:
ــ ناو ناو.
تتمايل
السَّيارة الفورد على الطَّريق الصَّعب، تراب كثيف يتصاعد خلفها، نور الضُّحى يغمر
الدُّنيا، عصافير تطير حول السَّيارة قبل أن تفر إلى أشجار، ضخمة، منغرسة في
حافَّة ترعة ضيِّقة، ماؤها راكد.
"ماما
قالتله سيب القطَّة وخلِّيها ف حالها.. ساب مدرسته ورمى كرَّاسته وراح جر
شكلها".
ضرب
قلب الدِّريكسيون بكف يده، فأطلق كلاكس السَّيارة صوتًا خاطفًا، وقهقه
"الجميل" بعلو صوته.
بيوت
الجُبيرات تلوح من خلف أشجار النَّخيل، الواقفة تسد الأفق، الحقول مزروعة ببرسيم
يلوِّن الأرض بخضرة بهيجة، تبرق أشعَّة الشَّمس على صاج السَّيارة الفورد، وهي
تمر، بأناة شديدة، على مطب قاس، و "الجميل" يقهقه بهستيريَّة، بينما
ينظر، من خلال النَّافذة التي عن يساره، إلى ماء التِّرعة الرَّاكد، الذي يبدو،
بالكاد، من خلف أعواد الحلفاء الكثيفة.
ها
هو الهويس يقترب.
"راحت
القطَّه مخربشه إيده لمَّا مِسك ديلها.. وآدي جزاة اللي ما يسمعشي كلمة ماما
تقولها".
يقهقه
بعنف، ويخبط قلب الدِّريكسيون خبطات متتالية، من فرط انسجامه، فتنطلق آلة التنبيه
بصوت حاد، متقطِّع، يقترب الهويس أكثر، ليست
هناك أشجار، لا أعواد حلفاء، تتَّضح ضفَّة التِّرعة تمامًا. يتضح ماؤها الرَّاكد،
أخضر طحلبيَّا.
"ذهب
الليل.. طلع الفجر.. والعصفور صو صو.. صاو صاو.. شاف القطَّه قالَّها بس بس قالتله
نو نو.. ناو ناو".
الهويس،
كوبري متهرِّئ، أسفله بوابتان حديديَّتان صدئتان، انغلقتا لتتراكم أمامهما أعواد
زروع، وعلب بلاستيكيَّة، وأخشاب أثاث محطَّم، وعشرات من الطُّيور النَّافقة،
والأسماك الطَّافية ميتة، وجثث حمير وخراف، وجثة منتفخة، جدًا لجاموسة حال سوادها
إلى الرَّمادي.
توقَّفت
السَّيارة على رأس الهويس، فتح "الجميل" بابها، ونزل، خطا نحو ضفَّة
التِّرعة خطوات متردِّدة، محرِّك السَّيارة يهدر هديره النَّاعم، صوت محمَّد فوزي
ينسل من الرَّاديو، مملوءًا بعبث الطفولة:
ــ "أبله قالتله فيفي الحلوة زعلت من سوسو..
راح يصالحها وباسها وهيا حلفت ما تبوسه".
نظر
إلى هذه الأشياء المتراكمة أمام الهويس، الرَّائحة العفنة تضج في المكان، ذباب
كثير يزن، سد أنفه بكم جلبابه الواسع، ومطَّ رقبته ينظر إلى هذا الرُّكن الذي
يصنعه السَّد الإسمنتي مع ضفَّة التِّرعة، حيث لفافة، بيضاء، تشرَّبت بالماء، يبدو
أعلاها طافيًا، راسمًا ظهر جثَّة آدمية لطفل صغير، طفل لا يتعدَّى عمره، على
الأكثر، التَّاسعة من عمره.
نظر
حوله، الشَّمس في الضُّحى حامية، تصب نيرانًا، الحقول مرميَّة من غير فلَّاحين،
الهويس ميِّت مثل جثثه، نخيل تنتشر في الغيطان كشواهد قبور، بدأ يشعر باختناق، صوت
محمد فوزي يتسحَّب خارجَا من السَّيارة ذات الباب المفتوح:
"ندر
عليَّا لجيلكو واولَّع شمعه من شمعه.. لحد
الشِّبر ونص ما يكبر ويروح الجامعه".
اندفع
بجسده الفارع، الممتلئ، نحو السَّيارة، يغالب اختناقًا جعل وجهه يتفجَّر بوهج أحمر
قان، أصابع يده تتشبث بأسفل فكه، كأنَّه يحاول نزع قبضة أطبقت، تمامًا، على كامل
رقبته، ودموع غزيرة بدأت تطفر من عينيه الجاحظتين.
ركب
السَّيارة، أغلق بابها بعنف، ضغط على دوَّاسة البنزين بكل ما في ساقه من قوَّة،
وهو يرفع قدمه الأخرى من فوق دوَّاسة الدِّيبرياج، فقفزت السَّيارة، ارتفعت
مقدِّمتها كأنَّها ستحلِّق، بينما سحقت العجلتان الخلفيَّتان التُّراب، وهما
تنعران.
ارتفع
صوته المخنوق بالدُّموع، فخرج مسرسعًا، مثل مفاصل أبواب حديديَّة ثقيلة:
ــ آه يا ولدي.. آه يا "كرم".
ارتفع
صوت محمد فوزي مرحًا جدَّا، يكاد يضحك:
"ذهب
الليل.. طلع الفجر ..".
ضغط
بكل حمل جسده على دوَّاسة المكابح، فأكلت العجلتان الخلفيَّتان الأرض، ارتفعت مؤخِّرة
السَّيارة، بينما مقدمتها انخفضت كأنَّها ستسجد، انفتح بابها بعنف، ونزل
"الجميل" يزعق:
ــ آه يا "كرم".. يا "كرم".
ينظر
حوله وهو يدير رأسًا محمومًا بالبحث عن شيء في الأرض.
أخيرًا
وجده.
حَجر
في حجم قبضة اليد، صلد، مليء بالنُّتوءات الحادَّة.
محمد
فوزي يغني آخر كلماته:
"قالتله
نو نو".
ضرب
الحجر الصلد راديو السَّيارة، فهشَّمه تمامًا.
***
تتقدَّم
العربة الفورد نحو مكانها، تحت شجرة السَّرو العملاقة، ببطء يليق بعربة
تاريخيَّة فخمة، ينزل "الجميل الزَّماني" منها، بدا مستعيدًا لرباطة
جأشه، يتقدم نحو بوَّابة البيت الضَّخمة، التي علت عن الأرض بسبع درجات عريضة، لم
يكن البيت بيتًا ضخمًا عاديًا، إنَّه أشبه بقصر قديم، غامض.
البوَّابة
زُيِّن أعلاها برؤوس محنَّطة لخروف، وحمار، وجمل، وكلب، وذئب.
رأس
الذِّئب بالتَّحديد، تطل بشموخ في المنتصف تمامًا، ولأعلى قليلًا، بين هذه الرؤوس.
دفع
"الجميل الزَّماني" البوَّابة، دخل، وانطلق فجأة في البكاء، وهو يزعق:
ــ يابا..
يابا.. يابا.
لم
يسمع ردَّا، فانطلق إلى الحجرة التي يرقد فيها أبوه، "نجم الزَّماني"،
على ظهره منذ سنوات، فتح الباب بسرعة متشنِّجة، وهو يصرخ:
ــ يابا.. يابا.
سرير
نحاسي ذي أعمدة براقة مزخرفة بدوائر الفضَّة، مفروش بالمراتب، والوسائد، المحشوَّة
بريش النَّعام، وجسد "نجم الزَّماني" يتمدَّد، هزيلًا، في المنتصف،
ويغطس في النُّعومة، لا يكاد يُرى، استدار رأسه بحركة بطيئة، ينظر إلى
"الجميل".
رأى
"الجميل" عيني أبيه جمرتين، وماء يسيل من أنفه.
طوَّح
"الجميل" رأسه بعنف يمينًا وشمالًا، يقول:
ــ ولدي مرمي عند هويس "الطَّرايد"..
وسط جِتت البهايم يا "نجم".
جلس
على أحد الكراسى، يلهث.
وجه
"نجم الزَّماني" جلد على عظم، الزَّمن نحت لحمه، ومصَّ السُّكري دهنه،
والتهابات المفاصل المزمنة صرعته، فألقته في الفراش مسلوب الحركة.
نظر،
بعينيه الغائمتين، إلى "الجميل"، وهمس:
ــ كِيف؟!
ـ
أنا رميته هناك من ليلة امبارح.
بدا
الانزعاج في عيني "نجم الزَّماني"، فأخرج صوتًا واهنًا، حاول أن يجعله
حادَّا، فلم يستطع:
ــ قُلتلي انَّك دفنته ف الجنينه!
صمت
"الجميل الزَّماني" لحظات، جحظت فيها عيناه، كانت رأسه تتحرك ببطء،
كأنَّه يحاول تذكُّر حدث قديم، قال مذهولًا:
ــ هِه؟!
همس:
ــ ايوه.. انا دفنته في الجِّنينه..
عوى
"نجم الزَّماني":
ــ افتكر زين انت عملت ايه! دفنته فِ الجِّنينه واللا رميته فـ التِّرعه؟
مد
يده، بهدوء، إلى داخل سيَّالة جلبابه، أخرج علبة سجائره الكليوباترا، بينما ينظر
نظرة نافذة إلى صورة أمِّه، المؤطَّرة ببرواز مذهَّب علاه الغبار، المعلقة على
الجدار الذي يقابله، فرآها تنظر إليه بحدَّة، ورأى كتفها يتحرَّك بحركة ذراعها،
وضع السِّيجارة بين شفتيه، بينما يزداد نظره تركيزًا في صورة أمِّه، وقد شعر
بأنَّها ستُقدم على عمل مخيف.
جاءه
صوت "نجم الزَّماني" خافتًا، ينوح من بعيد:
ــ دفنت الواد واللا رميته فِ التِّرعة؟!
أخرج
عود الثِّقاب، وأشعل السِّيجارة، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه ذراع أمِّه، وقد
قبضت، بيد عجفاء، على سكِّين لها نصل طويل يلتمع، وعندما رآها تتهيَّأ للقفز من
الصُّورة، هبَّ "الجميل" واقفًا، وجرى مرعوبًا إلى باب الغرفة.
***
دخل
غرفة "كرم"، والسِّيجارة ترتعش بين إصبعي يد تنتفض بانتفاضة كل جسده،
هبَّ قطٌ كبير من نومته في سرير "كرم"، وقفز إلى الأرض، قبل أن ينسل
هاربًا من باب الغرفة الموارب.
قط
رومي أبيض كبي، أحبَّه "كرم" جدَّا، وكرهه "الجميل" جدَّا.
قال
"الجميل" لـ"كرم" كثيرًا:
ــ فِـ يوم
هادبح القط دَهَه وادفنه فِ الجنينه.
السَّرير
يحمل آثار ما حدث بالأمس، الملاءة مكرمشة إثر معافرة شديدة، وبقعة دم كبيرة
امتدَّت أسفل الوسادة، وانكفأ فيها وجه دمية لدبدو" متوسِّط الحجم، وطرطشات
خفيفة لدماء تناثرت على الملاءة كلها.
سكِّين
مطبخ كبيرة تلوَّن نصلها بالأحمر، واصطبغ مقبضها بدم ما زال نديَّا، ملقاة بجوار
الكوميدينو، ينظر إليها ميكي المرسوم على ضلفته ضاحكًا، مجموعة من المسدَّسات،
وبنادق الخرز، ملقاة على الأرض، بجوار دبَّابات، وعساكر أمريكية، تزحف من غير
حركة، وفي يدها أسلحة رشَّاشة صامتة.
طرطشات
أخرى لدم طازج تناثر على واجهة خزانة الملابس الصَّغيرة، بقع حمراء تلطَّخت بها
جدران الحجرة، ولم تفلت صورة "منيرة"، المثبَّتة أعلى الجدار المواجه
للسَّرير الصغير، من بقعة دماء، سال منها خيط أحمر، انتهى قبل حافَّة الإطار بقطرة
متخثِّرة.
على
الأرض، المقابلة للنَّاحية الأخرى من السَّرير، فردتا شبشب نسائي منزلي مُلقتا على
جانبيهما في بركة دم واسعة، ملأت الأرضيَّة، وستارة النَّافذة، الصَّغيرة،
المطلَّة على حديقة الفواكه، انفلتت حلقاتها لتتعلق بالكاد أعلى النَّافذة بينما
غطس ذيلها في بركة الدَّم الواسعة.
يسحب
نفسًا مرتعشًا من السِّيجارة، ينظر بعينين مهتزَّتان إلى صورة "منيرة"،
التي كانت تنظر إليه بعينين مشفقتبن.
ألقى
بنصف السِّيجارة مشتعلًا فتدحرج حتَّى توقَّف على حدود بركة الدِّماء، رفع ذراعيه
وأمسك ببرواز صورة "منيرة" وألقاه بعنف على البلاط، فتفتَّت زجاجه،
وتطاير في أنحاء الغرفة.
صرخ
بهيستيريَّة:
ــ قُلتلِك مِيت مرَّة ما تبصليش البصَّه دي.
وعندما
نظر إلى صورتها الملقاة تحت قدمه، وجدها تنظر إليه نظرة مستعطفة، فطفرت الدُّموع
من عينيه، وبكى.
عندما
يبكي "الجميل الزَّماني" لا ينعر، ولا يعوي، وإنَّما يشهق شهيقًا
متواصلًا، من غير زفير، ما يشعر معه بالاختناق، فيبدأ فمه ينفتح وينغلق كأنَّه فم
سمكة، ويتلوَّن وجهه بلون نار تشتعل في جاز "السًّولار".
ينسل
إلى داخل الغرفة مواء قط يتهيأ للهجوم، وصوت "نجم الزَّماني" الواهن،
يزحف متهالكا:
ــ يا واد يا "جميل".
لم
تكن هناك أية أصوات لشقشقات عصافير، رغم أن الأشجار الكثيفة تحيط بالبيت الضخم!
***
الرِّيح
تعصف بالأشجار، والقمر خلف سحب داكنة، البروق تلتمع فجأة، تضرب الأفق
والسَّماء بالرَّعد، تنعكس التماعاتها على رخام البيت الكبير، فيرهج بوهج أبيض،
وتتطوَّح الجماجم المعلقة على البوَّابة، فيزخ المطر قطرات البشارة الأولى.
يصرخ
"كرم":
ــ خلاص يا بابا.
"الجميل"
يرفع يده بالسَّوط، ويهوي به، قبل أن يلمس الجسد الصَّغير، ترتمي
"منيرة" بجسدها عليه، فتتلقَّى الضَّربة العاتية، تصرخ:
ــ حرام عليك يا "جميل".. دا ولدك.
ــ ولدي ما يبكيش.. ولدي قلت له ألف مرَّه ما
تبكيش.
تزوم
العاصفة، يموء القط داخل الغرفة الصَّغيرة، التي انغلق بابها، موءات عالية،
متقطِّعة، يملؤها الرُّعب، يجري مفزوعًا بين قطع الأثاث، محاولًا أن يجد منفذًا
للهرب.
قميص
نوم "منيرة" يكشف كل لحمها البض، الذي يتلقَّى ضربات السَّوط، فيتشرَّخ
شروخًا ترشح بالدِّماء في شكل خطوط قانية، تنتفض بورم سريع.
يجأر
"الجميل":
ــ قولتله ألف مرَّة الرجال ما يبكوش.
تلهث
"منيرة":
ـ "كرم" لسه صغير...
يزحف
صوت "نجم الزَّماني" إلى الغرفة، مصطحبًا صوت الرَّعد الذي يقلقل صمود
الجدران:
ــ كفايه يا "جميل".. كفايه يا زفت.. يا قطران.
السَّوط
يوش ممزقًا صوت "نجم الزَّماني"، يعلو ،وينزل، محمومًا بعشق العقاب،
يسقط أنين "منيرة" في قاع الصَّمت، ويغالب عواء "الجميل" طبل
الرعد:
ــ ييُبقا راجل من دلوقتي يا يغور فِ ستِّين
داهيه.
أفلتت
ضربة، من حصار جسد "منيرة" المستكين فوق جسد "كرم"، لتسقط على
وجهه، صرخ بعزمه:
ــ بابا.
شرخ
السَّوط جلد وجه "كرم" طوليَّا، فبدا الوجه وكأنَّه قد انشطر إلي نصفين،
لم يبد أن "الجميل" له عينان تريان،
فاستمر في الجلد، وجهه محمرًا، وجبهته تنز عرقًا، وبدأت شفتا فمه تنفتحان
وتنغلقان، فم سمكة تموت على شط.
***
العربة الفورد تتحرَّك
على أرض الطَّريق المترب بأناة، "الجميل" يُحدِّق النَّظر في كوبري
الهويس القادم يتلكَّأ، نَفس الضُّحى القائظ، ونَفس السُّكون المميت.
تقف العربة بجوار
الهويس، "الجميل" ينزل، يتلفَّت حوله كثيرًا، ثم يتقدَّم ناحية المكان
الوطيئ من ضفَّة التِّرعة، مكان يمكن للإنسان النُّزول منه إلي الماء بيسر.
الوضع كما هو، كأن
الحياة لم تتحرَّك منذ أسبوع، الماء الأخضر الطُّحلبي، عشرات من جُثث الطُّيور
والحيوانات، الجثَّة الصَّغيرة ملفوفة في ملاءتها، التي يبدو أنها بليت، راسية في
مكانها.
ينحدر
"الجميل"، متساندًا إلى قاعدة الهويس الإسمنتية، حتَّى يصل إلى طين لزج
يسيب تحت قدميه فيلتصق بفردتي حذائه.
طنين الذُّباب الأزرق،
الطَّواف فوق الجثث، يدوِّي، رائحة العفن صارت عطنة، لا تُطاق.
يستند
"الجميل"، بذراعيه، إلى الجدار الإسمنتي، يعلو صوته بعواء القيئ، تنهمر
من عينيه دموع، ينزلق من أنفه مخاط دافئ، بطنه ينقلب.
ورغم أنه يفرغ من
قيئه، إلَّا أنَّه يستمر في النَّهجان.
الجثَّة الطَّافية
أقرب إليه من أي وقت مضى، هاله منظرها، بربشت عيناه، بعصبيَّة، وهما تكادان
تخترقان الجثَّة، كانتا تطفحان بعدم التَّصديق.
"هِيَّا دي جتِّة
كَرَم الزَّماني؟!".
جثَّة متضخِّمة،
منفوخة عند الكتفين والرِّدفين، رأسها يغطس تحت الماء، كذلك ساقاها وذراعاها.
يقترب من الجثَّة
أكثر، فمه يبدأ في الانفتاح والانغلاق مثل فم السَّمكة المحتضرة، الضَّفة صارت
أكثر انحدارًا، فبدأ يتشبَّث بالقاعدة الإسمنتيَّة.
ها هي الجثَّة،
أخيرًا، في متناول يده، إنَّها مركونة بعرض التِّرعة، رأسها ناحيته. المنحدر مائل
جدَّا، وزلق للغاية، تقرفص بصعوبة وهو يستند بذراعه إلي جدار الهويس، محاولًا
ألَّا ينزلق، ومد ذراعه الأخرى، المنتهية بيد غليظة نفرت أصابعها، نحو الجثَّة.
إنَّها أضخم، كثيرًا،
ممَّا كانت عليه منذ أسبوع، تحيط بها علب بلاستيكية فارغة، وقطعة قماش ممزَّقة،
وبوص، وأحذية قديمة.
قبض على جزء من
الملاءة ناحية الرَّأس، يده ترتعد، فجذبت بعنف المرتعب طرف الملاءة، كانت الملاءة
قد تهرَّأت تمامًا فتمزَّقت، لينكشف له جزء كبير من رأس الجثَّة، التي تقلقلت في
الماء الآسن، ثمَّة شعر أسود، فاحم، يظهر تحت الماء.
مد ذراعه مرَّة أخرى، وقبض
على جزء كبير من الملاءة، حاول ضم أطرافه كي لا يتمزق، فيتمكَّن من سحب الجثَّة،
وإخراجها.
قدمه اليسري، التي
عليها كل حمل جسده، انغرست تمامَّا في الطِّين.
الشَّمس بنارها،
السَّماء بوهجها، الصَّمت يُغرق الحقول، النَّخيل متيبسة في فضاء مترهِّل.
رغم أنَّه جذب الجثَّة
إليه بسياسة إلَّا أن يده انفلتت بقطعة أخرى من الملاءة المتهرِّئة، قطعة كبيرة
كشف زوالها عن كامل الرَّأس، وبدأ شعر أسود، طويل، وكثيف، في الانتشار، ليطفوا
معظمه على سطح الماء، مكوِّنا سحابة من ليل.
صارت حركة شفتيه أكثر
سرعة، أقوى حدَّة، جفنا عينيه يهتزَّان، وبينما يسحب قدمه، التي انغرست بكاملها في
الطِّين، بصعوبة شديدة، علا صوت محرِّك سيَّارة تتقدَّم، كان المحرِّك يكح، ويعطس،
مثل عجوز امتلأ صدره ببلغم ثقيل، ضوضاء شرسة تصدر من تخبُّط مكوِّنات السَّيارة
التي بدت مفكَّكة تمامًا.
ضرب الرًّعب قلب
"الجميل".
اقتربت السَّيارة
جدَّا، وتوقَّفت عند الهويس، ألصق "الجميل" ظهره بجدار القاعدة
الإسمنتيَّة، كتم أنفاسه، فأخذ صدغاه في الانتفاخ.
ارتفع صوت أجش هاتفا:
ــ ياللا يا "زغلول" حرِّك نفسك.
صوت "زغلول"
وهو يقترب من الهويس:
ــ نفسي أنام..
ملعون أبوها شغلانه.
الصوت الأجش يعلو:
ــ عربية "الجميل الزَّماني" واقفة
تلمع.. عربية ملوكي.. الفورد القديم لا يُعلى عليه.
"زغلول" فوق
الكوبري، متَّجها مباشرة إلى العجلات الحديديَّة الضَّخمة، سيديرها حول نفسها بيديه
القويَّتين، فتنفتح بوَّابتا الهويس، ليتحرك الماء الرَّاكد، قبل أن يتدفق إلى
النَّاحية الأخرى من التِّرعة.
ــ
"الزَّمانات" مجانين يا "غرب".
هتف "غرب":
ـــ يخرب بيت أبوك يا "زغلول".. وطِّي
صوتك.. لو سمعك "الجميل" بيه حايقصف عمرك برصاصة واحده من طبنجته.. افتح
الهويس واخلص.
أدار
"زغلول" العجلة الحديديَّة، الضَّخمة، بصعوبة بالغة، فأطلقت صريرًا
يتمازج بين الصَّفير والنَّعير، وبدأت البوَّابتان في الانشقاق.
ــ يقصف عمري برصاصة!؟ كدِه ببساطة؟! فروُّجه انا ياك؟! "الزَّمانات" يا
"غرب" طبل اجوف.. صوته عالي على فاشوش.. ودعوات المظلومين لازم حاتصيبهم.
القمامة الطَّافية على الماء تترك أماكنها. النَّعير
والصَّفير يتقطَّعان مع حركة يدي "زغلول" وهو يدير العجلة الحديديَّة
الضَّخمة.
ــ سلسالهم قرَّب يتقطع خالص.. نسلهم ما عادشي... يا دوب واحد بيسلم واحد! كلها كام سنه وحاينقرضو.
كاد
"الجميل"، من فرط التصاقه بالقاعدة الإسمنتيَّة للهويس، أن يكون صورة
منحوتة على جدارها.
فُتحت البوَّابتان على
اتِّساعهما، الجثث تتشابك، وتزدحم، فوق سطح الماء المتدفق.
عطس محرِّك السَّيارة،
وهي تزحف مبتعدة تكركب.
نظر
"الجميل" إلى الجثَّة عارية الرَّأس، التي بدأت تترك مكانها متَّجهة إلى
البوَّابة، أطلق العنان لشفتي فمه كي تعاودان حركتهما السريعة بالانفتاح
والانغلاق، بسرعة عاد إلى مكانه الأول ليلحق بالجثَّة، واستطاع، في آخر لحظة، أن
يقبض على الشَّعر المتناثر في الماء، ويمنعها من الذِّهاب، يجذبها إليه.
تأرجحت عيناه بنظرة مستغربة.
شعر طويل!
إنَّه ليس شعر رأس
"كرم"! هذا شعر امرأة! شعر....
صدره يهيج، أنَّات
مخفوقة تنفجر من أنفه، يزوم زومات متقطِّعة، الشَّعر الطَّويل ينفلت من فروة
الرَّأس الذَّائبة، تنطلق الجثَّة، بسرعة غريبة، إلى بوَّابة "الهويس"،
تندفع إليه اندفاعًا مفاجئًا.
***
جلس
"الجميل" في الأريكة الخلفيَّة للعربة الفورد، مرتديًا بدلة فخمة، صنعت له
خصيصا في أحد أفخم بيوت الأزياء الأوروبيَّة، بينما جلست بجواره
"منيرة"، وقد ارتدت فستان زفاف رُصِّع صدره، وذيله، بأحجار الدُّر
والياقوت، وعلى رأسها تاج في شكل زهرة اللوتس، مكسو بحبيبات الذَّهب.
العربة تمضي في موكب،
طويل، من عشرات السَّيارات، الفخمة، الأحدث موديل.
الليل، القمر المكتمل
يسبح في سماء سوداء، تامَّة الصفاء، كُسيت بنجوم برَّاقة، وطابور السَّيارات
يتهادى في المرحلة الأخيرة من الطَّريق، وبدا قصر "الزَّمانات" يقترب
مزيَّنا بأضواء ملوَّنة خفَّاقة.
"نجم
الزَّماني" يقود العربة الفورد بنفسه، و"منيرة" قمر يضوي، يجلس في
عربة تجري على الأرض، أمالت رأسها تخطف نظرة إلى "الجميل"، فاستغربت هذه
الحركة التي يعملها بفمه وصدغيه، والتي تشبه حالة سمكة تموت.
ــ مالك؟
أدار
وجهه إليها خطفًا، فرأته محمرَّا جدَّا. همس متسائلا:
ــ مالي؟!
ابتسمت، وهمست هي
الأخري بصوت مداعب:
ــ يتعمل ببوقَّك حركات سمكه بتموت.
ارتفعت ضحكة "نجم
الزَّماني"، ضحكة مصطنعة، ليست طالعة من بساتين القلب، لكنَّها تشع بالمقصود
منها، إنقاذ موقف.
ــ
انتو بتعيشو دلوقتي أحلى ليالي العمر.. بصِّي يا "منيرة".. عاوز حفيد
بمنتهى السرعه.. مستقبل
"الزَّمانات" بين إيديكي يا بتِّي.
وضحك.
ــ مش باين يا عمي ان "الجميل بك الزَّماني"
بيعيش أجمل ليالي العمر.. بالعكس خالص.. دا باين عليه انه بيعيش أصعب أزمة ف
حياته.
وضحكت ضحكة رقيقة، قبل
أن ترى ما أذهلها. ذراع "الجميل" تنطلق من جواره، مثل أفعى غليظة،
ليرتطم الكف بوجهها في صفعة قويَّة أسقطت التَّاج المذهَّب من فوق رأسها، ورسمت،
على خدِّها، أربعة خطوط دمويَّة نافرة.
بوغت "نجم
الزِّماني" فانحرفت عجلة القيادة قليلًا، لكنَّه تمكَّن من إعادتها إلى
مكانها بسرعة وهو يصرخ:
ــ بتعمل ايه يا مجنون؟!
زعق
"الجميل" بكل صوته:
ــ أنا سمكه ميِّته؟!
ــ بتضحك
معاك! بتهزِّر!
الأشجار
المزيَّنة باللمبات الملوَّنة، واجهة القصر تشع أضواءً هادئة، تومض وتخبو، ورأس
الذِّئب، المحنَّط بين رؤوس الحيوانات المعلَّقة أعلى البوَّابة، يطل الموت من مآقيها
الزجاجيَّة.
انحني
"الجميل" داخل العربة، والتقط التَّاج المذهب، ووضعه على رأس
"منيرة"، التي انهالت دموعها من غير صوت، التصق "الجميل" بها،
أدار جذعه ناحيتها وأخذ يمسح دموعها بإبهاميه الغليظتين، يشهق، فمه ينفتح وينغلق،
أزاح بسبَّابته ذقن "منيرة"، يدفعها كي تنظر إلى ما فوق نافذة باب
العربة، فرأت قلبًا مرسومًا برقائق الذَّهب والفضَّة، بداخله صورة زيتيَّة لوجه
"منيرة" مرسومة بمهارة، بينما يحيط بكل القلب اسم "الجميل
الزَّماني".
رأت "منيرة"
هذا جيِّدا، رغم أنَّها رأته من خلف بركة دموع، لم يفلح إبهام "الجميل" في
تجفيفها.
***
الجثَّة تتهادى في
الماء بحكمة، في وسط التِّرعة تمامًا، حيث لا عوائق يمكنها تعطيل تهاديها، لم يكن
هناك ما يجبرها على التوقُّف، ولم يكن هناك ما يشير إلى أنها ستتوقَّف قريبًا،
فلقد انطلقت من تحت الهويس قبل الظُّهر بقليل، وها هو أذان العصر يعلو من الآفاق
البعيدة، سارحًا فوق الحقول، متكاسلًا من فرط سخونة وهج الشَّمس.
الجثَّة تسبح بأناة،
رأسها، الذي تجرَّدت فروته من الشَّعر الطَّويل، تتَّجه مع الماء إلى الغرب، حيث
تتَّجه شمس العصاري، و"الجميل" يقود عربته أيضًا بحكمة، على الطَّريق
المترب، غير الممهَّد، محاذيًا التِّرعة التي عاد ماؤها إلى زرقته، عيناه تخطفان،
من لحظة إلى أخرى، نظرات مُنتقَصة إلى الجثَّة السَّارحة.
شجرة سنط، عملاقة،
تفرش أغصانها فتغطِّي مجرى التِّرعة، تقترب.
ابتداءً من هذه
الشَّجرة ستدخل التِّرعة في زمام أراضي "الزَّمانات".
ما الذي حدث ليجعل
الجثَّة السَّابحة الهوينى، في منتصف التِّرعة، تغير مسارها، لتتَّجه إلي الضفَّة؟! إلى حيث أصل جذع شجرة السَّنط المائلة .....
ــ ياااه.. الشَّجره دي نوعها إيه؟!
ــ شجرة "سُنط".
ــ شكلها مرعب.. الشُّوك مالي كل أغصانها!
ــ من وجهة نظري دي أعظم شجرة فِ العالم.. عشان ما بتسلِّمش نفسها بسهوله لأي حد يعوز
يطلع أغصانها.
ــ والشَّجره دي ثمرتها إيه؟!
قطف
"الجميل" بطرف سبَّابته سائلًا لزجًا، سميكًا، بزَّ من شرخ صغير في
جذعها.
ــ
الصَّمغ.
ثم وضع سبَّابته في
فمه ومصَّها. قال:
ــ طعمه حلو.
ضحكت
"منيرة" وهي تقول:
ــ الصَّمغ طعمه لذيذ؟!
هالها أن عيني
"الجميل" امتلأتا فجأة بالدموع، كانتا تنظران إلى الأرض المعشوشبة أسفل
أغصان الشجرة، كان هناك عصفور ميت، مستلق علي جانبه متيبسا......
ترسو الجثَّة برفق تحت
جذع الشَّجرة الغاطس في المياه، يخرج "الجميل" من العربة ليتَّجه إلى
مكان الجُّثة.
صوت "منيرة"
المشفق يتردَّد صداه في عقله:
ــ مالك يا "جميل"؟!
ــ الطَّيور
كائنات مسكينه.. لمَّا تموت ما بتلاقيش حد يدفنها.
ــ طيب دا
موضوع يستاهل انَّك تبكي كدا؟!
مسح دموعه بإبهاميه،
مال إلى الأرض والتقط العصفور الميِّت، كان قد تخشَّب تمامًا، وثمَّة نمل، لا يكاد
يُرى، يسعى بين ريشه، وحول منقاره وعينيه المغلقتين.
ــ
الطيور جميلة يا "منيره".. حتَّى وهِيَّا ميِّته.. بصِّي فِ عينيه.. مقفولين خالص.. لكن البني آدم
الميِّت يبحلق بعينيه..
رست الجثَّة،
و"الجميل" ينحدر مع الضفَّة الزَّلقة مستندًا إلى جذع شجرة السَّنط،
حشرات تتعلَّق بظهر كفِّه، يواصل الانحدار ببطء شديد، يقترب جدَّا من الجثَّة،
ينحني مادَّا ذراعيه، يخترق بهما الماء إلى حيث الرَّأس الغارق، يحيطه بكفَّيه،
ويجذب الجثَّة إليه، فيتمكَّن من إخراج نصفها الأعلى، ثم رفع الرأس إليه، ونظر في
الوجه.
حتَّى الرِّيح!
خلت الدُّنيا من كل
متحرِّك حتَّى الرِّيح، الدُّنيا لوحة ميتة، والشَّمس تقف في مغارب الحزن، لا
تتحرَّك نحو غروب الفناء، أسراب الغربان، التي عادة تطير في أواخر نور النَّهار،
عائدة إلى شواشي النَّخيل، ها هي تطير في أماكنها، تعلَّقت في السَّماء من غير
حركة، فقط أجنحة مفرودة من غير خفق، ومن غير سقوط، لوحة تبقى تنفث الآلام.....
جعر
"الجميل" بصوت لم يخرج منه من قبل:
ــ عاااااا.
ودفع بالجثَّة إلى
التِّرعة، قبل أن يستدير، بكل ما يملك من طاقة، محاولًا تسلُّق الضفَّة بسرعة
هيستيريَّة.
ينزلق حتَّى تغطس
قدماه في الماء، فيتشبَّث بأصابعه في الطِّين، ويصرخ:
ــ عاااا.. عاااااااا.
السَّمك أكل وجه
"منيرة"، فلم يتبق منه إلَّا بقايا لحم متهرِّئ التصق بعظام الجمجمة.
بالتَّأكيد أكل
السَّمك رقبتها، أكل صدرها ونهديها، أحشاء بطنها، فخذيها، كل ما كان غاطسا من
جسمها تحت الماء أكله السَّمك.
"لا يمكن تكون دي
منيره"
استطاع الصُّعود إلى
الطَّريق، لاهثًا مثل كلب خائف، فمه ينفتح وينغلق بسرعة عجيبة، جلس خلف عجلة
القيادة، وأدار محرِّك السَّيارة لتنطلق متقافزة على الطَّريق الوعر، فيتصاعد
الغبار إلى الهواء الثَّقيل.
"مش ممكن تكون
منيرة".
***
الشُّروق أجمل
الأوقات، وأجمل شروق هو الذي تتجلَّى فيه الشَّمس من فوق سن الجبل البعيد، تطلع
على حقول ما لها حد اتِّساع، ترفرف في سمائها طيور فرحة بنور الأرزاق.
"الجميل
الزماني" يعشق الشُّروق، يقف كل صباح في سطح القصر، ينظر نحو الشَّمس
الطَّالعة تزهزه، ويملأ صدره بعبق الغيطان، يراقب الطُّيور التي تمرق في الفضاء
بمرح، فينتشي، ويفرد ذراعيه متعامدتين كالمصلوب، ويحركهما إلي فوق وتحت، يريد
الطيران...
اليوم، طيور الغربان
ليست فرحة، بل حزينة، تحلِّق في دوائر ضيِّقة وتنعق، بينما طيور غربان أخرى قادمة
من بعيد، تنعق أيضًا، متَّجهة نحو الدَّوائر المحلِّقة.
يقف "كرم"
مختبئًا خلف فازة ورد، ضخمة، تهشَّمت حافَّتها، وبهتت ألوان زخرفتها، ينظر إلى
الغربان، وإلى أبيه.
"الجميل"
ينظر إلى الطُّيور، السَّوداء، المحلِّقة، بوجه مقلوب، هتف:
ــ جنازة غِربان.. مات غراب.
هرول ناحية الدَّرج،
واختفى في نزوله السَّريع، تقدَّم "كرم" ناحية سور السَّطح، ونظر إلى
أسفل، رأى أباه، "الجميل"، يخرج من بوَّابة البيت، يهبط الدَّرجات
الواسعة أمامها، وينطلق في الحقول باتِّجاه البؤرة التي ترفرف فوقها الغربان
النَّاعقة.
التقط
"الجميل" الغراب الميِّت، واتَّجه به إلى بوَّابة حديقة أشجار الفاكهة.
شجر المانجو ضخم،
تتشابك أغصانه في الأعالي، شجر الجوَّافة سامق، شجر البرتقال مكتنز بأغصانه
المرصَّعة بالثِّمار النَّاضجة في لون الذَّهب، إنَّها غابة من الجذوع المنغرسة في
الأرض، انتشرت بينها أكوام من ثرى نبتت فيها الحشائش، وأكوام من ثرى حديث وُضعت
حديثًا، قبور الطيور، قبور كثيرة رُصَّت بعناية في خطوط مستقيمة، ونبتت حولها
أعواد الرَّياحين.
"الجميل" منهمك في
حفر قبر بفأس صغيرة، ينهج، وينشج، فمه ينفتح، وينغلق، عيناه تسحَّان دموعًا،
و"كرم" يرقب أباه من خلف جذع شجرة، بينما يتمسَّح، في ساقيه، قطُّه
الأبيض، بينما ينظر، باهتمام، ناحية الجسم الآدمي الضَّخم، الذي يحفر الأرض وهو
يرتج.
شمس الصَّباح تطلع
مختبئة وراء الأغصان الكثيفة، والغراب الميِّت يغطس في الغياهب، ثم تزيح الأصابع
الغليظة الثَّري، تعيده إلى حيث كان.
الغربان تحوِّم في
السَّماء، نعيقها عال، واليدان الضَّخمتان تسوِّيان كومة التُّراب في شكل هرمي،
تنظر العينان الدَّامعتان إلى القبر.
إنِّه في مكانه،
تمامًا، على امتداد الصَّف.
***
السَّوط السُّوداني
نُقع في الزَّيت طويلًا، عندما يهوي على جلد الإنسان يمزِّقه، تمزَّق ظهر
"منيرة"، التي ألقت بجسدها فوق جسد "كرم"، الشَّرخ، في جلد
وجه "كرم"، يبك دمًا، صوت "نجم الزَّماني"، الملتاع، يغالب
الرَّعد، ينسل زاحفًا من أسفل باب غرفته الموصد:
ــ كفايه يا "جميل".
يزعق،
"الجميل"، وهو يهوي بسوطه:
ــ يبكي؟!
قولتله ألف مرَّه ما تبكيش. الرِّجاله ما يبكوش.
همست
"منيرة" وهي تجمع آخر قوتها:
ــ "كرم" بيبكي مِ الخوف.. لكن أنت
بتبكي لأسباب تافهه.
عصف السَّوط بعنقها،
فماءت مثل قط يختنق، مواءً طويلًا مكبوتًا.
ـ أنا بابكي لأسباب تافهه؟! أنا بابكي يا سافلة؟!
جُن السَّوط، يضرب من غير وعي، القط الأبيض
ينكمش تحت منضدة صغيرة في ركن الغرفة، في عينيه رعب.
يصرخ "الجميل":
ــ أنا
ما بكيتش يوم ما ماتت امِّي.. أبكي كِيف؟
همدا، فقط يرتعشان رعشات خفيفة، همست
"منيرة" من بين مشارف الموت:
ــ انت
مجنون يا "جميل".
ارتطمت الكلمة بأذني "الجميل"
ارتطامًا عنيفًا أذهله.
ــ أنا مجنون!؟
ألقي بالسوط جانبًا:
ــ أنا
مجنون!؟
استدار إلى باب الغرفة، فتحه بعنف، واندفع
خارجًا، فاندفع القط خلفه هاربًا. كان صوت "الجميل" يغيب في هدير
العاصفة، وهو يزعق:
ــ أنا
مجنون!؟
وصدح صوته، فجأة، عندما عاد ودخل الغرفة:
ــ أنا
مجنون!؟
يده اليمنى تفبض على
سكين ذات نصل، طويل، بالغ الرَّهافة، رفعها إلى أعلى قبل أن يهوي بها
غارسًا النَّصل، بكل قوته، في ظهر "منيرة"، التي لم يبد جسدها أيَّة
حركة، سوى رعشة خفيفة.
ــ أنا مجنون؟
نزع
السِّكين، وغرسه، عدَّة مرَّات في الجسد الرَّاكد، ثم سحبه وقد تفجَّرت منه
الدِّماء.
وبينما
الجسد يأخذ طريقه، ساقطًا من فوق السَّرير إلى الأرض، تعلَّقت يد
"منيرة" بأطراف السِّتارة، فنزعتها من ماسورتها.
وسقط
الجسد على الأرض، فانكشف جسد "كرم".
سكون
مفاجئ غمر الأجواء، رحلت العاصفة، وتجلَّى صوت "نجم الزَّماني"، قادمًا
من غرفته، منتحبًا بالعجز:
ــ يا "جميل". يا "جميل".
القط
يتلصَّص بنظراته من فرجة باب حجرة "كرم"، ينظر إلى اليد الغليظة وهي
تعلو وتهوي بسكِّين تخضَّب بالدِّماء.
***
ــ
"هِيَّا منيرة!".
ينظر، بفزع، من فوق
الضَّفة، إلى الجثَّة المشوَّهة الرَّاسية تحت جذع شجرة السَّنط.
يتنفَّس بصعوبة، وهو
ينحدر ببطء، حتَّى أمكنه الوصول إلى الماء، مد ذراعين مرتعشتين، وقبض على جانبي
الرَّأس المتهرِّئ، ثم سحب الجثَّة.
لم يكن سهلًا،
بالنِّسبة لرجل ضخم مرتبك، أن يسحب جثَّة متحلِّلة ويصعد بها منحدر الضَّفة، لقد
تعب كثيرًا، وطويلًا، وناح، وعوي، وتقيَّأ، فطارت الشَّمس إلى خلف سن جبل الغروب،
وأخيرًا تمكَّن من وضع الجثَّة على الأريكة الخلفيَّة داخل العربة الفورد، رأسها ناحية النَّافذة،
التي تعلوها نقشة القلب المذهَّب، والمفضَّض، محيطًا بوجه "منيرة"
الباهي.
***
وقف ينظر إلى
الجثَّتين، ثابتًا، راسخًا، لا ينشج، لا ينهج، فمه مغلقًا تمامًا.
"منيرة"
ملقاة على بطنها، رأسها لُف في نهاية السِّتارة، فلم ير عينيها، لكن عيني
"كرم" كانتا مبحلقتين، تنظران إليه نظرة حائرة، ومليئة بالألم.
ألقى السِّكين فاستقرت
عند الكوميدينو، فأخذ ميكي، المرسوم على ضلفته، يحملق فيها مبتسمًا. وصوت
"نجم الزَّماني" بُح، فاستسلم لليأس من أيَّة إجابة:
ــ يا "جميل".. يا
"جميل".. عملت ايه يا واد.
***
كبار عائلة
"الزَّمانات"، على مر الزَّمان، يطلُّون من براويزهم المعلَّقة بتوالٍ
مرتَّب على جدران حجرة "نجم الزَّماني"، في عيونهم هلع اللحظة
مازال هناك، على
الجدران، متسع لبراويز أخرى.
"نجم"،
الطَّاعن في السن والأمراض، كسيح المصائب، تدلَّى من سريره العالي، فانخبط على
الأرض مثل جذع خاو، يزعق بصوته المتفتت:
ــ يا "جميل".
يجر، بذراعيه
النحيلتين، جسده الميِّت نحو الباب، ونظرات الوجوه، الملتصقة داخل لوحات البراويز
تحثُّه.
"لابد من ديمومة
"الزَّمانات"، لا يجب أن يتوقَّف رص البراويز".
فُتح باب الحجرة، دخل
"الجميل" وقد تخضَّب بالدَّم الأحمر، نظر "نجم الزَّماني"
إليه، فتوقَّف عن الزَّحف مشدوهًا، قال بصوته الكسيح:
ــ انت عملت ايه؟
دار
"الجميل" برأسه، تأرجح جسده، وبدا أنَّه سيسقط، فجلس على الأرض، بجوار
أبيه، وأسند ظهره إلى مقعد أريكة عتيقة.
زحف "نجم
الزَّماني"، مقتربًا أكثر من "الجميل"، وعندما صار لصيقًا به، مد
يده وقبض على عب جلباب "الجميل":
ــ عملت ايه؟!
شعر بلزوجة تحت قبضة
يده، فأفلت عب الجِّلباب المتشبِّع بالدِّماء السَّاخنة، ونظر في كفِّه، وسأل بصوت
يموت:
ــ عملت ايه يا فقري؟!
عيون الصُّور، في
البراويز، متلهِّفة بالقلق، والخوف، تنتظر إجابة.
ــ بيبكي.. دائما يبكي.. قولتله ألف مرَّة الرِّجاله
ما عايبكوش.. قولتله ألف مرة يا تعيش راجل
يا تموت.
ونظر
في عيني "نجم" الغائمتين، قال:
ــ مات.
ــ قتلته؟!
اندك
صدر "نجم الزَّماني" بالأرض، وهو يقذف بيديه مثل كلَّابين نحو وجه
"جميل"، ثم ينكت أظافره في لحم وجهه، ويحرثه.
صرخ
"الجميل" وهو يهب واقفًا، وقد وضع كفَّيه على وجهه الممزَّق، وجرى ناحية
الباب.
كبار
"الزَّمانات"، في البراويز، ارتعشت أفواههم بالأنين، مثل حمائم تبرجم في
سفح جبل شاهق، يُضخِّم الصَّدى.
***
قبور الطُّيور.
آخر قبر، في الصَّف،
لأحد طيور الإوز العراقي، قبر ضخم، ربضت فوقه كومة ثرى هرميَّة، وعالية.
ـ لا.. دا قبر
"كرم".. مش قبر وز عراقي.. أنا فاكر انِّي دفنته هنا.
إنَّه يحفر قبرًا كبيرًا.
ـ معلهش يا
طيوري.. المرة دي هادفن بيناتكم غزاله.
العربة الفورد تقف بالقرب من بوَّابة الحديقة، موسيقي
مرحة تنطلق من الرَّاديو العتيق، وحدُّ شفرة الفأس يأكل الأرض، جثَّة
"منيرة" مقلوبة على وجهها ساكنة تمامًا، تنتظر القادم، ينسال منها
الماء، يبلِّل الثَّرى.
صدح صوت "محمد فوزي":
"ماما.. زمانها
جايَّه.. جايَّه.. بعد شويَّه.. جايبه لعب وحاجات".
قبر، عميق، يضرب في
الأرض.
ـ"جايبه..
معاها شنطة.. فيها وزَّة وبطَّه.. بتقول واك واك واااك".
هتف
"الجميل" وهو يشتد في الحفر:
ــ واك وااااك.
موتور العربة الفورد
يهدر ناعمًا، مثل نسمة صيف.
مثل هفهة حرير....

إرسال تعليق