U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

القارئ المِثالي والقارئ المِثلي



لا أتمكَّن من القراءة بسرعة، رغم أنَّ الكتاب، أيّ كتاب، لن يخرج عن كلمات تراصَّت لتكوِّن جُملة، وجُملًا اصطفَّت لتبني فقرة، وفقرات توالت لتنشيء فصولًا، وفصولًا تتابعت لتوضِّح فكرة. 

وأتخيَّل أنَّ القارئ المثالي هو من يقرأ الرِّواية كأنَّه يكتبها، منتبهًا إلى كيفيَّات دمج الكلمة بالكلمة، والجملة بأختها، والفقرة بالفقرة، حتَّى تمام فصولها.

كما أتخيَّل أنَّ الرِّوائي المثالي هو من ينجح  في تشتيت انتباه هذا القارئ عن سرّ تراكيب الكتابة، عندما تبلغ تراكيبه من الرَّوعة حدّ خلق أسلوب أخَّاذ، يُصوِّر الحالة الشعوريَّة لأبطال روايته، ظاهرها وباطنها، لتتحوَّل من حالة هلاميَّة متطايرة كالدُّخان داخل وجدانه، كمبدع، إلى صورة ثلاثيَّة الأبعاد تخطف ذهن القارئ فلا يدرك إن كان لا يزال مجرَّد مُتابع للرِّواية أم صار أحد أبطالها المُحرِّكين لأحداثها.

إذًا، قد تكون القراءة الصَّحيحة اشتباكًا سلميًّا عنيفًا بين كاتب يمارس السِّحر وقارئ يسعي لتعلُّمه!

وأظن أنَّ جمجمة القارئ المثالي معبَّأة بعقل مرن، مثل عقل فيلسوف، يحاور ما يقرأ، يستمتع بالاختلاف، يستمرئ المجادلة، لا يخشى الشَّك، يؤمن بأنَّ الأفكار متغيِّرة، وأنَّ القيود، في الأساس، وُضعت لدواجن الحيوانات ولمجرمي البشر، أمَّا سيِّد الحيوانات فيبقى طليق الغاب، والإنسان الحرّ يتمرَّد.  

ربما تمرُّد "آدم" للحظة، عندما أكل ممَّا أُمر بألا يأكل منه، هو الذي منحه الاستخلاف الإلهي على الأرض، وجعله بطلًا لتراجيديا إلهيَّة بالغة العبقريَّة!

سأل "إبراهيم" ربَّه أن يُريَه كيف يُحيي الموتى، فكشف الله خبيئة نفس أبي الأنبياء بأن ردَّ على سؤاله بسؤال: "أو لم تؤمن؟". لم ينكر أبو الذَّبيح وجود شكٍّ "يلعب في عبّه" فقال: "ليطمئنّ قلبي". ومع ذلك لم يعنِّفه الله، لم يعزله عن مقام النبوَّة، لم يقلبه شيطانًا، بل زاد في تكريمه ليكون من نسله كلّ الأنبياء أولي العزم!

كثيرًا ما تصرَّف "ابن الخطَّاب" بما يُمكن وصفه "جلافة" إزاء بعض القضايا الدِّينية، والمجتمعيَّة، في حضور النَّبي الخاتم "محمَّد بن عبدالله"، بل تعرَّض النَّبي نفسه لما يُمكن اعتباره "فظاظة" عُمرية قحُة، حيث جذب ثيابه مرَّة ليمنعه من الصَّلاة على كبير المنافقين، ولامه على خروج أمَّهات المؤمنين من غير حجاب أكثر من مرَّة، وردَّ بشيره عن المسلمين مرَّة أخرى، بل ردّ حدَّ الله في عام الرَّمادة، فلم تنزل فيه الآيات لتوبِّخه، بل وافقته! ولم يلحقه غضبٌ نبويٌّ ماحق، بل كان جزاؤه التَّكريم العليّ، والذِّكر السَّنِيّ، فصار من البديهيَّات اعتقاد  المسلم أنَّه لو قدَّر الله نبيًّا بعد "محمَّد بن عبدالله" فلن يكون سوى "عمر بن الخطَّاب".

لم يلمع فكر فيلسوف ارتضى فكر سابقه، ولم تتقدَّم أمَّة آمنت بالقديم منهاجًا، ولم يتَّصف أحدهم بالعبقريَّة إلَّا لأنَّه ضرب المألوف في مقتل ليطلع على النَّاس بفكرة تشبه أفكار الجنِّ والعفاريت من فرط حداثتها!

الجديد المدهش عادةً مرفوض، إذ أنَّ أكثر من في الأرض قرَّاء "مثليِّين" يتَّبعون غواية الضَّلال، تلك المتمثِّلة في محبَّة الأفكار "الشَّبيهة"، حتَّى لو كانت قديمة آسنة، فهي التي خبروها وعرفوها درجة العشق اللصيق، بينما القليل قرَّاء "مثاليُّون"، يقرأون الكتب والرِّوايات كما يجب أن تُقرأ، بعقول ليِّنة، مسالمة، طيِّعة، مرنة، محاوِرة، قادرة على احتواء الجديد المدهش، المختلف، المستفز عادة.

والرِّوائي المثالي لا يؤمن بفكرته، إذ لو آمن بها تستعبده، بينما يجب أن يكون ربُّها الذي كلّ يومٍ هو في شأن من شؤون التَّأمل والتَّفكير.  

على هذا أخال الرِّوائي المثالي خالقًا، الخلق ألوهيَّة، ليس الخلق دائمًا هو الإيجاد من العدم، فقد قال "القرآن" إنَّ "المسيح" "يخلق من الطِّين كهيئة الطَّير"، يكرِّم الله مخلوقه "آدم" فينسب إلى بعض ذرِّيته صفة الخلق الإلهي، لكن أكثر من في الأرض قرَّاء "مثليِّين" يستعيذون بالله أن يكون الإنسان خالقًا! لأنَّهم لا يقرأون بطيئًا، وإنَّما "كَروَتَه"، وقد وضعوا في عقولهم كاميرات مراقبة، تُمرِّر ما "يماثل" فكرها المبرمج، وتُطلق صفيرًا تحذيريًّا عند اكتشافها للمُختلف فتلفظه دون أي محاولة تفاهم!

مثل هؤلاء القرَّاء ليسو غير لبنات عصريَّة تُضاف إلى بناءٍ رثٍ متهالك، مهما كانت حداثة هذه اللبنات فإنَّ البناء يبقى قديمًا، عتيقًا، تسفي عليه رمال الدُّهور.

لم يتَّفق الإنسان، في كلِّ العالم، على ثابتٍ وحيد، سواء كان هذا الثَّابت عقيدة، أو فكرة، أو أخلاق، أو حتَّى إله، لذلك يُدرك القارئ المثالي ضرورة القراءة بطريقة حرَّة، فالحريَّة هي الأداة الوحيدة الصَّالحة للاستدلال على جودة الكتابة!

الثَّابت الوحيد الذي اتَّفق عليه الإنسان هو ذات الإنسان! إنَّه المرئيُّ والملموس، لا يُأوَّل، ولا يتيه الفكر فيه، إنَّه موجود نصب عيني القارئ المثالي، رمَّانة ميزانه أثناء القراءة، كما كان رمَّانة ميزان الخلق الإلهي.

إذا كانت التَّفرقة بين كيفيَّتي تناول عقلَيْ قارئ "مثالي" وقارئ "مثلي" للكتاب مجهدة نوعًا ما، فإنَّ التَّفرقة بين طريقتي تعبيريهما عن هذا التَّناول عند كليهما سهلة. القارئ "المثالي" يهمّه طريقة بناء الرِّواية، أو الكتاب، يتذوَّق اللغة، يستمتع بالأسلوب، يتأمَّل البناء، الفكرة آخر ما يهتم به، لأنَّها إن جاءت على ما يُوائم عقله فيها ونعمت، وإن لم فهو مستعدّ لمناقشتها، فتجده يسجِّل رأيه جادًّا ثريًّا، يتكلَّم عن عناصر الصَّنعة أولًا، يُحدِّد إلى أي مدى راقته، أو لم ترقه، فيعطي الكتابة مُستحَقَّها، ويعطي الكاتب نصيبه اللازم من الثَّناء عليه، والاعتراف بجميله، فإذا عرَّج على الفكرة التي لا تروقه تناولها باحترام مُبديًا أسباب عدم استقبالها بحفاوة، يناقشها بذكاء. إنَّه قارئ يضع نفسه في مقامها العالي كعنصر يُحقِّق هدف العملية الإبداعية برمِّتها.

أما القارئ "المثلي" فإنَّه يسجِّل رأيه مخنَّثًا مثله، معطوبًا بالميوعة التَّعبيرية، لايتمكَّن من كتابة جملة أدبيَّة نقديَّة ذات مروءة، لا يعرف ما اللغة، ما الأسلوب، ما البناء، جلّ همّه الإساءة للكتاب وكاتبه، فقط لأنَّ الفكرة لم ترقه، إذ جاءت على خلاف الفكرة التي "تُشبهه"، سواء كانت عقائديَّة، أو أيديولوجيَّة، أو مجتمعيَّة، أو أخلاقية، ولأنَّ صراحة التَّعبير الأدبي قد هتكت ستر أخلاقيَّاته المدَّعاة، يأتي اعتراضه، وهو الأخلاقيّ، بألفاظ سوقيَّة قد يستحي دهماء الأمِّيين من التلفُّظ بها! 

الكاتب "المثلي" يكتب ما يوافق هوى القارئ "المثلي"، "طلبت معاهم دين يدّيهم دين"، "طلبت أخلاق يدّيهم أخلاق"، "طلبت سياسة يدّيهم سياسة"، "طلبت حب خدوا حب"، المهم نوال رضا أكبر عدد من القرَّاء، إنَّهم من يشترون نسخ مطبوعته، من يضعونه في قوائم الأكثر مبيعًا نجمًا لامعًا.

القارئ المثالي، الباقي على امتداد الزَّمن، يعرف أنَّ هذا الكاتب المثلي، على الحقيقة، ليس غير فقَّاعة هواء برَّاقة، تنفقئ بسرعة.

لا مصير للفقاقيع غير الانفقاء.

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة