U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "أم ميمي" لبلال فضل

 


مع انتهائي من قراءة رواية "أم ميمي" ترسخ لدي أن لاختيار الكاتب نوع الراوي دور خطير في منح روايته قيمتها السردية المستحقة، وأن هذا الاختيار كاشف أيضا عن النية التي عقدها الكاتب حين شرع في الكتابة: هل سيكتب عملا مؤثِّرا، أم عملا مُتأثرا؛ هل سيكتب عملا نضاليا يستهدف تغيير الواقع، أم عملا مِرآويا يستهدف نقل الواقع.

اختار "بلال فضل"، لروايته "أم ميمي"، الراوي "الأنا"، ليقص الأحداث بضمير "المتكلم".
وكنت أعلنت تحفظي على هذا النوع من الرواة؛ فالراوي المتكلم ـ في الغالب ـ راو غير أمين، يصدقه القراء السذج، أو السمجون، أما القراء المثاليون فلا يستسيغوه مطلقا، إذ كيف يستساغ الإنصات لـ"متكلم" يتكلم عما وقع له ومعه من أحداث طوال الوقت، دون أن يمنح القارئ أي فرصة لمشاركته ولو في التأويل، ولا التعبير بما يخصه كقارئ في قضية الرواية، خصوصا إذا كان الراوي في سطحية راوي "أم ميمي"، الفتى السكندري المراهق ـ لن يعرف القارئ اسمه ـ الذي نجح في الثانوية العامة، ليلقي به مكتب التنسيق في أحد معاهد، أو كليات، جامعة "القاهرة" لدراسة الصحافة. ولأن الشهرية التي خصصتها له والدته العاملة في الخليج! تكفي بالكاد سكنه وطعامه وانتقالاته الداخلية، في حين يهوى مشاهدة السينما، وشراء بعض الكتب والمجلات، ما اضطره للسكن في غرفة حقيرة، داخل شقة ضيقة، صاحبتها الست "أم ميمي"، في شارع دنيء من ناحية "الهرم"، أقرب إلى حارة منه إلى شارع.
"أم ميمي" تخطت الستين سنة من عمرها، أثقلتها أمراض السمنة والضغط والسكر، وكذلك قهر السنين، بسبب زوج قاس وغادر، "الشعراوي"، وابن تافه لا يعتمد عليه، "ميمي"، وابنة متزوجة تجحد أمومتها، "فاتن"، وزوج بنت نذل، "صبحي". ألصقت "أم ميمي" تهمة القوادة بـ"الشعراوي"، فحكت لراوينا عن تأجيره الشقة للراغبين في المتع الجنسية، وفي أثناء تلك الأوقات النجسة يرسل "أم ميمي" وعيالها لقضاء وقت الانتظار على محطة الأتوبيس.
مع الوقت لم تتحمل "أم ميمي" هذا الأمر، فاشتكت زوجها للقضاء، ليُطرد من الشقة، ومن حياتها.
يترعرع "ميمي" في أحضان هذه الأجواء الفاسدة، لا يلتحق بالتعليم، وليعمل حرفيا في إحدى الورش، يدمن شرب الخمر، والمشي البطال، يتكلم بلسان البلطجية، ويسلك سلوكهم، فلا ينطق إلا بكل ما هو بذيء فاحش، وإذا غضب فجر، حتى أنه ذات مرة غضب على أمه، وكانت اتهمت رجولته في إحدى الملاسنات بينهما، فتهجم عليها محاولا اغتصابها ليثبت لها أنه رجل!
في هذه الأجواء، شديدة السمية، عاش الراوي مجهول الاسم.
الرواية انعكاس صادق لأجواء شعبية عشوائية السلوك، عبر راو المفترض به أنه لا يمتلك موهبة الكتابة الأدبية، انتصر له كاتب الرواية، فنقل عنه نقلا أمينا، حتى أوشك على ألا يستخدم أية آلية من آليات السرد الروائي الإبداعي، لتخرج "أم ميمي" حكاية، لا رواية، حيث لا لغة مهندمة أدبيا، ولا أسلوب منمق سرديا، كل ما هنالك تدوين لمردود واقع رديء، يعيشه المصريون من سكان الحواري، لكنها حواري "الهرم" الأحدث معاصرة، المختلفة عن حواري "الجمالية" الأقدم أصالة، حيث "البلطجي" ليس هو "الفتوة" الذي يضبط الموازين لصالح أخلاق الحارة بنبوته الغاشم، ولكنه الفتوة أبو بشلة وسنجة، المتاجر بالأخلاق، يبيعها إذا كان في بيعها مكسب، ويشتريها إذا كان في شرائها مكسب.
فبعد موت "أم ميمي"، يعود "الشعراوي" للسكن في الشقة المكتوبة باسمه أساسا، ويتقرب إلى مراهقنا، الراوي، وقد جاءه من الأخبار الكاذبة ما يفيد بثراء أهل هذا الطالب الذي يشاركه السكن في شقته مستأجرا، فأحسن إليه طمعا في ثراء عائلته، ولأنه حلاق، يرطرط بالكلام، كشف الستر عن حقيقة المجحومة "أم ميمي"، فهي ليست المرأة الطاهرة المزعومة، لكنها من زجت به إلى كار القوادة، رغبة منها في جني المال؛ بل طلبت منه اصطحاب الطفلين إلى محطة الأوتوبيس، وترك تنظيم العمل القوادي في الشقة لها. ليظهر منطق البلطجي المعاصر: غضب "الشعراوي" بشدة، لأن شرفه يأبى عليه السماح لامرأته بمباشرة هذا العمل بنفسها!
ولسنا في حاجة لاستعراض أحداث الرواية، فلا أحداث تستحق العرض على الحقيقة، فجميعها هزل في هزل، وتفاهة فوق تفاهة، وسماجة تحت سماجة، وقدر لا بأس به من الألفاظ شديدة الوساخة، حتى أن الأعضاء الجنسية للرجل والمرأة يذكرها الكاتب، نقلا عن راويه، بمنطوق البلطجية الرعاع معدومي الحياء، وحيث المواقعة الجنسية تذكر بلفظها العامي لمئات المرات داخل رواية عدد صفحاتها 185 صفحة فقط.
وأنا، بصفتي الروائية، لا أومن بما يطلق عليه الأدب النظيف، (والمقصود به: الأدب الخالي من الإيحاءات، أو الألفاظ، الجنسية بأي شكل من الأشكال)، لأن الأدب إذا كان يعبر عن الإنسان، فثلاثة أرباع الإنسان (إن لم يكن أكثر) جنس.
لكن. أي جنس على الأدب أن يكتبه؟ أهو الجنس المؤثِّر، أم المُتأثر؟
أي من الرواة سيتناول الحكاية عن الجنس داخل الرواية؟ أهو راو أديب، أم من عامة البلطجية؟
الأديب مؤثر، ليس مجرد ناقل، إذ ليس في نقل الواقع نقل مسطرة، أو بانعكاس مرآة، أي أدب، مهما سيق من مزاعم ثورية للأدب، ومحاولاته الدؤوب للتخلص من الثيمات المعتادة لصالح ثيمات معاصرة، فلا تعني ثورية الأدب البوهيمية، ولا يعني الانشغال بثيمات جديدة الانفراط قبيحا سطحيا تافها.
إذا كان الراوي سطحيا، كما في رواية "أم ميمي"، بالإضافة إلى قيامه بالرواية عن عالم قبيح، فمن الجرم في حق الأدب أن يسلمه الكاتب أمانة الحكي، بل الراوي "العليم"، الذي بإمكانه فلترة المشهد قبل حكيه، هو الراوي الأصلح لأجواء مثل هذه الرواية.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة