التطاحن، بين الحضارات، يصنع التاريخ، والحضارات تصنعها صراعات الشعوب، والشعوب رغم ذلك، تبقى في ظن حكامها، الطرف الضعيف في معادلة السياسة.
الحكام لا يقرؤون التاريخ، ولو قرؤوه لأدركوا خطأ ما
يظنون.
فالشعوب، غالبا، ما تهب فجأة بعد الصبر الطويل، لتطيح
بتواريخ الاستبداد، ولتضع نقطة في نهاية الجملة الاستبدادية، لتبدأ في كتابة سطر
جديد.
هكذا يُكتب سفر التاريخ!
ولقد وضع المصريون نقطة كبيرة، ورغم ذلك وُجد هناك من لا
يريد لهم أن يبدأوا السطر الجديد، ويقاتل من أجل حصارهم في نفس القفص القديم، ولكن
بمواصفات مغايرة قليلا، ليرضوا بثورة منقوصة!
ولن يرضخ المصريون لخدع جديدة، فهم الأحرار أبدا،
الأعزاء وإن أحاط بهم الذل، الأغنياء بالتعفف وإن عشش بينهم الفقر، حتى إذا وصل
الأمر إلي أن يظن حاكمهم أنه قد استعبدهم، استعادوا روح "أحمد عرابي"،
وهتفوا بنفس حماسه القديم: والله لن نستعبد بعد اليوم، وقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا.
مساء يوم "الأربعاء"، 18 "إبريل"
2012 الميلادي.
كنت جالسا، في إحدى قاعات اتحاد الكتاب المصري، أنتظر
انتهاء أحد الأصدقاء من اجتماع عقده الاتحاد لمناقشة ما جرى في فعالية انعقاد
الجمعية العمومية.
كانت تجلس معي سيدة حسناء، قدمت لي نفسها، الشاعرة
"أميمة إسماعيل"، تكتب القصيدة العامية، قدمت نفسي لها، وبعد جمل
تحاورية قصيرة، وبعض المداعبات لطفلتها الصغيرة، اندفع الحوار في اتجاه الواقع
الذي تعيشه "مصر"، فسمعت منها تصورا مدهشا، مفرط الغرابة بالنسبة لي.
لم يكن المدهش هو اعتقادها بأن "المجلس
العسكري" هو المسؤول عما يحدث في البلد من قلاقل على امتداد عام ونصف، ولا
لأنها تراه يلعب ألعابا سياسية قذرة، بتحالفه مع التيار الإسلامي ضد صالح البلد،
ولا لكونها تعتقد أنه يمارس مهمة معينة لصالح "أمريكا" الساعية لصناعة
"شرق أوسط" جديد.
كان المدهش، جدا، تصورها، الذي تؤمن بصحته إيمانا لا
يتزعزع، أن "المجلس العسكري" هو الذي صنع ثورة 25 "يناير"!
ومع سبق الإصرار، والترصد.
فتحت فمي وأنا أبحلق عيني! فأقصى ما أعرفه عن نبل
"المجلس العسكري" هو حمايته للثورة في مراحلها الأولى، لكن أن يصنعها،
وعن عمد!؟ هذا هو المدهش حقا.
قالت "أميمة"، متحدثة عن نفسها باعتبارها
واحدة من الثوار الذين رابطوا في "التحرير" منذ يوم 28
"يناير" 2011م وحتى جمعة "النصر": كانت غاية أمانينا، كثوار،
تحقيق ثلاثة مطالب:
1 ـ حل "مجلس الشعب" المزور لصالح التوريث.
2 ـ محاكمة "حبيب العادلي"، وزير الداخلية،
والتحقيق معه في جريمة مقتل "خالد سعيد".
3 ـ العمل علي تحقيق العدالة الاجتماعية والعيش بكرامة.
كانت هذه مطالبنا وفقط، وكانت ستبقى هي مطالبنا وفقط،
لولا ما جرى من حوادث تصعيدية، فُرضت علينا.
زررت عيني، ورفعت حاجبي.
قالت: "المجلس العسكري" ضرب الثوار
بـ"القناصة"، وأسقط قتلى، وأشعل الموقف، ليتحول الأمر من مجرد
"مظاهرات" تطالب بمطالب عادية، إلى "ثورة" تطالب بإسقاط
النظام كله.
قلت: لماذا؟! قالت: ليسقط النظام.
قلت: لماذا؟! قالت: الجيش لم يكن راغبا في التوريث، خاصة
لـ"جمال مبارك"، كان "طنطاوي" لا يطيقه، وكان
"جمال" لا يطيق "طنطاوي".
قلت: الانقلاب العسكري كان حلا أقل كلفة!
قالت: ثورة شعبية يحميها الجيش حل أشيك يقبله العالم.
وقالت بأسى: اكتشفت أننا كنا مجرد عرائس
"ماريونيت"، يحركها "المجلس العسكري" بأصابعه، من خلف حجاب.
لم تقدم "أميمة" أدلة قاطعة تثبت صحة تصوراتها
غير "قراءة الواقع"، قالت: الواقع هو الدليل الوحيد حتى الآن.
مالها أصابع الاتهام تتشنج متجهة إلى "المجلس
العسكري"، تكاد تفقأ عينيه؟!
لقد آمنت بـ"الجيش" حاميا للثورة، وفرحت
بـ"المجلس العسكري" وهو يتولي شؤون البلاد، والعباد، في بر
"مصر"، كأول حاكم مؤقت، سيقضي معنا فترة البحث عن الاستقرار بعد الثورة،
ثم يمضي إلى حال سبيله مشكورا، لم أنس
أبدا هذه اللحظة البارقة التي أدى فيها اللواء "الفنجري" التحية
العسكرية لأرواح الشهداء، على شاشات فضائيات العالم، إنها لحظة أدخلت "المجلس
العسكري" إلى قلوبنا مزفوفا كعروس معطرة.
وبدأ "العسكري" العمل، وظهرت الأخطاء، لكن
دائما كان لها عندي التبرير المبني على حسن الظن، "المجلس" عسكري، ليس
سياسيا، وأخطاؤه ليست من هذا النوع المبني على التآمر، وإنما لكونه ليس له في
السياسة! لم أصدق يوما إنه من الممكن أن يتحالف مع أية تيارات لحسابات خاصة به،
خاصة التيار "الإسلامي"! فهذا الأخير دائما التيار المنبوذ في أية ألعاب
سياسية! ثم إن بعض القرارات الجريئة صبت في صالح "المجلس العسكري":
التحول السياسي نحو "إيران" وعبور مدمراتها "قناة السويس".
إجراء المصالحة بين فصيلي المقاومة في "فلسطين"، "فتح"
و"حماس". إتمام صفقة الأسرى الفلسطينيين ومبادلتهم بـ"جلعاد
شاليط". التوجه نحو "أثيوبيا" لحل مشكلة مياه "النيل".
الاعتذار الرسمي الإسرائيلي عن مقتل الجنود المصريين. وأخيرا القبض على
الأميريكيين، التسعة عشر، في قضية التمويل الأجنبي.
أعمال ملفتة في وقت قياسي، ثم العمل المهم، جدا، لبناء
أول مؤسسة، مهمة، في الدولة بعد الثورة، "مجلس الشعب".
لقد أجرى "المجلس العسكري" أول انتخابات نزيهة
في العصر المصري الحديث، وبشهادة العالم، فاكتسح التيار الإسلامي الصناديق، وحصد
أغلب كراسي "البرلمان".
كان هذا مرعبا للتيارات غير الإسلامية، فضجت بالرفض،
وظهر لأول مرة مصطلح "ديكتاتورية الأغلبية"! لكن "التيار
الإسلامي" قرر عدم مناوأة "العسكر"، فـ"العسكر" لم يتدخل
لإقصائه، فلماذا يصبح حجر عثرة في طريق الحاكم "المؤقت"، طالما أنه أظهر
إيمانا نقيا بالله، وهيأ الطريق لشريعته كي تبدأ السيادة، عبر "مجلس
الشعب"!
أتخيل الآن أن "المجلس العسكري" كان يبحث عن
حل لمعضلة حبيسي "طرة"، والمركز الطبي العالمي، وكان يبحث أيضا عن حل
لمأزقه هو شخصيا، الدماء الغزيرة التي سالت في عهده القصير للغاية، مما سيؤدي حتما
لمحاكمته، والحل هو التعامل مع تيار متعقل سياسيا، يؤمن بقيمة الحاكم الذي تجب له
الطاعة، وينزله منزلته الأجل، وسيكون سهلا التفاوض معه من أجل خروج آمن له،
ومستقبل مريح لـ"مبارك"، وزبانيته، بعيدا عن حقول السياسة، وكان ممكنا
للمجلس العسكري أن يحقق مآربه، لولا هذا الطارئ المزعج، أصوات الميدان التي أزعجت
"الإسلاميين" في "مجلس الشعب"، فأجبرتهم على الإنصات، ولأن
الإسلاميين يعرفون، يقينا، أن لهذا الميدان الفضل الأكبر ـ بعد فضل الله ـ في
وجودهم في "مجلس الشعب"، فقد قرروا أن يتحدثوا بلغة الميدان، ولو قليلا،
وكان هذا، بدوره، مزعجا للمجلس العسكري.
"المجلس العسكري" الذي خرج" فجأة"
من بؤرة احتراماتي له، لما أطلق سراح "الأمريكان" بطريقة غامضة، ومهينة
للمصريين.
كانت، هذه العملية، هي المؤشر الحقيقي إلى أن المجلس
يلعب ألعابا غير نظيفة بالمرة، ثم التصرف الأحمق الأخير: السماح لـ"عمر
سليمان" بالترشح لانتخابات الرئاسة!
"عمر سليمان" مهندس العلاقات الخفية،
والمعلنة، مع الكيان الصهيوني، وحليفه "أمريكا"، لصالحهما، بما هو ضار
بكل مصالح "مصر" والوطن العربي.
"عمر سليمان" الذي عمَّر المطبخ الإسرائيلي
بالغاز المصري، الذي يتقاتل المصريون من أجل الحصول عليه في طوابير طويلة.
كان ظهور هذا الوجه مرة أخرى على سطح السياسة المصرية،
بعد الثورة، بمثابة اللطمة التي تلقتها الثورة على وجهها فأفاقت، لتتساءل: ماذا
يريد المجلس العسكري؟
وكانت الإجابة واضحة جدا.
وليس أفضل من الميدان، بعد 25 "يناير"2011م،
للإجابة عن أسئلة يصنعها "الطغاة".
لابد من الحفاظ على الثورة، وتقرير المصير.
مساء يوم "الخميس"، 19 "إبريل" 2012
الميلادي
تجولت في "التحرير"، كان واضحا أن جمعة الغد
ستكون حاشدة، حضور كثيف للناس، باعة جائلون يستعدون للسوق الكبير، هتافات الحناجر
المشحونة بالحماس الغاضب، تردد جملا تحمل كل المطلوب:
قول اتكلم.. السلطة لازم تتسلم.
قول ماتخافشي.. العسكر لازم يمشي.
وجوه ملامحها "إخوانية"، اللحية النابتة بالكاد،
والجبهة الموشاة بذبيبة الصلاة، ونساء محجبات ومنتقبات، ووجوه عادية، تمشي هنا
وهناك، تعلوها الحيرة، وفي الوسع القريب من مسجد "عمر مكرم"، كانت منصات
تُعد لأنصار رجل أكلته أنياب العسكر، قبل أن يفترسهم بأنيابه، الشيخ "حازم
صلاح أبو إسماعيل"، كان الهتاف له بالاسم، فاتضح أن قضيتهم الأساسية ستكون
غدا هي التعبير عن سخطهم من استبعاد العسكر له من سباق الرئاسة بتلفيقة غير بريئة،
هم مؤمنون تماما ببراءة الشيخ من تهمة الجنسية الأمريكية لأمه، رغم الوثائق
الأمريكية الدالة على ذلك، يقولون: لماذا تصدقون "أمريكا"؟
نقول: نحن نصدق الوثائق.
يقولون: الأمريكية؟! ألم تقدم "أمريكا" عددا
لا يحصي من الوثائق الكاذبة التي تثبت وجود أسلحة نووية في "العراق"
لتجعلها حجة لضربه واحتلاله؟
سكتُّ. فالتساؤل في محله. ولأنه من العجيب ألا تعلم دولة
ذات سيادة، أقصد "مصر"، بجنسية أخرى لمواطنة، تعيش داخل حدودها، إلا
بواسطة أوراق الدولة الأخرى، أقصد "أمريكا"!
أنصار "أبو إسماعيل" هم أصحاب اللحى الطويلة،
والشوارب القصيرة، أو المجزوزة، "السلفيون".
وها هي منصة "الألتراس"، أسفل العمارة الضخمة
التي تطل على الجامعة الأمريكية، منصة ضخمة، لا تنافسها في الضخامة سوي منصة
"أبو إسماعيل"، ويتجه إليها الشباب وهم يهتفون: الجدع جدع.. والجبان
جبان.. واحنا يا جدع.. هانموت في الميدان.
القوي المتصارعة تتجمع، لمواجهة قوة وحيدة، محجوبة خلف
الستائر، تريد أن تحركها، بأصابعها، مثلما تحرك عرائس "الماريونيت"!
"الجمعة" 20 "إبريل" 2012م .
عنوانها: "حماية الثورة.. وتقرير المصير".
الساعة الثامنة صباحا، أسير في شارع "عبد الخالق
ثروت" متجها إلى "التحرير"، الشارع هادئ تماما، هاجع، لا سيارات،
لا ناس، "القاهرة" صامتة، سكون الحذر، كأنها تتخوف من القادم، وربما هي
مذهولة من الحدث المؤلم، الذي جرى في غفلة من الشارع المصري، المهموم بالثورة
ونتائجها: زيارة مفتي الديار المصرية، "علي جمعة"،
لـ"إسرائيل"!
انثنيت إلي شارع "شريف"، نفس الهدوء المراوغ،
وقبل أن أصل إلي "باب اللوق" صادفني مخبز إفرنجي، يعد الكحك، والخبز
الفينو، وأشكالا وألوانا من العجائن، اشتريت ثلاث قطع من كحك محشو بالشوكولاتة
والجبن، استعدادا لوقت سأجوع فيه، ولأسعار سياحية يفرضها الباعة الجائلون، الذين
اعتبروا "الميدان" مزارا سياحيا، ومكانا لاستغلال اللحظة الراهنة في
سبيل تحقيق أعلى المكاسب.
مانشيتات الصحف مهتمة تماما بمليونية "تقرير
المصير"، ما عدا صحيفة "التحرير" التي وضعت على رأس مانشيتاتها
خبرا عن زيارة المفتي إلي "إسرائيل".
صحيفة أخرى، لا أذكر اسمها، اهتمت بتطورات إزاحة
"حازم صلاح أبو إسماعيل"، كان مانشيتها الرئيس ينذر بالخطر القادم، خطر
حقيقي بالفعل، أنصار "أبو إسماعيل" سيقدمون له "البيعة" بديلا
عن "الرئاسة"، والبيعة في الإسلام ليست بالأمر الهين، إنها تعني ببساطة
شديدة: "الطاعة"، و"الولاء" لأمير قائد. إنها نقلة سياسية في
الصراع لا أظن أن هناك، من اللاعبين، من كان يحسب حسابها.
ها هي "مصر" ستشهد، قريبا، افتتاح مكتب إرشاد
آخر، إرشاد سلفي.
انثنيت من شارع "شريف" إلى "باب
اللوق"، وبينما أمشى الهوينى علا في ذاكرتي فجأة صوت صديقي "عمرو
رضا"، رئيس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" وقتها، كان محذرا: جهز
رقمي على موبايلك لتتصل بي فورا إذا حدث لك مكروه، أو احتجت لأي شئ، لا تبق في قلب
الميدان، كن دائما على الأطراف لتستطيع التحرك عند حدوث أي طارئ.
ضحكت وأنا أقول له: وصيتي لك إذا أنا استشهدت أن ترسل
مرتبي لأسرتي في "الأقصر".
ضحك: كفاية عليك الجنة، يبقي جنة وفلوس كمان؟!
قلت: الجنة لي، والفلوس للعيال، عشمان أخوك في المائة
ألف جنيه التي قررها مجلس الشعب لأهالي الشهداء، يشبرقو العيال.
كان الشعور العام أن دماءً ستسيل حتما في هذه المليونية،
سيسفكها "المجلس العسكري" بواسطة عرائس "ماريونيت" أخرى،
والهدف تأجيل الانتخابات الرئاسية للاستمتاع بأطول وقت من الحكم، من أجل تحقيق
أكبر قدر من الأهداف غير المعلنة، والخطة سهلة التنفيذ، ها هم كل الفرقاء سيتجمعون
في الميدان، وبعود كبريت صغير، من فتنة نتنة ضئيلة، تشتعل النار.
من "باب اللوق" استطعت أن أرى
"التحرير"، وبالاقتراب كان السكون ينمحي، ويدخل الضجيج نشطا إلى طبلتي
أذني، ثم تظهر خيام المعتصمين الثائرين، وناس كثيرون يتحركون مثل النمل.
لقد امتلأ الميدان والساعة لم تتجاوز الثامنة والنصف،
صباحا، بعد!
وعلى حافة "التحرير" تفجر الضجيج، وصوت
"عبد الباسط عبد الصمد" يلعلع بالقرآن الكريم: "يا أخت هارون ما
كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا".
الزحام، والميدان حقل غاية في الاتساع زُرع بالمنصات،
والمنصات طارحة لافتات، ولافتات تعلقت بواجهات العمائر، وعلى تعريشات من عروق
الخشب أعدت، خصيصا، لهذا الأمر.
اللافتات هي أهم ما في "الميدان"، لأنها الصوت
الإعلامي للثوار، الصوت الوحيد الصادق، يحمل مطالبهم، وسخريتهم، ووعيدهم.
"الميدان" أجمل بالثوار، وأبهج باللافتات
الملونة مثل زهور الربيع، والشمس تشرق حارة، تنذر بنهار ساخن.
كل إعلام غير اللافتات كاذب بالنسبة للثوار، بل ومأجور.
واحد حمل لافتة صغيرة: احذروا الإعلام الكاذب.
وآخر يهتف فيردد الآخرون: يا إعلام بتكدب ليه؟
"أمريكا" دفعت واللا إيه؟!
والإعلام، حتما، ضمن المنظومة الباطلة! فلقد أخذ أحد
الثوار يهتف باسم معين، فتردد المجموعة كلمة "باطل".
ـ "المشير" / باطل... "سامي عنان" /
باطل... "عمر سليمان" / باطل... "أحمد شفيق" / باطل...
"عمرو موسى" / باطل... "الإعلام" / باطل...
"الفراعين" / باطل... "البي البي سي" / باطل".
من الأفضل، كثيرا، أن أترك اللافتات تتحدث عن فحواها من
غير تدخل مني، ليعرف القاريء، من غير توجيه، ماذا يطلب "الميدان".
* لافتة لـ"حزب العمل الجديد": صورتان
لـ"أحمد شفيق"، وعمرو موسى" يدخن السيجار مبتسما كتب بينهما: لا
لترشيح الفلول.. لا للمادة 28.
* لافتة أخرى لنفس الحزب: لا للمادة 28 التي تبيح تزوير
الانتخابات.
* معا لحماية الثورة.. معا لتطهير البلاد من الفلول.
* معا لحماية الثورة.. تسليم السلطة 30
"يونيو".
* انتخابات رئاسية حرة ونزيهة.
* انتخابات رئاسية حرة ونزيهة.. الشعب لن يسمح برئيس من
الفلول.
* لا لمرشحي النظام البائد.
* لافتة لـ"الجبهة السلفية" يظهر فيها
"عمرو موسى" ضاحكا: وزير خارجية "مبارك" لن يحكم
"مصر".
* ولنفس الجبهة أيضا: يسقط يسقط حكم العسكر.
* "مبارك" على السرير وأذنابه في التزوير.
* لافتة تحمل صورتي "شفيق" و"موسي":
لا للفلول.
* ولـ"الجماعة الإسلامية" عدة لافتات: لا
للفلول.. لا لاستبعاد المرشحين الإسلاميين.. نعم لتعديل المادة 28.
* ولنفس الجماعة: نريد لجنة انتخابية نزيهة تشرِّف
القضاء.
* ولها أيضا لافتة فيها صور لأعضاء اللجنة الانتخابية
كتب عليها: كلاب "مبارك". لجنة التزوير الرئاسية.
* نفس الجماعة: ملاعين "مبارك".. لجنة التزوير
الرئاسية.
* حركة "6 أبريل": دستور "مصر" لكل
المصريين.
* وللحركة أيضا: الدين لله.. والوطن للجميع.
* وأخرى: لا لهيمنة أي تيار على الوطن.
* ولـ"جماعة الجهاد والتحالف الثوري الحر"
لافتة يظهر فيها "عمر سليمان" و"أحمد شفيق" مكتوب بجوارهما:
لا لأكابر مجرميها.
* لنفس الجماعة.. وبجوار نفس الصور: لا لحراس التخلف
والديكتاتورية والسلب والنهب.
* أيضا، وبنفس الصور: لا لكلاب العهد البائد.
* ثورة الكرامة.. سنحطم القيود.. يريدون اغتيال أحلام
الجيل القادم.. كما اغتالوا أحلام الجيل السابق.. ولكننا أبينا إلا أن نحيا كراما.
* لافتة لـ"الثوار المسلمين".. مطالبنا: حل
لجنة العار الرئاسية.. وتشكيل لجنة قضاة محترمين.. رفع الحصانة عن اللجنة العليا
للانتخابات.. إلغاء المادة 28.. استكمال قانون عزل الفلول.
* "الجبهة السلفية": يسقط يسقط حكم العسكر.
* لافتة تحمل مطالب ما أسمته بـ"الثورة
الثانية": إسقاط حكم "المجلس العسكري" ومحاكمة أعضائه على ما
ارتكبوه من جرائم.. إسقاط لجنة الانتخابات ومحاكمة أعضائها لضلوعهم في التزوير..
إسقاط حكومة "الجنزوري".. تكليف مجلسي "الشعب"،
و"الشورى"، بتشكيل حكومة ثورة مؤقتة لحين إجراء انتخابات الرئاسة في
موعدها.
* لافتة تحمل أدلة عدم وجود جنسية أمريكية لوالدة الشيخ
"حازم صلاح أبو إسماعيل": قرار محكمة "مجلس الدولة" بعدم وجود
أي جنسية أخرى لها سوى الجنسية المصرية..
شهادة "وزارة الداخلية" بأنها لا تحمل سوي الجنسية المصرية.. عدم
وجود أي مستند صحيح يعتد به يدل على إنها تحمل الجنسية الأمريكية.. أقسم الشيخ
"حازم"، ثلاث مرات، أمام المحكمة، واللجنة العليا للانتخابات، ومجموعة
من العلماء والمشايخ.
ها هو التيار "الإسلامي" يطلب، في هذه الجمعة،
ما أنكره على الثوريين منذ أقل من بضعة شهور، إسقاط حكم العسكر، ومحاكمة المجلس
العسكري، والخلاص من حكومة "الجنزوري".
وآآآه يا زمان المحن، كأسك دوار، والطعم مرار!
منصة "الأولتراس" قاعدة لإطلاق الأغاني
الوطنية، وهتافات الاحتجاجات المتقطعة، وقفت أستمع لـ"عبد الحليم حافظ"،
وهو بغني "صورة "، بينما أنظر للوحة رسمت من غير عناية: خريطة
"مصر" مرسومة بثلاث كلمات.. "مصر"، "مسلم"،
"مسيحي"، تلتقي في نهر النيل، بفرعيه، بحرف الميم.
وفي خلفية المنصة لوحة ضخمة بعرضها، تحمل كلمة واحدة
تمثل التحدي الأعظم: "مستمرووون".
وعندما استدار رأسي إلى اليمين قليلا، اصطدمت عيناي
بلوحة رسمها فنان ثائر على جدار "الجامعة الأمريكية": وجه واحد يتكون من
شطرين، الأيمن نصف وجه "مبارك"، والأيسر نصف وجه "طنطاوي".
الصورة بارعة الدلالة، حتي إنها لا تحتاج إلى أي تعليق.
وعندما نظرت إلى أعلى، لأخطف نظرة ناحية الكاميرات
المثبتة في الشرفات العالية، تنقل ما يحدث في "التحرير" إلى كل أنحاء
الأرض، لفت نظري مشهد بدا غير ذي صلة بكل ما يحدث: امرأة، في إحدى هذه الشرفات
العالية، تنظف "درابزين" البلكونة، وتنفض التراب عن جهاز التكييف، غير
مهتمة حتى بالنظر إلى ما يجري تحتها.
ربما هي الوحيدة التي ليست عروسة "ماريونيت"!
"الكاريكاتور"، هذه المرة، سلاح إسلامي، في يد
أنصار الشيخ "حازم صلاح أبو إسماعيل"، وكانت الرسومات رشيقة جدا، ودالة
على ما يريدون طرحه، وهو الطرح المتفق عليه بين كل الأطياف الثورية وقتها.
كاريكاتور لجندى يبتسم بمكر، وهو يحمل طفلا صغيرا كُتب
على صدره 25 "يناير"، يصوب إليه مسدسه قائلا: نفسك في إيه قبل ما اضرب؟
كاريكاتور لمدرعة، يبرز من برجها جندي، يصوب رشاشه ناحية
شاب بسيط، يحمل علم "مصر".
كاريكاتور للواء "الفنجري" وقد سحب جانبي
بذلته العسكرية ليظهر صدره مرسوما عليه صورا لـ"مبارك"،
و"موسى"، و"شفيق"، ويقول: أنا بحب الفلول.
كاريكاتور للمشير، وهو يلعب مع "مصر" لعبة
مصارعة الذراعين، وفي خلفية الصورة "أوباما"، و"نتنياهو"،
يشجعان "المشير".
كاريكاتور لعلبة سجائر، رُسم عليها "عمرو
موسى" يدخن السيجار، وكُتب بجواره: الفلول ضارة جدا بالصحة.. وتقتل الثورة.
كاريكاتور للمشير وهو يستحم باستمتاع في بانيو مليئ
بالدماء، وقد كتب تحت الصورة: يا مشير اتلم اتلم.. واللا عايزها بركة دم.
كاريكاتور لـ"طنطاوي"، أيضا، وهو يؤدي التحية
العسكرية لعلم مزدوج، أمريكي إسرائيلي، قائلا: كله تمام.. وفي انتظار تعليمات جديدة.
عندما اقترب منتصف النهار، كان الميدان قد اكتظ تماما
بالثوار، انطلقت إلى كوبري "قصر النيل"، كانت الوفود، زرافات، تترى على
جانبيه، وأسدا الكوبري الشهيران قد تم تغطيتهما ببلاستيك أخضر.
انطلقت إلى "ماسبيرو"، ربما يكون هناك
متظاهرون، فقوبلت بمئات المتظاهرين القادمين من محافظات الشمال، أوتوبيسات، وميني
باصات، وميكروباصات، بالعشرات، "المنوفية"، و"الشرقية"،
و"الدقهلية"، و"الغربية"، "الإسكندرية"،
و"دمياط"، جحافل البشر تروح إلى "التحرير" من ناحية "عبد
المنعم رياض"، محافظات "الصعيد" كان لها تمثيل أيضا، وفود من
"سوهاج"، و"أسيوط"، و"قنا"، و"أسوان"،
رأيت وفدا من "الفيوم".
الهتافات تتصاعد في سماء ملأتها الغيوم فجأة، الشمس
استحت من أن تلهب المتظاهرين فاختبأت خلف غيم لا ينقطع.
"يسقط يسقط حكم العسكر.. مصر دولة مش معسكر".
"بسم الله الملك الحق.. جينا نقول للظالم لأ".
عدت إلى "التحرير" بعد انتهاء صلاة الجمعة،
الطبول تدق دقات الغضب، قرعها يرج القلوب، وتهتف الحناجر: عسكر يحكم تاني ليه؟
ورثتونا واللا إيه؟!
الزحام، وثمة خطاط انهمك في كتابة جملة بيضاء كبيرة على
الأسفلت: اللي هرب الخواجات.. هيزور الانتخابات.
وموكب الدمايطة يصرخ: مسلم.. مسيحي.. إيد واحدة.
وتهتف لافتاتهم: كفنا وشايلينه على إيدينا.. عشان
"مصر" الغالية علينا.
المليونية احتدمت، وتشابكت مكبرات الصوت في كل الأنحاء،
ما عدا منصة وحيدة أصرت على الصمت التام، واكتفت باللافتات، منصة "6
أبريل"، وعندما سألتهم عن السبب، قال أحدهم: المسألة موش هيصة وخلاص.. الكل
عايز يتكلم.. يتكلموا.. إحنا هانسكت.. هانكتفي بالسماع.
رأيت "علي أبو شارب"، مهووس الثورة، الذي
يرتدي، ويتطربش، علم "مصر"، ويحمل لافتة يطالب محتواها ببناء
"مصر" على أساسين من علم وأخلاق، قال لي إن حفيده "أحمد
عاطر"، الذي يبلغ من العمر تسع سنوات، طالبه من "الإمارات" بأن
يشارك في الثورة، وألا يترك "التحرير" أبدا، ثم سألني : هوا انت صحفي؟
قلت: نعم. قال متعجبا: طيب ما صورتنيش ليه؟!
هتافات تمرق بجوار الأذن كصاعقة: المحاكمة المحاكمة..
العصابة لسه حاكمة.
وبينما يمرق أمامي أحد المشايخ الأزهريين بلباسه المميز،
أسرعت إليه وسألته: ما رأيك في زيارة المفتي لإسرائيل؟
تريث قليلا قبل أن يقول وهو يرفع صوته: تصرف فردي لا
يمثل "الأزهر".. لكنه تصرف خاطئ.
اتفق أكثر من عشرة من المشايخ الأزهريين، الذين تمكنت من
سؤالهم، على خطأ ما أقدم عليه المفتي، واختلفت التبريرات، لكن أبرزها كان هذا
التبرير: ماذا تنتظر من مفت عيَّنه "مبارك"؟!
كانت لمصلحة الضرائب منصة! يهتفون برفض حكم العسكر
لمصلحة الضرائب، في إشارة إلى "منيرة القاضي"، زوجة "طنطاوي"،
وقد علقوا خلفهم قائمة سوداء بأسماء كبار الموظفين الفاسدين في الوزارة.
وكانت هناك لافتة لما يسمى بـ"الجبهة الشعبية
لاستعادة أم الرشراش (إيلات)"، تذكرنا بمرور 63 سنة على احتلال "أم
الرشراش"، وتنبه إلى خطورة بقائها في يد "إسرائيل" على الأمن
القومي المصري، والعربي، والإسلامي، فهناك نشاط ملحوظ للغواصات النووية الإسرائيلية
"الدولفين".
ولم يعد بإمكانية أحد التحرك داخل الميدان، لقد صار
مليون آدمي قطعة لحم بشرية عملاقة، ترتعش بالغضب.
وتعبت، فالساعة الآن الثانية بعد الظهر، سأذهب لآخذ دشا
وأعود.
قابلتني في شارع "طلعت حرب" أطول مسيرة
رأيتها، تتجه إلي الميدان، كانت لنقابة الدعاة، مضموما إليها تيارات شبابية أخرى،
مسيرة بطول الشارع تقريبا، أين سيذهبون؟ ليس في الميدان متسع!
واغرورقت عيناي بالدموع، كانت المسيرة تشبه تلك المسيرة
التي مضت زاحفة في شوارع "الأقصر" في جمعة "الغضب"، أمشي فيها
وقلبي يأكلني على ولدي "محمد"، الذي يمشي في المقدمة، نصرخ : الشعب
يريد.. إسقاط النظام.
تخرج أصواتنا مثل وحش هصور، يريد أكل سنوات الذل والخسة،
خرجنا لنصنع أجمل ملحمة إنسانية، ولنحقق أعظم رواية أدبية، لنموت وقد ذقنا طعما
للحرية في وطن نملكه، وطننا.
رن هاتفي، إنه "محمد" ولدي يهاتفني من
"الأقصر": أيوه يا بابا، إنت في "التحرير"؟
لا أعرف إن كنت أجبت على "محمد" أم لا، كنت
مشتغلا في التفكير عن إجابة هذا السؤال: هل كنا في الثمانية عشر يوما، أيام العزة
والكرامة، عرائس "ماريونيت" فعلا؟!
عموما، هاهي عرائس "الماريونيت" قد اعتصمت في
ميدان "التحرير"، لا تحركها أصابع ما، وإنما تحركها روح حية، روح الرغبة
في تقرير مصيرها بنفسها، روحها المستعادة من فم الظلم، في رأيي، الذي لن أحيد عنه
أبدا، الشعوب ليست دمي للعب، وإنما هي مكونات حضارية بالغة الحكمة، ترقب حكامها
بعيون الفلاسفة، وتتعامل معهم بقلوب الأنبياء، حتى إذا ما رأتهم يتجهون إلى رسم
تاريخ قبيح لا يليق بالإنسانية، أزاحتهم من على المسرح، مثلما تهش سيدة بيت قروي
بعض دجاجها العابث.

إرسال تعليق