U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "حفلة التيس" لماريو بارجاس يوسا

 



رواية وَاقعيَّة كتبها المبدع البيروفي "ماريو بارجاس يوسا".

تتناول أحداثها مقطعًا من التَّاريخ القريب لجمهورية "الدُّومينيكان"؛ وهو المقطع الذي يَعجّ بالدِّيكتاتوريَّة الأعتى والأنكى من أَيّ دِيكتاتوريَّة تَعرضَّت لها تلك الدُّويلة الصَّغيرة في البحر "الكاريبي" على مدى تاريخها القصير.

وقد امتد، ذلك المقطع الاستبدَاديّ، لفترة زَمنيَّة تجاوزت الثَّلاثين سنة، من 1930 وحتَّى 1961، وهي الفترة التي قبض فيها العَسكريّ "تروخييو"، وكان قد تم تدريبه في "المارينز" الأَمريكيّ! على زمام الأمور السِّياسيَّة في "الدُّومينيكان" بعد تَقلُّبات عديدة بين اضطرابات وتناحرات دَاخليَّة واحتلال خَارجيّ مُسلَّح من طرف الجارة اللصيقة "هايتي" تَارَّة، أو الجارة البعيدة "الولايات المُتَّحدة الأَمريكيَّة" تَارَّة أخرى.

وإذا كانت رواية "في 1984"، وهي دُرَّة ما كتبه المبدع البِريطانيّ "جورج أورويل"، قد ألقت الضَّوء على ممارسات مراقبة رؤوس الحزب الحاكم الدَّقيقة لأعضاء الحزب الحاكم! والتَّشديد عليهم درجة وضع شاشات متابعة في بيت ومكتب كًلّ منهم! واعتبار أَيّ محاولة عَقليَّة لأحدهم من أجل التَّساؤل والفهم اعتراضًا على إجراء ما من إجراءات حزبهم "جريمة فكر" لا يمكن التَّغاضي عنها أوغفرانها، ومن ثَمَّ القبض على مرتكبها، وإخضاعه للتَّعذيب إلى أن يبدي النَّدم معلنًا التَّطهُّر من جريمته الفِكريَّة قبل الإجهاز عليه! دون التَّطرُّق لسيرة، أو تَصرُّفات، "الأخ الكبير" قائد الحزب والدَّولة، ما يجعل هذا "الأخ الكبير" طوال الرِّواية مُجرَّد صورة مفزعة تنتشر على الجدران. فإنَّ رواية "حفلة التَّيس" لم تهتم بشيء، في أَيّ زاوية منها، اهتمامها بسبر أغوار "الأخ الدُّومينيكانيّ الكبير" المُسمَّى "تروخييو". صاحب الألقاب الدِّيكتاتوريَّة العديدة، والتي منها: "الزَّعيم". و"أبو الوطن". و"المُنعم". وتعامله مع رؤوس حزبه الحاكم بجبروت الاستبداد! والاقتراب الرِّوائيّ الحَميميّ منه إلى حَدّ الاشتباك مع شهواته الجِنسيَّة! ومرضه بالسَّيلان، وقد كان أصيب به في أخريات حياته، قبل أن يلقى مصرعه، في السَّبعين من عمره، مُثقَّبًا بالرَّصاص في عَمليَّة اغتيال جرى تنفيذها دون دِقَّة مع ذلك كُتب لها النَّجاح!

سُردت حكاية الرِّواية في 24 فصلًا غير معنون. بِغَزْلٍ كَلاسيكيّ سهل. حيث تبدأ "أوريانا"، ابنة رئيس مجلس الشُّيوخ المغضوب عليه "أوغسطين كابرال"، بسرد الفصل الأَوَّل منها، قبل أن يقوم الرَّواي العليم بسرد الفصل التَّالي، وهكذا دواليك، فيما عدا استثناءات، إلى انتهاء الرِّواية بالفصل الأخير الذي تحكيه "أوريانا". ورغم كَلاسيكيَّة التَّرتيب السَّرديّ للفصول....

لكن.. كيف يمكن معرفة إن كان ترتيب فصول رواية ما كَلاسيكيًّا من عدمه؟

يمكن معرفة هذا بإجراء بسيط؛ انزع الفصول المُوزَّعة على مدى الرِّواية التي تقرأها، والتي يحكيها بطل بعينه، أو التي يحكيها الرَّاوي العليم بخصوص بطل بعينه، ثَمَّ أعد تَرتيبها ترتيبًا متواليًا، فإذا وجدتها حكت قِصَّة متكاملة مكتفية بذاتها فاعلم أنَّ ترتيب فصول هذه الرِّواية ترتيب كَلاسيكيّ. وخلاف ذلك خلاف ذلك.

لكن مع كِلاسيكيَّة ترتيب فصول "حفلة التَّيس" تبقى لعبة "يوسا" الأزهر، والألمع، والأبدع، في داخل سرد كُلّ فصل على حده؛ إذ اعتمد طريقة "التَّضفير"، أو "النسج"، في سرد وقائع الفصل. حيث تتداخل الأزمنة، أو تتقاطع، دونما تحذير بفواصل أو علامات ترقيم. وأظُنّها الطَّريقة السَّردية الأفضل، مع إجهادها للقارئ المبتدئ، التي يمكنها منح أكبر قدر من الحَيويَّة لبناء الرِّواية السَّرديّ، والتي تنجح دائمًا في فرض الانتباه واليقظة على القارئ.

من بين أَهمّ ما قالته رواية "حفلة التَّيس" إنَّ الدِّيكتاتور يعشق التَّلاعب برجال السُّلطة دونه، حتَّى أنَّه يلعب بهم لعب القِطّ بالجرذان، مستهدفًا العمل على تطويعهم نهائيًا له شَخصيًّا، لا لوطن أو لأي فكرة سامية أخرى. الدِّيكتاتور يتعامل مع البلد بأكمله تعامله مع كتيبة، أو لواء، أو فرقة عَسكريَّة، فما يشغله على الدَّوام هو طابور النَّظافة اليَوميّ، وتَعدُّد الإنشاءات، دونما أدنى اهتمام بالتَّكوين الإنسَانيّ للجُنديّ ذاته، والذي يقابله المواطن؛ بل كُلّما كان الجُنديّ / المواطن أجهل كان أطوع.وعلى هذا يُرتِّب الدِّيكتاتور طوائف الشَّعب من حيث الأَهميَّة؛ فقد كان "تروخييو" يرى أنَّ في جُمهوريَّة "الدُّومينيكان" يأتي العَسكريُّون أَوَّلًا، ثُمّ عُمَّال مصانع القصب، ثُمَّ أصحاب المهن الأخرى والتُّجار، ثُمَّ القسسة والكهنة، وأخيرًا المُثقَّفون!

كان "يوسا" بارعًا، للغاية، أثناء حبكه لأحداث هذه الرِّواية؛ فهو يلقي مسمارًا سَرديًّا صغيرًا هنا، يَمرّ القارئ عليه دون التفات إليه، فإذا بهذا المسمار التَّافه يُفجِّر مشكلة كبيرة في مستقبل الرِّواية. فلا يجد القارئ، لحظتها، بُدًّا من أن يفغر فاهه متسائلًا باندهاش لذيذ: يا ربي! كيف لم أنتبه لهذا المسمار من قبل؟!

لكن على بداعة "حفلة التَّيس" فقد تَعرَّضت لأربعة مآزق:

أَوَّلها: وهو أَقلّها أَهميَّة: السَّهو. فلطالما أَكَّد "يوسا" على أنَّ السَّياَّرة التي يَستقلّها "تروخييو" إلى بيت "كاوبا"، حيث يمارس ألعابه الجِنسيَّة، هي شيفورليه "زرقاء". وهي نفسها السَّيَّارة الشِّيفروليه "الزَّرقاء" التي تتَبَّعها المتآمرون إلى أن نجحوا في اغتياله داخلها. لكن "يوسا" يذكر، لمَرَّة واحدة، أثناء التَّحقيقات، أنَّها السَّيَّارة الشِّيفروليه "السَّوداء".

المأزق الثَّاني: وهو الأخطر، والذي أَثَّر تأثيرًا واضحًا في التَّكوين الجمالي لهذه الرِّواية البديعة، هذا الاستطراد في الحكي عن الدُّكتور "بلاجير"، الرَّئيس الدُّمية، بعد انتهاء حياة "تروخييو". فـ"حفلة التَّيس" رواية عن دِيكتاتوريَّة "تروخييو"، لا عن تَحوُّلات "بلاغير"! خَاصَّة وأنَّ الدكتور "بلاجير" تمتع بشَخصيَّة مُركَّبة تَستحقّ بالفعل رواية أخرى تُكتب عنها خِصِّيصًا، لا مُجرَّد فصل إضَافيّ افتقد لرصانة وتؤدة الحكي التي تمتعت بهما باقي فصول "حفلة التَّيس"، ليصير السَّرد، في هذا الفصل الزَّائد، سردًا تَقريريًّا صَحافيًّا لا مُبرِّر له، وبلغة تَوصيليَّة لاهثة.

المأزق الثَّالث: النِّهاية الباهتة! فعلى طول الرِّواية كان واضحًا أنَّ "بارجاس يوسا" يكتب وهو يعي تمامًا أنَّه يكتب لقارئ ذَكيّ. مع ذلك جاء الفصل الأخير مشحونًا بالجمل الكاشفة، حَدّ الخطابة. وكان "يوسا"، فيما يبدو لي، قد أَخَّر ترتيب هذا الفصل، والذي كان يحسن تقديمه، لإلقاء قنبلة أخيرة، حيث سيَتمّ فيه الكشف عن البنت التي عجز الزَّعيم جِنسيًّا بقبالتها. لكن "يوسا" ألقى قنبلته وهو مجهد من تأثير الإسهاب في فصل الدُّكتور "بلاجير"، ما أصاب القارئ بالإجهاد أيضًا، ما كان نتيجيته أنَّ القنبلة انفجرت لكن دون تحقيق الدَّويّ المقصود.

المأزق الرَّابع: التَّعامل السَّطحي مع المسألة الجِنسيَّة. واعتبار كُلّ رجل شغوف بممارسة الجنس ليس غير ساع لتأكيد فحولته. فـ"تروخييو"، حسب مفهوم "حفلة التَّيس"، يذهب للفراش كي يثبت لنفسه أنَّه، رغم شيخوخته ومرضه بتَضخُّم البروستاتا، ما زال فحلًا قادرًا على إمتاع السَّيِّدات والعذارى. حتَّى أنَّه عندما أصيب بالعجز مع "أوريانا" أجهش بالبكاء! وهي نظرة مُسطَّحة في التَّعامل الرِّوائي مع الجنس. أريد بها إسقاط فَجّ الوضوح، قبدا إسقاطًا ساقطًا، لأنَّ الدِّيكتاتور، الذي يمارس جنس الظُّلم مع جميع شعبه بكُلّ الأوضاع لن يمارس الجنس لمُجرَّد إثبات فحولته، وإذا فشل مع واحدة فقد نجح، وسينجح، مع مئات أخريات، فلم البكاء!؟

مع ذلك. تبقى رائعة "حفلة التَّيس" واحدة من أبدع الرِّوايات التي استمتعت بقرائها، والتي ستبقى محفوظة في ذاكرة الإبداع الإنسَانيّ العظيم.            

        

  

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة