في رواية "التَّابع"، للمِصريّ "أحمد عبدالمجيد"، ثَمَّة
نهر يفصل بين الأرض العامرة بالقرى والنَّاس، وبكُلّ ما هو سائد مألوف، والأرض
الخلاء الخاوية من الحياة، المُعبَّأة بالمجهول المخيف، لا يصل إليها إِلَّا
الموتى. مع ذلك فإنَّ أحدهم، فور ارتكابه جريمة إبادة جَماعيَّة في حَقّ أهل
قريته، دفاعًا عن معتقد يؤمن به، ولا يؤمنون به، يضع زوجته وحفيدته في قارب حميه
الهالك مع الهالكين، يُجدِّف بهما إلى أرض الخلاء. ويصل جميعهم بسلام.
هناك غابة في أرض الخلاء، في قلبها كوخ مهجور، اتَّخذته الأسرة الهاربة بيتًا
لهم، ليعيش الجميع يقتاتون على ما أخذ الجَدّ يزرعه من حبوب، وما تربيه زوجته من
دواجن.
كان الجَدُّ مترعًا بهَمٍّ إيمَانيٍّ كبير؛ إنَّه "التَّابع" الرَّئيس
لشَخصيَّة مُقدَّسة تدعى بالـ"مُعتِق"، كثيرًا ما دعت النَّاس إلى ما
فيه خيرهم وسعادتهم، قبل أن تغيب دونما سبب مفهوم، فيتصارع بعده عدد من الأتباع
على أَهليَّة حمل إرثه المُقدَّس؛ ليجد، هذا الجَدّ، نفسه مهزومًا. نُبِذ فيما تَقدَّم
آخر إلى مَحلّ القداسة. هذا تحديدًا ما دفع به إلى وضع السُّمَّ في بئر القرية
ليقتل الجميع، بينهم ولده الوحيد، ثُمَّ
يهرب من جريمته بزوجته وحفيدته إلى أرض الخلاء.
تَمرّ الأَيَّام. وفيما يَمرّ على ضَفَّة النَّهر يجد جسدًا منهكًا مُبتلُّا،
خارج للتَّوّ من النَّهر. عندما يقلبه على ظهره يفاجأ بأنَّه "المُعتِق"
نفسه! لكنَّه أصغر كثيرًا مِمَّا كان عليه. كما أنَّه كان فاقدًا للذَّاكرة! حتَّى
أنَّه لم يكن يدري أنَّه "المُعتِق" المُقدَّس. هكذا يحمله الجَدّ إلى
كوخه ناويًا حقنه بجميع أفكاره وتعاليمه التي كان يُوجِّه النَّاس إلى تفعيلها.
لكن. وليضمن بقاء المُعتِق، عندما سأل الأخير عَمَّن يكون، دَسّ الحقيقة في غياهب
الكذب، وأخبره بأنَّه حفيده. وبأنَّه نام لثلاثين سنة قبل أن يستيقظ أخيرًا. على
هذا يعيش المُعتِق في الكوخ مع الحفيدة "شادية"، على أنَّها بنت عمه.
وحتَّى يضمن الجَدُّ سيطرة تَامَّة على المُعتِق يؤكد له على أن خارج الكوخ لا
يوجد سوى الغيلان، جمع "غول"، التي تتَربَّص به لتقتله. وكي يُرسِّخ هذا
الادِّعاء تَنكَّر في زِيّ "غول"، ليهاجمه عندما جرؤ مَرَّة على الخروج
من الكوخ؛ بل هاجمه مَرَّة أخرى أثناء إطلالة له من النَّافذة!
لكن "شادية"، التي تعرف الحقيقة، وقد غمرها هوى المُعتِق فعشقته،
تبدأ في إزاحة الأكاذيب عن عقله، ليدور صراعان؛ أحدهما ذِهنيّ، في عقل المُعتِق،
بين مَحبَّته وإيمانه بجَدِّه، المزعوم، وعشقه لـ"شادية". والآخر اجتمَاعيّ،
في الكوخ، بين الجَدّ وحفيدته السَّاعية بإصرار إلى تحرير المُعتِق! ينتهي الصِّراعان
بطرد "شادية" إلى الغابة. وبهروب المُعتِق من الجَدّ، إلى الغابة أيضًا،
بحثًا عن حبيبته.
لطالما أُغرِم الجَدُّ بالتَّدوين؛ وفيما يأمر حفيده، المزعوم، بكتابة جميع
ما يُعلِّمه إِيَّاه في كتاب "أبيض"، فيُنفِّذ الأمر مضافًا إليه تدوين
مشاعره الخَاصَّة في كتاب "أحمر"، فإنَّ الجَدَّ كان قد دَوَّن كُلَّ
شيء منذ البداية في كتاب "أسود" أخفاه على طول السِّنين. مع ذلك فإنَّ "شادية"،
المُتمرِّدة، انتبهت لوجود هذا الكتاب السِّريّ، ونَبَّهت المُعتِق لوجوده ككتاب
سيعرف بقراءته كُلَّ الحقيقة. لهذا حرص على سرقته قبل الهروب إلى الغابة.
يسقط المُعتِق في حفرة عميقة، يلتوي كاحله فيعجز عن الحركة، يبدأ في قراءة
الكتاب، وعندما ينتهي منه يكون قد اكتشف المخبوء الصَّادم؛ لا الجَدّ جَدّه، ولا "شادية"
ابنة عَمِّه، ولا هو يشعر بِأنَّه مُعتِق مُقدَّس! لهول المفاجأة يغيب عن الوعي
لدقائق، قبل أن يستفيق ناسيًا كُلَّ شيء! الجَدّ، والجَدَّة، و"شادية"،
والكتاب.
هنالك تتَولَّاه ما أطلق عليه الكاتب "مواليد النُّور"، وهي
مواليد تنمو وتترعرع في أرض الخلاء المرعبة! فتعيده إلى ذاته، ليتَذكَّر الجَدَّ،
والكوخ، وشادية، وجميع ما جرى. ثُمَّ أخيرُا يعثر على "شادية"، وقد سقطت
في نفس الحفرة التي كان سقط فيها! وبعد الملام والعتاب حصل الوصل الرُّوحيّ
والوصال الجَسديّ.
استفاقا بصوت طلقات رصاص؛ هرولا ناحية كوخ الجَدِّ القريب! ليجداه ملقى على
ظهره فيما تَجمَّعت حوله الذِّئاب، وقد قنص أحدها رقبته فأردياه، مع زوجته، صريعًا.
يسكن المُعتِق و"شادية" الكوخ. تصير الأخيرة حبلى.
يستشعر المُعتِق أنَّ جميع ما حوله في أرض الخلاء جميل. وأنَّها ليست أرض
الرُّعب والموتى كما يفهم أهل الضفَّة الأخرى من النَّهر. تستيقظ روحه المُحبِّة
لكُلّ النَّاس، ربما روحه المُقدَّسة كمُعتِق حَقيقيّ، فيُقرِّر ترك زوجته الحبلى، بعد أن أوصى بها
كائنات الغابة، والسِّباحة إلى تلك الضِّفة، ودعوة النَّاس إلى خيرهم في أرض
مواليد النُّور.
لم يكتب "عبدالمجيد" روايته على هذا النَّسق المُسترسل، المتتابع،
الكَلاسيكيّ، بل انحاز إلى نسق الإلغاز، لتفجير التَّشويق النَّاجم عن التَّغميض.
وقد كتبها بلغة جزلة. بديعة. غير أنَّ بعضًا من الكُتَّاب إذا لمس في نفسه القدرة
على الكتابة بلغة بديعة، جزلة، أسكره هذا اللمس، ما يؤدي به، في أحايين كثيرة، إلى
الإطناب، والإسهاب. فيكتب فقرات كاملة، من بضع سطور، واصفًا شعورًا، أو مُثبتًا
حالة، لا يحتاج وصفه، أو إثباتها، لأكثر من جملة واحدة، ما يُؤدِّي حتمًا إلى تَرهُّل
الأسلوب، لينتهي الأمر بالرِّواية عذراء فاتنة الجمال، لكنَّها بالغة البدانة.
وإذا كنتُ قرأتُ لـ"عبد المجيد" روايتين فأزعم أنَّه، حتَّى
الآن، أحد هؤلاء الكُتَّاب.
وقد سبق لي وصف روايته الأشهر "ترنيمة سلام"، في أكثر من موضع،
بـ"العبيطة"؛ والسَّبب أنَّ "عبدالمجيد" رِوائيٌّ صاحب مشروع،
مهموم به، هو "السَّلام النَفسيّ للإنسان". وأن يكون للرِّوائيّ مِنَّا
مشروع فهذا أمر رائع، لكن أن يغويه مشروعه لدرجة الدَّفع به لتصوير شَخصيَّاته في
أوضاع سلام نَفسيّ "أوفر!"، سلام نَفسيّ ممحون، فهذا هو الوجه السَّالب
للمشروع الرِّوائي.
إنَّ من المُستفزّ اهتمام المُعتِق بنملة اهتمامًا مبالغًا فيه! أو يحتضن
فرخ طائر بأكثر مِمَّا قد تحتضنه أُمُّه! أو يحاول إطعام الذِّئب بحَبَّة جَوَّافة!
وهكذا، ساطرًا المقاطع الطَّويلة في وصف مشاعر فوق طَبيعيَّة لدرجة الشُّذوذ.
صدق الإحساس بالمشهد، بينما يكتبه الرِّوائيُّ، أمر لا مَفرّ منه لكتابة
رواية حَقيقيَّة. ولقد صدق إحساس "عبدالمجيد" في معظم نواحي
"التَّابع"، غير أنَّ إحساسه غدر به في عِدَّة مشاهد؛ منها: أن يظَلّ
فرخ الطَّير نائمًا باطمئنان فيما يلقي القرد بأغصان الشَّجر إلى عمق الحفرة التي
سقط فيها المُعتِق بصحبة فرخه. ما يضطرّه إلى إيقاظه كي يطعمه! أو أن يصف جسد
"شادية" بالبَضّ، مع أنَّها مُطارَدة هاربة، سقطت في قعر حفرة ليس فيها
طعام ولا شراب! وهكذا..
نحن الرِّوائيّون تشغلنا نهايات رواياتنا أَيَّما انشغال؛ حتَّى أنَّ
الواحد منا يسأل نفسه: كيف أنهي روايتي نهاية تأخذ بألباب قُرَّائي؟ لا بُدَّ من
أن تكون نهاية مفاجئة؟
ـ لكن ماذا لو أنَّ الحالة الرِّوائيَّة لا تستلزم نهاية مفاجئة؟
لتذهب الحالة الرِّوائيَّة إلى الجحيم.
المُهمّ: إبهار القارئ بنهاية غير متوقعة.
مهما كانت نهاية غير مناسبة، أو لائقة.
"التَّابع" هي الرِّواية الأحدث في مشروع "أحمد
عبدالمجيد"، وأَظنّها أنضج رواياته.
إرسال تعليق