U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

جثة عذراء عاشقة


 


 

تكون العاصفة، والريح العاتية، وجدران البيوت ترتج وتتخبط، والهواء يزمجر فيقلع القلوب، والكهرباء تنقطع، ويسود الظلام، والبلد ريفيَّة، بذهاب الكهرباء يتبدَّى لها وجه موحش، خاصة أنه ليس هناك قمر، ولا سماء صافية يتسلَّل منها نور النجوم الشاحب، في وسط هذا الجو الذي لا تتحرك فيه إلا العفاريت الزُرق، أتحرك أنا! وخلفي رفيقي! وقد وضعنا أقنعة شفَّافة على رؤوسنا، وأيادينا تتحسَّس الخناجر والسكاكين حول خصرينا، وأقدامنا تتحسَّس الطريق الماكر في ليالي العواصف.

 

    هذا أنسب وقت لتنفيذ جريمة قتل، منتصف ليلة عاصفة، حيث ضوضاء الريح تصم الآذان التي من الممكن أن تكون متيقِّظة في مثل هذا الوقت، وحيث الضَّحية تكون في كامل رعبها، هذا الرعب الذي يشل حركتها تمامًا لتصير هدفًا غاية في السهولة لِنِصَال مطاوينا وسكاكيننا، لينتشلها الموت بعد ذلك، ويلقى بها فى عالمه.

 

   البيت يقترب، الظلام والمطر، وأنا أنظر بقوة للبيت الذي يقترب، البيت يقترب مهتزَّا، يقترب، البيت دبَّت فيه الحياة!؟ البيت يتحوَّل من وضع الجلوس إلى وضع الوقوف، تعملق، بابه صار على ارتفاع مترين، المشكلة ليست في ارتفاع البيت فقط، لكن في ذراعيه اللتين يطوِّحهما يمينًا وشمالاً كأحسن ما يكون لاعب الجودو، فجأة أتلقَّى لكزة في كتفي من رفيقي، يسقط على أثرها البيت جالسًا مرَّة أخرى، هادئًا، مستكينًا، داعيًا لي أن أدخل أنا ورفيقي، أمد يدي إلى الأُكرة وقد وضعت في ذهني أنها لن تدور، ولن تفتح الباب، فمن ذا الذي يصل غباؤه لدرجة تَرْك باب بيته مفتوحًا في ليلة مثل هذه؟! لكن الأُكرة دارت! وفُتح الباب ببساطة شديدة، إذن هي الأقدار تمهِّد لنا طريق القتل، تمهِّده تمامًا تمامًا.

 

     الباب ينفتح فجأة، يَصِر، يضيع صريره في خبط الريح، ندخل الرَّدهة أنا ورفيقي، العتمة، لكن شعاعًا من ضوء أصفر خافت ينسل مهتزَّا من أسفل باب الغرفة اليمنى الدَّاخلية، إذن ضحيَّتنا هناك، توجَّهنا إلى الباب بخطى خفيفة، خطى واثقة، خطى غير خائفة من اكتشاف أمرها الآن، فحتى لو اصطدمت أقدامنا بإبريق نحاسي وصدر عنه صوت مزعج فما الذي سيحدث؟ ليس أكثر من أن الضَّحية ستنكمش أكثر إثر رعب أقوى، وسيكون يسيرًا جدَّا بعد ذلك أن نغرس نِصَال المطاوي والسكاكين في جسدها المنكمش عدة مرَّات.

 

  أنا أفتح باب الغرفة! أنا!؟ تمامًا مثلما جرؤت وفتحت باب البيت الخارجي، أدخل، أرى السيدة العجوز منكمشة في سريرها، ورغم الإنارة الضَّعيفة، الصَّادرة من شمعة مريضة، إلا أنَّني أتمكن من رؤية عينيها، بالتحديد رؤية نظراتها، نظرات مقتولة، نظرات تدعوك برعبها لكي تقتلها: "اقتلني.. اقتلني". لكن همسًا يتغلَّب بضعفه على ضجيج العاصفة: "حرام عليكم.. سيبونى في حالي". هذا الهمس صار أنينًا، ثم خوارًا، ثم عواءً ونباحًا، لقد كانت تتوسَّل كي نتركها في سلام، في نفس الوقت كانت نظراتها تدعونا لقتلها! كم طعنة؟ لا أعرف. أين؟ في صدرها أم في رقبتها أم في بطنها؟ لا أعرف. ربما خمسين طعنة في كل هذه المناطق، لكن المؤكد أنَّنا دفعنا بها لتعبر الخط الفاصل ما بين الحياة والموت.

 

 لم يكن الجو عاصفًا، بل رائعًا جدًا، ولم يكن الوقت ليلاً، بل نهارًا، فى عزِّ النهار، الشمس في سُرَّة السماء، تتوهَّج فيتفحَّم الهواء، وأنا واقف على شط الترعة، أرقب الجثَّة الطَّافية على وجه الماء الرَّاكد، الجثَّة داخل جوال أو ملاءة، مقلوبة على بطنها، ظهرها يبدو واضحا، بداية من كتفيها وحتى ردفيها، أما رأسها وساقاها فقد غطسا تحت الماء، واضح أن الجثَّة لعذراء شقراء بعينين خضراوين، وجميلة، وحسناء، ورقيقة، وذات ميوعة، وصاحبة دلال، هذا ما تفشيه الجثَّة، أو بالأدق التقاطيع الطَّافية من الجثَّة، الظَّهر والأرداف والخصر، الظَّهر منساب وغير عريض كرقبة حمامة بيضاء، والخصر يَتخفَّض وينضم ليصير دقيقًا مثل منقار عصفور، والأرداف مليئة ومتينة ومستديرة مثل إوزتين، وأعرض من الظهر، وأعلى ما بدا من تضاريس الجثَّة، إذًا لماذا تخيَّلتها امرأة عجوزًا أدخل بيتها في ليلة عاصفة وأقتلها بخمسين طعنة؟! لأنه هكذا يليق بالجريمة المرعبة، أن تكون الضَّحية عجوزًا بوجه مُكَرْمَش مفزع، لكن حسناء شابة! كيف يمكن قتل حسناء شابة؟! كيف يمكن أن نطلق على عملية سَحْب روح حسناء شابة عملية قتل؟! كيف يمكن أن يكون سَحْب روح حسناء شابة مرعبا؟! يجب ألا نسمِّى عملية سَحْب روح عذراء شابة عملية قتل، لأن القتل سببه الكُرْه، المقت، الحقد، الطمع، أما أرواح العذارى الصغيرات فإنها تُسْحَب دائما بسبب الحب، وأنا أحببتها، فما المطلوب منِّى فعله عندما أرى فتاتي تضحك لغيري؟! بالتحديد لرجل غيري، ما هو المطلوب منِّي وأنا أراها لا تكتفي بالضحك، وإنما تغمز له بعينيها، ولا تكتفي بالغمز فتقابله، وتقابله في بيته! وتحضنه! و و و.. و.. تنام.. معه.. في فراش واحد.. في فراش.. واااااحد.. عـَ.. عَـ.. عـَ.. عا.. ر.. ية! من هذا السَّافل الذي يمكن أن يقول لي: "أنت أخطأت بقتلها". فأنا لم أقتلها، لأن القتل عاقبته الموت، والمحب لا يُميت حبيبه، أنا فقط سحبت روحها، سحبتها لتتخلص من إثمها، لتطوف حولي بعد ذلك طاهرة، لتتخلص من الدَّناءة والحقارة والخسَّة والنَّذالة، من الخيانة، لتبقى بعد ذلك صافية وعذبة، شفيفة، سَحبت روحها بسبب الحب، وليس من سبب غير الحب يمكن للرجل أن يسحب بسببه روح عذراء صغيرة، لأنه غير معقول أن يقدم رجل عاقل على سَحْب روح ابنته لأنها مثلا رسبت في امتحان! أو لأنها لم تستطع الالتحاق بوظيفة، أو لأنها لا تجيد أعمال المطبخ، أو لأنها عملت جدالاً وتعاركت مع أمِّها، لكن الرجل العاقل يسحب روح ابنته فقط إذا هي وقعت في الغواية، لأنها ستصبح ببطن يتورَّم حتى يخنقه بين شِقَّي العار، وليس من بعد العار سبب أوجه لسحب الرُّوح، ومن يشفق على بنت تضع رأس أبيها في الطين هو مجنون، أو بالأحري ديوس، فالرجل الحُر حتما يؤيِّد سحب روح العذراء العاشقة، العشق قاتل العذارى، ساحب أرواحهن المنيرة، أرواحهن الرقيقة، أرواحهن التي تتصاعد في السماء راقصة على أنغام القلوب التي تضخ آخر دمائها.

 

    ليس بالأمر المرعب أن تسحب روح عذراء عاشقة، لأنه إذا كان سبب رَوَاح روحها هو الحب، فان الدَّافع هو الانتقام، والمنتقم مملوء بقوَّة رهيبة، قوَّة عمياء، قوَّة لا تري الدِّماء المتدفِّقة من قطع في الرَّقبة، أو في البطن، أو في الصَّدر، ولا تشم رائحتها الحارَّة، ولا تستشعر خلجات ذهاب الرُّوح التي تلوى ملامح الوجه فتجعله مرعبًا، بل اللَّذة هي ما يجدها ساحب روح العذراء، لذَّة خروج هذه القوَّة الغريبة، التي عندما تفقدها أجساد العذارى، تفقد معها ما يجعلها مثيرة للغيرة، أو ناكئة للشرف، لذلك يكون سحب روح عذراء عاشقة لذيذًا، وغاية في اللَّذة، وها هي في التِّرعة جثَّة عذراء داخل جوال أو ملاءة، تطفو لتعلن أن رجلاً ما قد تلذَّذ بهذا الفعل منذ أيام.

 

ها هي الجثَّة طافية، واضحة، بيِّنة، لا أحد من الناس يقف لينظر إليها، إن الفلاحين يمرُّون على شط الترعة فلا يزيدون علي أن يلمحوها بأطراف أعينهم ثم يمضوا وكأنَّهم لم يَرَوْا جثَّة عذراء شقراء عاشقة، ها هي جثَّة عذراء شقراء عاشقة طافية علي سطح الماء، حدث غير عادي، حدث مُبهر، مُصعق، مُرعد، لكن النَّخيل واقفة في أماكنها تهز شواشيها ريحٌ ضجرة من قسوة الحرارة، الزروع تقف في استكانة، ماء الترعة نفسه راكد ركوده المعتاد، الطريق ممتدة كما هي عليه، البيوت متناثرة بين الحقول، ثغاء ماعز يتمطَّع في ظلال أماكن لا أراها، لا شيء غير عادي يمكن القول أنه وُجد لوجود شيء غير عادي، فما العمل الآن؟ ما العمل؟ يجب إخراج جثَّة العذراء العاشقة من ماء الترعة الرَّاكد ودفنها، هذا حقها، سترها عن العيون الخبيثة التي تتمنَّي الوقوف للفُرْجة وهتك السَّتر، لكنها تتحاشى ذلك خوفًا من السين والجيم البوليسية، ودفنها حق للبشريَّة أيضا، فهذا جسد بشرى ملقى في الماء بجوار أجساد منتفخة لجاموس وحمير وكلاب وأرانب ودجاج، جسد بشرى كما يُصان في الحياة بين جدران بيت يجب أن يُصان في الموت بين جدران قبر، لكن دفن الجثَّة الآن سوف يُهدر حق الروح، حقها في أن يُعرف من الذي سحبها، من الذي في سبيل تلذُّذه أوقع عليها آلام السحب التي لا تُطاق، ودفنها سيهدر أيضًا حق العدل، لذلك لن ادفن الجثَّة وسأبلغ البوليس.

 

 

    أحببت أن أتأكد من أنَّني أرى جثَّة فعلاً، فربما عوامل الحر والزهق والملل من حياة الرَّتابة، أو من رتابة الحياة، قد أوهمتني بأن هناك جديدًا، أن هناك جثَّة عذراء شقراء خضراوية العينين عاشقة، بدا لي رجل يتقدَّم راكبًا كومة بوص موضوعة علي حمار زهقان مثلي، انتظرته حتى رَمَق الجثَّة بنظرة جانبية، ثم انتظرته حتى وصل إليَّ، لم يلق أية تحيَّات، لأنَّه بالتأكيد اعتقد إنني ضابط شرطة يحوِّم حول المكان، وضبَّاط الشرطة في الأرياف قُوَي عليا سماويَّة يجب المرور بجوارها، إذا حدث، أن يكون مرورًا صامتًا، خاشعًا، فيه كل معاني التَّبجيل والتَّقديس، ولقد بجَّلني الرجل وقدَّسني، لكنى سألته سؤالاً أبلهًا : "مش دي جثة برضه يا حاج؟". فنظر الحاج إلى المكان الذي أُشير إليه، وملأ عينيه بالنَّظر إلى الجثَّة وقال: "فين؟". قلت بحرارة: "هناك أهي. وسط جثث البقر والجاموس". فقال مُستَعبِطًا: "دي؟ لا لا، دي رِمَّه، تلاقيها نعجه ميته وملفوفه في شوال، سلامو عليكم".

لقد تأكدت أنها جثَّة، طريقة نظر هذا البني آدم، وطريقة استعباطه تؤكدان أنها جثَّة آدمية، وأنا متأكد أنها جثَّة آدمية لعذراء عاشقة، ثم من هذا الفلاَّح الذي يهتم بوضع نعجة ميتة في جوال ليضيف إلى خسارته الفادحة في نعجته خسارة جوال!

  

قررت الإبلاغ عن وجود جثَّة، والإبلاغ يكون للشرطة، والشُّرطة مهيبة، والإقدام عليها حتى وإن كان مشاركة في إرساء دعائم الأمن والأمان يحتاج إلى أن تفكِّر عشرات المرات، وسأفكِّر بالفعل عشرات المرات، هناك في بيت عمى الذي ننزل عنده ضيافة سنوية من أجل الاستمتاع بالرِّيف، وفي البيت قلت إنني عثرت على جثَّة في الترعة وأريد الإبلاغ عنها، وفي البيت قالو لي متعجِّبين: "يا راجل! لقيتها فين؟!". قلت: "عند تاني كوبري بعد كوبري نجع أبو ليله". فقالوا وهم يمصمصون شفاههم: "من خمسطاشر يوم كانت عند كوبري أبو الدهب". صُعقت جدَّا، صُعقت، جثَّة آدمية تسبح في ترعة تمر بين عشرات البيوت وآلاف البشر منذ خمسة عشر يومًا! جثَّة آدميَّة تسبح في ترعة منذ خمسة عشر يومًا! جثَّة لطيفة لعذراء عاشقة ملقاة في ترعة وتسبح على وجه الماء منذ خمسة عشر يومًا! لا، هذا ليس أوان الإبلاغ إذًا، هذا أوان النَّحيب والعَدِيد، هذا أوان تمزيق هدومى، يجب أن أنوح فورا.

 

 يا جثًّة العذراء العاشقة، تَحَيْوَنَت الإنسانيَّة، فَطُفْتِ هائمة على أسطح المياه الرَّاكدة، تلسعك شمس ظهيرتنا، وتكونين في الليالي وحيدة، لا ونيس غير نباح الكلاب التي من فضل الله لم تعرف مكانك بعد، وإلا كانت قد نهشتك، تعتليك الضَّفادع والفئران، وحشرات الماء، كأنَّك لم تكوني يومًا حيَّة جميلة، تغتسلين بالماء الدَّافئ، وتدعكين كَعْبَيْ قدميك بِحَجر الحُكَّان ليصيرا تفَّاحتين، كأنَّك لم تنثرى البارفانات على هذا الجَّسد المتعفِّن الآن، كأنك لم تُرجفي قلوبا بالحبِّ لو رأتك الآن لارتجفت بالرُّعب، وكأنَّ نهديك المهترئين الآن لم يتخيَّلهما شاب في يوم من الأيَّام بين يديه يعصرهما ليلعق من حلمتيهما عسل العشق، يا جثَّة العذراء العاشقة، الناس خافوا من الشرطة فأنكروا في ذواتهم أنك موجودة، خافوا من السين والجيم، خافوا من البَهْدَلَة، خافوا فتركوك هائمة كسائحة، تندفعين وقتما يندفع الماء، وتسكنين وقتما يسكن الماء، وفي كل مكان تركدين فيه تبحثين عن منقذ فلا تجدين، إلاَّ حيوانات إنسيَّة تركب حيوانات بهيميَّة، وتدب في طرق غبراء ملتوية.

 

- عمي.. سوف أبلغ الشرطة.

- يا ابن أخي.. "أشرف" بيه "عبد الله" مأمور مركز "جهينة" يعرف أن هناك جثة.

- عمى.. هذا غير معقول!

- هاهاها.. يا بن أخي.. أنت قارئ وما أنا بقارئ.. أنت مثقَّف وما أنا بمثقَّف.. لكنِّي أعرف أكثر منك أن هذا هو زمن المستحيلات الثَّلاثة.

- لكن يا عمي.. المستحيلات الثَّلاثة هي الغول والعنقاء و....

- والضَّابط الوفي.. يا ابن أخي خُذ القصَّة واذهب لتنام.. الجثَّة كانت على كومة بوص أمام أحد البيوت، فلما عثر عليها صاحب البيت أبلغ الخفير، والخفير أبلغ المركز، والمركز أبلغ الضَّابط، والضَّابط "أشرف" بيه "عبد الله" سأل الخفير في التليفون: "هل هي جثَّة لأحد من أهالي القرية؟". فأجاب الخفير: "لا يا فندم". فسأله مرَّة أخرى: "ولا لأحد من أهالي المنطقة؟". فقال الخفير: "لا لا يا فندم". فأمر الضَّابط الخفير بإلقاء الجثَّة في الترعة. يا بن أخي.. الجثَّة في الترعة بأمر من الشُّرطة.

 

  أنام في السَّرير ولا أنام، أقصد أقول أتمدَّد على السَّرير ولا أنعس، لأنني أفكر في ما الذي يجب علىَّ فعله الآن؟ هل يجب علىَّ الإبلاغ لضابط أُبلغ من قبل ويهرب من مسؤوليَّته؟ أم يجب علىَّ دفن الجثَّة حتَّى لا تبقى أكثر من ذلك عُرضة للمهانة؟ الإبلاغ خطر، فمثل هذا الضَّابط قد يعتقد أنني أتحدَّي رغبته في ترك هذا الأمر، فيتعسَّف معي ويرميني في غرف الحجز وحجرات السجون، وقد يدبِّس لي تهمة مخدرات، أو تهمة إرهاب في ظل الأحكام العرفية التي تحرس هذا البلد الآمن! إذن الإبلاغ حماقة، لكن هل تبقى الجثَّة الجميلة الرَّقيقة مرتعًا للهوام الطيَّارة والسَّابحة؟ هل تبقى راكدة بين جثث حيوانات وطيوركأنها لم تكن فى سالف الأيام في مثل هذا الوقت من الليل تنام في فراش وثير، وتتغطَّى بملاءة قطنيَّة رهيفة ورديَّة اللون، مرسوم عليها طاووس بذيل ملوَّن؟ إذًا الذي يجب فعله الآن هو دفنها، نعم دفنها، لترتاح هي وأرتاح أنا وترتاح الإنسانيِّة من مثل هذا الوضع الكئيب، لكن هكذا سيرتاح أيضا آخرون ليس لهم الحق أبدا في هذه الراحة، أولهم هذا الذي تلذَّذ بسحب روحها وقتما كانت هي تموت بالألم، والثَّاني هذا الـ"أشرف" بيه "عبد الله"، الضَّابط المحب للرَّاحة في كرسيِّه الوثير، والعاشق للمنظرة في المكتب، وفي ساحة المركز، وفي الطُّرقات، وحتَّي في بيوت الناس، وسيرتاح هؤلاء الناس السوائم، الخراف الفزعة، الفئران المذعورة، الذين يرون جثَّة لعذراء رقيقة حلوة عاشقة في ترعة تركد منذ خمسة عشر يومًا، ولا يجرؤون بالإبلاغ هلعًا وفرقًا، أنا أعرف أنَّني خائف مثلهم، أنا سائمة مثلهم، أنا خروف مثلهم، خروف فزع، أنا فأر مذعور، أنا لن أدفنها، لن أدفنها لتبقي شوكة في جنب البشر، لتبقي وصمة في جبين الشُّرطة، ولتبقي علامة دالَّة على عدم رجولة كل من رآها ولم يبلغ عن وجودها، وأنا واحد منهم، هه.

 

   ثلاثة أيَّام أخري مضت، ثلاثة نهارات وثلاث ليالي، وجثَّة العذراء العاشقة الرَّقيقة ثابتة في مكانها، لا تتحرَّك، حتَّي قيد أنملة، الماء راكد تمامًا، وكل الجثث حولها واقفة، كأن كل الجثث تشاركها حالة المأتم، وكأن كل الجثث وقفت لتفتح أعينها، وتحدِّق ناحية بلادنا وتصرخ: "أنتم يا سكني هذه البلاد لستم بشرا، والذكور فيكم ليسوا رجالاً، نحن هنا في المستنقع الآسن نركد، نرقد، نخجل من موتنا، يا سكني البلاد الهشة، إننا لا نطمع في الكشف عمَّن سلبنا أرواحنا، نطمع فقط في أن تدفنوننا، خبِّئونا، يا من أمنتم فجبنتم، يا من أحببتم السَّلام فقتلكم الخوف، يا سكَّان هذه البلاد الصريعة، يا موتي، يااا موتي، ياااا موتي".

آاااااه يا قلبي المضطرم بالنَّار المتأجِّجة، ألم تكن هناك جثَّة واحدة فقط؟! جثَّة واحدة، فمن أين جاءت كل هذه الجثث؟!

مئات من جثث العذراوات العاشقات الرَّقيقات، كلها تتشابه، كلها منكفأة، كلها تصرخ في نحيب وعواء وخوار وصرير ونقيق ونباح وهسيس: "يا موتي، ياااا موتي، يااااا موتي".

وأنا لن أدفنكن يا عذراواتي المسحوبات الأرواح قبل أن أعرف من الذي عذَّبكن، ليتعذَّب مثل عذابكن، لن أدفنكن قبل أن أجبر "أشرف" بيه "عبد الله" مأمور مركز "جهينة" على أن يحترمكن، ويتحرَّك بنفسه ليعرف الأسرار التي تختبئ خلف جثثكن.

 

 - ألو.. السنترال؟.. لو سمحت من فضلك.. ممكن تدِّيني نمرة تليفون نقطة شرطة "الطليحات"؟.. أيوه.. نقطة شرطة "الطليحات"؟ سعادتك الباشا الظَّابط؟.. أُمَّال البيه سعادة الباشا الظَّابط راح فين؟! أيوه حاجه مهمه طبعا.. عايز ابلغ عن وجود جُثه.. أيوه جُثه.. في الترعه عند نجع "ابو ليله".. أيوه ترعة كوم "بدر" الشرقيه.. إيه؟! أبلغ مركز "جهينه"!؟ اشمعني يا باشا؟.. يعني في الحاجات دي مركز "جهينه" هوا الأساس؟.. ماشي.. طيب.. حاضر.. شكرا جزيلا...

 

   أَضع السماعة، قلبي يشتط، لقد غلبت خوفي، هزمت جبني، واتصلت بالنقطة، وأبلغت عن وجود جثَّة "رباب"، صحيح أن تصرُّف نقطة شرطة "الطُّلَيْحَات" يثير الغيظ عندما لا تقوم هي بتولِّي الأمر وإبلاغ المركز، وتجعلني أنا موظَّفًا بوليسيًا يقوم بالإبلاغ بدلا عنها، إلا أنني فرح جدًا بشجاعتي، يا سلاااام يا جثَّة العذراء الرقيقة " رباب "، الكل يخاف منك، حتى الشُّرطة!

 

أرفع السماعة: ألو.. أيوه يا سنترال.. لو تكرَّمت من فضلك.. نمرة مركز شرطة "جهينه".. ما قولتلك يا سنترال عندي جثه.. أيوه.. مركز شرطة "جهينه"؟ عايز ابلِّغ عن وجود جثه.. ماشي.. أنا معاك على الخط أهو.

لا تتقافز يا قلبي، إهدأ، الست تسكن صدر واحد من بني آدم يملأ الدنيا بصراخه المطالب بأن يكون الإنسان شجاعًا؟!  ألَّا يصمت علي خطأ، ولا يستكين لظروفه. ـ أيوه يا فندم.. "أشرف" بيه معايا؟ أنا يا فندم عايز أبلِّغ سيادتك عن وجود جثه اّدميه مَحْطُوطَه في شوال ومَرْمِيَّه في ترعة كوم "بدر" الشرقية بعد الكوبرى التَّاني في نجع "ابو ليله".. أيوه يا فندم الكوبرى التَّاني.. معقوله يا فندم؟! ماشى يا فندم.. تأمر حضرتك.. حاضر.. حا...

أضع السماعة.

 

الجثَّة فى حدود مركز "طهطا"، وليس مركز "جهينة"، وقال لي "أشرف" بيه "عبد الله" إن الأفضل هو تبرُّع أحد ما بدفنها، لأن مركز "طهطا" سيترك الجثة في الترعة حتى تجرى المياه، وتخرج الجثَّة من حدوده، وهكذا ستظل الجثَّة فى المياه حتَّى تتآكل وتختفي.

سأدفنها أنا، نعم، أنا أدفنها، لكن آااااه، تذكرت، الترعة لم تعد فيها جثَّة "رباب" فقط، الترعة مليئة بالجثث، كيف أدفن كل هذه الجثث وحدي؟!

 

ـ ألو.. أنا اّسف علي الإزعاج يا "أشرف" بيه.. آه آه.. طيب وصَّلني لو سمحت بـ"أشرف" بيه.. قولُّه يا سيدي اللي بلغك من لحظه عن وجود جثه.. أيوه يا "أشرف" بيه.. انا نسيت اقول لعظمتك إن الترعه اتملت جثث.. مش عارف ازاى.. بس أهي اتملت.. أيوا والله العظيم اتملت جثث.. إيه؟! أدفنهم! أدفنهم كلهم!؟ إزاى؟! الظَّاهر سيادتك مش مصدق.. بقول لحضرتك الترعه كلها من أولها لآخرها اتملت جثث مالهاش حصر ولا عد.. دولا بِيكْتَرو.. يا فندم كل دقيقة بتمر بيزيدو.. مش بعيد يكونو دلوقتي فاضو على شط الترعه وبيزحفو على الغيطان.. إيه؟! أدفنهم.. إزاى؟! يا بني آدم افهم.. أنا مش هاقدر ادفن غير جثِّة "رباب".. لازم انتو تيجو تلحقو البلد.. لو استنيتو نص ساعه كمان الجثث حتملى البلد.. يا جدع افهم.. افهم.. أيوه بزعق.. اُمَّال اعملك ايه؟ أدفن الجثث دي كلها ازاى؟! دا دولا.. أنا سامع صوت زحفهم أهه.. الظَّاهر دخلو البلد.. الحقنا يا "أشرف" بيه.. بقولك الحقنا.

وضعت السماعة بعنف شديد.

 

  للحقيقة عندما مشيت في شوارع البلد لم أر جثثا في أجولتها تزحف على بطونها بعيون جامدة، لم أر جثثا غير هذه الجثث التي نألفها ونعيش معها، ونشتري منها ونبيع لها، وعندما خرجت من البلد متجهًا للترعة، حيث مكان جثَّة العذراء العاشقة، مررت بالطَّبع على الحقول، ولم أر أيضًا غير هذه الجثث التي تزرع الحقول وتحصد الزروع وتربِّي المواشى وتذبحها، آااه يا عقلي الذي تبخر!

***

  

يا جثَّة "رباب" العزيزة، ها أنا فعلت كل ما أمكنني فعله من أجل أن أُعذِّب هذا المجرم، الذي سلب روحك وعذَّبك، وأخذ من رقبتك سلسلتك الذهبية المحفور فيها اسمي، سلسلتك التي اتحسَّسُها الآن فتسيح دموعي، كاد نصل المطواة أن يمزِّقها، لولا أنني انتبهت لوجودها حول رقبتك، لقد أبلغت الشرطة، لكن على ما يبدو ليس هناك أمل في العثور على من سحب روحك السَّاطعة، وليس أمامي الآن سوى أن أخرجك من الماء الراكد، وأغسِّلك بماء رائق، وألُفُّك في قماش أبيض ناصع البياض، وأنتقي لك مكانًا قصيَّا أسفل جذع نخلة فارعة، لأحفر لك قبرا يليق بجمالك، وبصبرك على سحب روحك، وعلى بقائك طوال ما يقرب من شهر هائمة سائمة تحت حر الشمس وفي فزعة الليل.

***

 

     شمس الصعيد أذابت عقولكم يا أولاد الكلب! الرِّيح المتفحِّمة رَكَّمَت هبابها علي بصائركم فلم تعد تري، يا أولاد الكلب تريدون الضحك علىَّ! السُّخرية مني! إنها جثَّة العذراء العاشقة، والله العظيم جثَّة العذراء الرقيقة التي أحبتني وأحببتها، وليست أبدا جثَّة رجل، وهذا العضو المهترئ بين ساقيها أنتم ركَّبتموه كي توهمونني أنها جثَّة رجل، إنها يا أولاد الكلب جثة "رباب" العذراء العاشقة الرَّقيقة، واتركوني الآن أحفر قبرا يليق بها، وإياكم أن تعطِّلونني.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة