U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

أساس الالتباس


 تجديد الخطاب الدِّيني.

ثلاث كلمات تراصَّت برشاقة، دون أي زيادة من حراشيف لغويَّة، كحروف الجر أو السَّببية، أو ظروف زمانيَّة ومكانيَّة، أو حتَّى اسم "غِتِت" من أسماء الوصل.

إنَّها جملة صافية، بسيطة، ومع ذلك مرعبة للغاية!  

تُرهب التَّنويريِّين، وتُرعب المُتديِّنين! الطرفان المغرمان بتجاذب أطراف هذه الجملة داخل محافلهما التَّفكيرية، والتكفيريَّة.

التَّنويريون يرون أنَّ أزمة كبيرة تمر بها مجتمعاتنا الإسلاميَّة الشَّرق أوسطيَّة، العربيَّة بالخصوص، منذ عقود طويلة، المُتسبِّب فيها عقل إسلاميّ ارتضى تكبيله بأفهام ما قبل القرون الوسطى، فلم يحاول مواكبة العصور المتوالية، الصَّاعدة بالوعي الإنساني إلى مراحل فهم متقدِّمة، بل يجري العكس، حيث يبذل هذا المسلم الأصولي محاولات مستميتة لشد لجام الزَّمن كي ينحرف بالعصر الحديث متِّجها به إلى الوراء! وهذا ما لا يجب أن يكون، لأنَّه مخالف لضوابط أي عقل يعمل بـ"ألف باء" تفكير، كما أنَّه ضد السُّنن الطَّبيعية التي قام عليها الكون.

أسّ أساس السُّنن الطبيعيَّة: النُّمو والتطوُّر، لا الثَّبات "محلَّك سر"، فضلًا عن الحركة "للخلف دُر"!

لذلك يطالبون بضرورة "تجديد الخطاب الدِّيني".

مطالبة مُرهبة قطعًا، إذ يجهر بها التَّنويريُّون في وسط يهدر بمئات الملايين من المسلمين المنغلقين فكريًّا على ثوابت عقائديَّة لم ينزل معظمها من السَّماء، وإنَّما تنزَّل من عقول بشريَّة لأئمَّة عاشوا منذ ما يزيد على 1400 عام من الزَّمان! أئمَّة حاربوا التَّزمت الفكري وقتها، وأعملوا عقولهم في النُّصوص، منهم من أفتى بعد أن غاص إلى أعماقها، ومنهم من أفتى دون تجاوز سطحها، لكنَّهم جميعًا انتبهوا للتَّحذير الذي جاء به الإسلام فيما يخص عدم تقديس فكر "الآباء"، فإذا بمسلمي العصر الحديث اتَّخذوا أئمة الفقهاء آباء! وأي آباء؟ قد تُجز دونهم الرِّقاب! 

المتديِّنون الأصوليُّون يرون أنَّ أزمة كبيرة فعلًا تمر بها مجتمعاتنا الإسلاميَّة الشَّرق أوسطيَّة، العربيَّة بالخصوص، منذ عقود طويلة، سببها الرئيس عقل يزعم أنَّه تنويري، يدَّعي الإسلام، مُركَّب في رأس إنسان رويبضة، من بني جلدة المسلمين، ينطق بلسانهم، بينما الشَّيطان رابض في قلبه يُزيِّن له الفكر الغربي المتحرِّر، المتهتِّك، الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، وإن آمن فهو الإيمان الهش المركون على رفِّ روحه، مثل الكنيسة المركونة على أرفف هذا المجتمع، عقل مغرور يسعى إلى إخضاع النُّصوص المقدَّسة، الكاملة باكتمال الله الخالق، لضوابطه المعتلَّة، النَّاقصة بنقصان الإنسان المخلوق، بحجَّة عدم مواكبتها لموازين هذا العصر، بذلك هو داعية تخريب وهدم للإسلام، يلوي لجام الأمَّة الإسلاميَّة لتسير مرغمة في ركب قطيع أممي يقوده الرَّاعي الغربي الكافر، بينما يمتلك المسلمون خريطة طريق واضحة المعالم نحو قيادة إسلاميَّة عالميَّة، وضعها رسول الله عن الله، عندما نبَّه المسلمين إلى أنَّ العزّ والسِّيادة في التمسُّك بكتاب الله، وسنَّة نبي الله، وهذا الجهاد الذي لم تتركه أمَّة من قبل إلَّا أحاط عنقَها طوقُ الذُّل.

لذلك يعتقد الأصوليُّون في أنَّ "ألف باء" التَّفكير الصَّحيح هو اتِّباع خريطة سيِّد البشر، التي أُوحيت إليه من خالق البشر. فأي عقل سليم الذي يقبل إفرازات أفكار بشريَّة مخلوقة ويرفض منتجات فكريَّة إلهيَّة خالقة؟! وإذا خُلق الإنسان كي يتَّجه إلى الله فإنَّ دعاوى الرُّويبضيين، من مدَّعي التَّنوير، المؤدِّية إلى رَكن الدِّين على الرفِّ الشَّخصي، ليست غير عملية دفع للإنسان إلى الوراء، بعيدا جدًّا عن الله.

إنَّها "للخلف در" الحقيقيَّة، في كمال نصوعها الإلحادي!

لذلك تظل جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" مرعبة للأصوليِّين، خصوصًا وأنَّ العالم الإسلامي قد احتُل بالمثقَّفين العلمانيِّين، والإعلام "المُتغربِن"، الشَّبكة العنكبوتيَّة تستفحل، هيبة المشايخ تذوب مع الوقت في ظلّ هذا الاشتباك الوحشي المعاصر بين المُقدَّس والمُهان، بين الدِّين الطَّاهر والسِّياسة الوسخة!

جملة "تجديد الخطاب الدِّيني"، بعيدًا عن تجاذب الطَّرفين لها حد تمزيقها مزعًا، بديعة المبنى والمعنى، جملة إيمانيَّة مُصاغة بروح عصريَّة، لم تُنكر وجود الدِّين، بل تُشير إلى حاجتنا له، لكن الفقه العتيق  يجب تجديده.

التَّجديد فعاليَّة إنسانيَّة راقية، يمارسها الإنسان كل يوم بمفردات حياته البسيطة، إنَّه نتاج طبيعي للتَّطور، والتَّطور نتاج طبيعي للحركة إلى الأمام، ما يعني أنَّ التَّجديد عمليَّة فطريَّة، والدِّين "فطرة الله" التي فطر عليها الخلق، الإسلام جاء تجديدًا للمسيحيَّة، وتنشيطًا للصَّالح فيها من معتقدات إيمانيَّة، مثلما المسيحيَّة جاءت تجديدًا لليهوديَّة وتنشيطًا للصَّالح فيها من معتقدات إيمانيَّة.     

أي: الدِّين بالأساس فكرة تجديديَّة.

جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" لم تكن يومًا "تغيير الخطاب الدِّيني" حتَّى نتعامل معها بكل هذا الخوف والرعب، فلماذا يتعامل معها الطَّرفان بكل هذا الخوف والرُّعب؟

الإجابة ببساطة: سوء الطَّوية. أو بصياغة أيسر: فساد النَّوايا.

لننظر إلى مكوِّنات ألتراس "مع تجديد الخطاب الدِّيني"، نقصد التَّنويريِّين، ومكوِّنات ألتراس "ضد تجديد الخطاب الدِّيني"، نقصد الأصوليِّين، لنفهم مسألة "سوء الطَّوية" هذه.

التَّنويريون مثقَّفون ثقافة حرة.

المثقَّفون نوعان: حقيقيُّون، ومدَّعون.

الحقيقيُّون نادرون كالزِّئبق الأحمر، والمدَّعون عدد حبَّات الرَّمل!

المثقَّف الحقيقي إنسان راق، فيلسوف، ربَّى عقله، ودرَّب ذهنه، على قبول الآخر بحب، أو رفضه بوعي، فهو يدرك أنَّه، على كل حال، يتعامل مع فكر مُنتج يقدِّمه إنسان مثله، يعتقد مثله أنَّه على صواب، وأنَّ من حوله يتيهون في ضلال التَّفكير! بالتَّالي يتبادل الجدليَّة مع هذا الإنسان المختلف، "المُتخلِّف!"، دون استعلاء خطابي، أو كره وجداني، بل مستعد لمحاورته درجة خروجه من الاستراتيجيَّة الفكريَّة التي اعتنقها، وانضمامه لفكر مُحاوره، إن استطاع هذا الأخير إقناعه، كما هو مستعد للدِّفاع عن حق الآخر في التَّعبير عن فكره.

لذلك يبقى المثقَّف الحقيقي ضد السُّلطة في أي زيٍّ من أزيائها: الدِّيني، أو السِّياسي، أو الأيديولوجي.

أمَّا المثقَّف الدَّعي فشخص هش، منهزم في ذاته، لم يحقِّق أيّ نجاحات فكريَّة في مجال عمله الثَّقافي، إن كان روائيًّا فهو "روائي" لا يؤمن بالرِّواية وسيلة لإيقاظ الوعي، وإن كان شاعرًا فهو "شاعر" لا يؤمن بالشِّعر رسالة حقيقيَّة، بقدر ما يؤمنان بالكتابة واجهة اجتماعيَّة، ووسيلة للسِّياحة في بلاد الله المتنوِّعة، والأكل في مطاعم الله الفاخرة، متتبِّعًا لذلك خرائط الأمسيات والنَّدوات والمؤتمرات المحليَّة والإقليميَّة والدُّولية!

يمكن القياس على ذلك المشتغلين بحقوق الإنسان، أو أعضاء الأحزاب السِّياسية القائمة على أفكار تحرُّرية.

أمثال هؤلاء المتثاقفين يرفضون الآخر حدّ تصفيته جسديًّا إن أمكن، وحجَّتهم أنَّ هذا الآخر لا يؤمن بالكلمة ولا بالرَّأي ولا بالحرِّية، وإنَّما بالإرهاب المسلَّح، وبالتَّالي من حقِّه كإنسان مسالم الدِّفاع عن النَّفس، والمطالبة بالخلاص من هذا الإرهابي كمًّا وكيفًا، ما يتبعه ألَّا يجد غضاضة في الوقوف بصف السُّلطة، وإن كانت مستبدَّة، كي تستخدم قوَّتها المتمثِّلة في الجيش والشُّرطة، وكل قوى الأمن غير المرئيَّة، من أجل تنفيذ عملية الخلاص هذه.

الأصوليُّون مثقَّفون ثقافة دينيَّة! وينقسمون إلى نفس النَّوعين: حقيقيُّون، ومدَّعون.

الحقيقيُّون منهم نادرون ندرة الزِّئبق الأحمر، والمدَّعون عدد ذرَّات الرَّمل! 

الأصوليّ الحقيقي مسلم ناجح، اجتماعي، مع ذلك يعيش حياته لله، ملتزمًا بتعاليم الله، محبًّا للنَّبي وأهل بيته وصحبه، يسع قلبه كلَّ ما جاء في النُّصوص المقدَّسة ليأخذ منها، في كلِّ حادث، ما يبرِّر للإنسان، أي إنسان، ذلَّاته، يهمّه المضمون أكثر من الشَّكل، لذلك يسيح هذا النَّموذج الأصولي في طبقات المجتمع كلّه، فتجده شيخًا من مشايخ الدِّين، وتجده موظفًا حكوميًّا، وتجده ضابطًا من ضبَّاط الجيش، أو مرشدًّا سياحيًّا، أو أديبًا، وربما ممثِّلًا سينمائيًّا! موقفه مَّمن يخالفه الرَّأي، أو العقيدة، أو وجهة النَّظر السِّياسية، هو قول الله تعالى: "لكم دينكم ولي دين".

ثقافة دينيَّة تعترف بالآخر، وتمنحه حقَّه في الوجود والاعتقاد.

الأصولي الدَّعي غالبًا ما يكون مسلمًا تعرَّض لفشل كبير في مبتدأ حياته، أو هزَّة نفسيَّة عاتية نتجت عن موقف اجتماعي، عائلي أو سياسي، أودت به إلى زاوية من الدِّين يقدم له شيوخها التَّفسيرات والحلول المُريحة لأزمته النَّفسية، والمبرِّرة لفشله الذريع، فكل ما يحيط به من مآسٍ هي إرادة الله، والمؤمن مُصاب على قدر إيمانه، ثم، وهذا هو الخطير، "إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيم أقامك". فينظر هذا الأصولي الدَّعي إلى مقامه فيجده مقام صوم، وصلاة، وعبادة دائمة لا يفتر عنها ليلًا ولا نهارًا، بينما الآخرون تلهيهم الدُّنيا، فيهمس لنفسه: إذًا أنا الأفضل.

وهكذا، في غمضة عين ملأ نقصًا كبيرًا في ذاته بتوهُّم الأفضليَّة الدِّينية لمجرَّد أنَّه صوَّام، قوَّام، ريَّاد مساجد. ثمَّ مع الوقت، ولأنَّ نقصه لم يمتلئ بغير الوهم، لا تكفيه هذه الأفضليَّة المزعومة، فيبحث في آيات "القرآن"، وأحاديث النَّبي، عمَّا يمنحه السُّلطة والسِّيادة على هؤلاء الملهيِّين بالدُّنيا الظَّانِّين أنَّهم الأنجح والأفيد لمجتمعهم.

وما "السِّيادة" غير "أسياد" يأمرون وينهون؟ فيهب متعلقًا بالمرجع القرآني ليجد ضالته في: "كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر". ليتطوَّر الأمر حتَّى يكون موقفه ممَّن يخالفه الرَّأي والعقيدة، أو وجهة النَّظر السِّياسية: "وقاتلوهم حتَّى لا تكون فتنة".

ثقافة التَّمييز والتَّناحر باسم الدِّين.

ضاعت جملتنا البهيَّة "تجديد الخطاب الدِّيني"، حلوة المبنى والمعنى، بين أدعياء الفريقين.

فأدعياء التَّنويريين جعلوها حصان "طروادة"، خدعة كبيرة لدخول المدينة المستغلقة، لا لتنويرها كما يعلنون، أولتهذيب حصونها كما يقولون، وإنَّما لهدم أسوارها، واستباحة شوارعها وبيوتها وكنوزها، وطرد سكَّانها، أو إبادتهم.

لكن خدعة حصان "طروادة" لن تتكرَّر مرَّتين، لذلك يقف أدعياء الأصوليَّة لها بالمرصاد، لا حفاظًا على الدِّين كما يُعلنون، أو طاعة لله كما يقولون، وإنَّما تمسُّكًا بهذه الزَّاوية من الدِّين التي منحتهم إحساسًا عاليًا بالذَّات فصاروا "السَّادة"، ولم لا وهم أوصياء الله على الأرض، المكلَّفون بالأمر والنَّهي؟!

لذلك لن تتفجَّر الطَّاقات الإصلاحيَّة الكامنة في جملة "تجديد الخطاب الدِّيني" إلَّا بتداولها بين تنويريِّين وأصوليِّين حقيقيِّين، يؤمن كلاهما بحق الآخر في الحياة الكاملة، ماديًّا وروحيًّا، وبتواصل إنساني بينهما يقوم على أنَّ الله ربّ الجميع، وأنَّ للجميع أديان.

تنويريُّون وأصوليُّون يقرِّرون أنَّه من الضَّروري قبل تداول "تجديد الخطاب الدِّيني" أن يتم تداول "فهم الخطاب الدِّيني".

فأساس كل التباس "فهمٌّ" ما.



 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة