U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

ناي


 

ناي

 

جلبابه مرقع، لكنه لملم أطرافه، وعلى الأرض تربع، واستوى، وإلى جذع نخلة، تطاول نحو السماء، بظهره اتكأ.

دس يده في جيب جلبابه، ولما أخرجها كانت قد قبضت على شيء، شيء لا بد عزيز، فها هو يقلبه بين يديه كأنه يقلب الدنيا! شيء معمول من الغاب الأجوف، الجاف، عصا لا طويلة، ولا قصيرة، عليها ثقوب تساوت في الاتساع، ووقفت مرصوصة.

هذا شيء أصفر، براق .

 

( أ )

يندر الزمان أن يجود بمثل هذه اللحظة.

فيها، تأمل الولد الناي.

والزمان زاد في الكرم فجاد بلحظة أخرى.

في هذه اللحظة، الهدية، تأمل الولد جلبابه، وبعد التأمل، والتأمل، تماوجت على سطح وجه الولد بسمة هادئة، لكنه عاد ونظر إلى الناي، وعاد ونظر إلى جلبابه، فعكر وجه الولد وجوم غريب.

 

( ب )

كان لجلبابك ثقوب كالناي، وما يصح، ولا بد، هو انك والناي متوحدان، فما للناي من نافخ سواك، وما لك من بلسم سوى غنائه، فلماذا يا ولد رتقت ثقوب جلبابك؟

هل تكره أن تصبح نايا؟!

 

( ج )

السؤال مرعب كالشبح، ولا بد من الفرار.

نفخ الولد في الناي، وأنامله رقصت على الثقوب، فانسلت الأنغام.

أنغام رقيقة، لينة، تتلوى إذا ما داعبتها النسمة الطيبة.

 

( د )

أدهشه أن نغمة انفلتت، وتثنت، وتراقصت، فطالت، فاستوت ممتدة ما بين الأرض، الجالس عليها، وسحابة عابرة، هذه النغمة لمعت، وأوحت له أن "المس".

في تردد أرسل يده تلمس هذه النغمة، عادت يده تضحك، وأفضت له بأن النغمة تتحمل ثقله.

نهض، وجر قدميه إلى بداية النغمة، انحنى، وأمسك بجانبيها خشية السقوط، ثم شرع في الصعود.

 

( هـ )

عندما اعتلى السحابة نظر إلى حيث كان أسفل فرأى الناى ممددا، تحت جذع النخلة الممشوق، فأصابه حزن.

كيف السير الآن بدون نغم!

أطلق بصره الحائر إلى الأمام فاصطدم بباب ضخم، من ذهب، باب يسع الشمس إن دخلت أو خرجت، حول الباب ضباب. وحول الضباب ضباب. ولم يكن أمام النظرات بد من طرق هذا الباب، الذي انفتح على مصراعيه من غير طرق!

هو إذن باب حساس تفتحه أحاسيس الحيارى.

الولد جرى، ودخل، ولما دخل أصابه العجب، إذ رأى قطعا من ضوء أبيض هادئ تسبح فى بحر من أخضر سندسى، وعند الأفق تبة عظيمة تشع نورا فضيا، وقلوب هنا وهناك تتهادى، سار بينها دون أن تجفل.

هى إذن قلوب مطمئنه.

التبة الفضية تدعوه، والولد فوق التبة رأى بنتا، لم يكن فى هذا العالم سواها، والبنت لا ترتدى الثياب، على ركبتيها جالسة، وعيناها مشدودتان إلى لا شيء، الولد قال: "هى تمثال، رائع هذا التمثال". ومد يده يتحسس هذا الشعر الأسود الفتان.

الولد من أهل الدنيا، فيه غباء أهل الدنيا، لم يفهم أن هذه البنت ليست مجرد بنت، لم يدرك، يا أيها البشر، أنها محور الحياة، ومركز الكون، وأنها طالما هى ناظرة إلى اللاشيء فالحياة فى كل الدنى تسير، هى بنت سماوية، لا أرضية، الولد لم يفهم هذا، ولهذا مد يده يتحسس شعرها الأسود الفتان.

وهذا ما حدث، البنت أشاحت بنظرها عن اللاشيء لتنظر إلى الولد، وكان الولد جميلا.

البنت، السماوية، كرهت أن تبقى محورا للحياة، ملت النظر إلى اللا شيء، نسيت الأقدار أن تنزع قلبها من جسدها، أوربما تناست، لذلك البنت عند أول لمسة من ولد حنت.

يا كل حي على كل أرض، تشرب الماء، وتتنفس الهواء، هذا هول وقع.

     

( و )

ضاع اللون الأخضر فاهتاجت قطع الضوء الأبيض، ورويدا ورويدا حل اللون البرتقالى فانتفخت تلك القطع البيضاء من الضوء. تماوج البرتقالى، وتمخض، فانجب الأحمر, زاد انتفاخ الضوء الأبيض. مرة واحدة انسكب الأحمر القانى لينفجر الضوء الأبيض، وتتناثر أشلاء القلوب، التى كانت مطمئنة، وليكون ظلام بهيم. وانفتحت تحت قدمي الولد هوة هوى فيها إلى حيث لا قرار.

    

( ي )

أرسل يده إلى أعماقه يفتشها فقبضت على قلبه المتردى، أخرجه، ألقاه فى حجره، ثم أمسكه، ورفعه إلى وجهه، ومد بصره إلى داخله, رأى نفسه لا زال يهوى, فركن قلبه جوار نايه، تحت جذع النخلة، وسار مبتعدا.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة