U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

نقص منسوب الضَّمير


مشهد دراماتيكي نقله المؤرِّخون أمثال المقريزي، وابن إياس، وابن تغري بردي، بلاقطة بصريَّة سوداء كالح لونها تسوء القارئين، يصوِّر ما سمِّي بالمجاعة المستنصريَّة، التي قيل إنَّ حلقاتها المُهلكة تتابعت قبل زوال الخلافة الفاطميَّة بوقت قليل،
حيث نقص منسوب مياه النِّيل لبضع سنوات متتالية، قدَّروها سبعًا، فجدبت مصر المحروسة، وضرب القحط اخضرار أراضيها، ولوَّنه برماد احتراق الحياة من فرط اشتعال جنون شمس انفلت عيارها بسبب ذبول النَّهر.

لم يعد هناك زرع أو قلع، وانتفى الحَصَاد والحُصَّاد، فجاع النَّاس جوعة لم يسبقها على طول التَّاريخ المصري  غير المجاعة العزيزيَّة، نسبة إلى عزيز مصر، المذكورة في القرآن، والتَّوراة من قبل.

قالت كتب التَّاريخ إنَّ النَّاس من فرط جوعهم اشتروا الرَّخيص مما يمكن أكله بالنَّفيس الغالي.

إحداهن خَبَزت رغيفًا كلَّفها حُليَّا ثمنها ألف دينار!

ومع انعدام ما يمكن أكله اشترى النَّاس الدَّنيء ممَّا لا يستساغ أكله يتبلَّغون به غصصًا.

أحدهم اشترى كلب شوارع بخمسة دنانير، ذبحه وطبخه والتهمه بصحبة أسرته المفجوعة جوعًا!

وعندما نفدت الأموال، واستحال شراء ما يمكن وما لا يمكن أكله، سلبوا ونهبوا البيوت والدَّكاكين والمحال، حتَّى أتوا عليها وصيَّروها خاوية من كل مُفيد يحفظ الرَّمق.

خوت الدُّنيا من كل مأكول، منهوب أو دنيء أو مقبول، فكمنوا وراء النَّواصي والزَّوايا، وعلى أسطح المنازل، خطفوا العابرين والعابرات والأطفال بقوَّة الجوع وحديد الكلاليب، ذبحوهم وشرَّحوهم وشووا لحومهم ومصمصوا عظامهم.

عبد أسود خطف إحداهن وأخذ يقطِّع من لحمها حيَّة، يشوي ويأكل وهي تصرخ وتستغيث، حتَّى أغاثها البعض بقتل العبد واستنقاذها!

مع الجوع الهاصر انمحت هيبة الحكومة، فلم تسلم القصور الأميريَّة، ولا القاعات السلطانيَّة من الاعتداء.

بغلة الوزير أخذها الجائعون المجانين وأكلوها أمام عينيه!

الخليفة المستنصر "بذات نفسه" جاع بعد أن افتقر لدرجة اضطرته لبيع رخام شواهد قبور أعزائه! ولولا أنَّ إحدى السَّيدات تصدَّقت عليه برغيفين يوميًّا لهلك!

بعد مرور ما يقارب عقد كامل من الزَّمن قرَّر الوزير الهمام مواجهة المجاعة بفعل إيجابي، فرسم خطوط مكيدة وزارية آتت أكلها عاجلًا غير آجل. جمع في قاعة الوزارة بضع سُرَّاق ومجرمين، بعد أن ألبسهم ملابس الأثرياء، جمع معهم التُّجار الكبار أصحاب رؤوس الأموال، ثم خاطب أحد الأغنياء المُزوَّرين بعنف، موجِّها له الإدانة باعتباره تاجرًا جشعًا يحبس القمح في مخازن تجارته فأجاع الأمَّة، وقبل أن يفتح التَّاجر المزوَّر فمه مندهشًا من هذه التُّهمة التي لم يحلم يومًا بارتكابها وهو مجرد سارق "على ما تُفرج" طار رأسه بسيف الجلَّاد فارتاع التُّجار الحقيقيُّون، ليسارعوا بإبداء التأسُّفات، وتقبيل الأرض بين يدي الوزير ندمًا على ما بدر منهم، ووعدوا بأنَّهم توَّا وفورًا سيفرجون عن الأقوات التي في مخازنهم.

وفعلوا. وبدأت الأزمة تنفرج. ثم فاض النِّيل ليعمّ الرَّخاء البلاد و"يتنغنغ" فيه العباد! 

هذا هو التَّاريخ المكتوب بخصوص المجاعة المستنصريَّة، والذي دفع بالمحللين الطَّيبين إلى إدانة النِّيل! فمنسوبه هو الذي انخفض لسبع سنوات متتالية، ولولا عملته السَّوداء ما حدثت المجاعة، ولا جرت أحداث قصص الرُّعب "الأوفر" الواردة أعلاه، والتي هي أعجب من أي عجائبيَّة، وأغرب من أي غرائبيَّة، ومع ذلك صدَّقها المصريون، جاهلهم وعالمهم، لأكثر من ألف سنة، وما زالوا، رغم أنَّ كل ما ورد فيها من "هَطَل" يُفنَّد بقليل عقلانيَّة.

دعونا من تحليلات الطَّيبين، ولنسأل هذا السُّؤال: كم مرَّة "استندل" النِّيل وخسّ منسوبه لسبع سنين متتالية على مدى تاريخ جريانه الضَّارب في القدم؟

لا شك أنَّها مرَّات عديدة.

وصلنا ذكر ثلات مرَّات منها فقط: المجاعة العزيزيَّة الفرعونيَّة، التي حملت الكتب المقدَّسة أخبارًا مقتضبة عنها، ولم تشر إليها أيّ من كتب التَّاريخ القديم. ثمّ المجاعتان الحاكميَّة والمستنصريَّة، وقد وصلتنا أخبارهما عبر صياغات المؤرِّخين من البشر الفانين، لأنَّ الخطاب الإلهي المباشر اُختتم بالقرآن الكريم.

سنغض الطَّرف عن بعض المجاعات الخفيفة التي تبعثر ذكرها في كتب متفرِّقة هنا وهناك.

القصّ المقدَّس عن المجاعة الأولى جاء متعقِّلًا جدًّا، حيث تكلَّم عن رؤية مناميَّة لعزيز مصر فسَّرها النَّبي يوسف مستشرفًا المستقبل ليبادر المجاعة قبل وقوعها بتخزين قمح يكفي لإطعام الشَّعب سبع سنين.

ومرَّ الأمر سلامات.

بعكس قص البشر الفانين، أصحاب الضَّمائر السُّوداء، إنَّهم لم يحرصوا على تمرير ذكر المجاعات سلامات! لأنَّ الكتابة، حتَّى وإن كانت تأريخًا يجب أن يكون محايدًا علميًّا، مضروبة بعطن الهوى الإنساني، وقد كان "الحاكم بأمر الله" خليفة فاطميًّا مثيرًا للجدل، أحبَّه أناس درجة التَّأليه، وكرهه آخرون درجة الشَّيطنة.

كما أنَّ الخليفة "المستنصر" "خلَّل" في السَّلطنة لأكثر من خمسين عامًا، ركود نشأ عنه تيَّاران متضادَّان، حبيب وعدو، والسُّنة بالفطرة ضد الشِّيعة، والشِّيعة بالفطرة ضد السُّنة، والمؤرِّخون تابعوا القوَّة الكرديَّة الأيوبيَّة الصَّاعدة، سنِّيون يكتبون عن مجاعة في زمن خليفة شيعي! ومصر منذ خمسة عشر قرنًا من الزِّمان سنِّية المذهب.

لن يمرِّرها المؤرِّخون السُّنيون سلامات قطعًا. 

وهكذا سيُكتب التَّاريخ عن الخليفة الإخواني "محمَّد مرسي"!

واعلم أن ليس الهوى هو الآفة الوحيدة التي ضربت بسوسها في عمليَّة التَّأريخ. التهويل والمبالغة فعلا ذلك أيضًا، إنَّهما منبتا الأسطورة، وكل شعب بدائي الوعي عاشق بالضَّرورة للأسطورة، ومصر العريقة بدائيَّة الوعي في عصورها الوسطى التي لا تنتهي!

تأمَّل الأسطورة القائلة بأنَّ الأسطول البحري المصري في عصر الخليفة العسكريّ عبد الفتاح السِّيسي قد تمكَّن من مهاجمة الأسطول السَّادس الأمريكي في البحر المتوسِّط وأسر قائده.

لقد تقبَّل الوعي الشَّعبي المصري هذه التَّهريجة المكشوفة على إنَّها حقيقة لا تقبل التَّشكيك! وغير مستبعد أن تجد هذه الطُّرفة طريقها إلى كتاب تاريخ مستقبلي باعتبارها حقيقة جادَّة راسخة!

الميل السِّياسي دوره "أغبر" أثناء عملية التَّأريخ في ظل وجود مؤرِّخين يمالئون الحكَّام مرَّة، أو يعادونهم مرَّة، مجاراة لانتماءاتهم السياسيَّة، أومصالحهم الشَّخصية، أو حتَّى مخاوفهم الأمنيَّة.

وتبعًا لما ورد سابقًا غير مستبعد أبدًا عن مؤرِّخ مُحتمل، إخواني الهوى، تصادف له أن رأى امرأة فقيرة، سقطت من حسابات الجيران والأغنياء، تبحث عن طعامها في صندوق قمامة، وسمع صيحات البعض على إحدى الفضائيَّات الإخباريَّة وهم يصرخون: "إحنا مش لاقيين ناكل". "الشعب بياكل تراب". "مش قادر اشتري نص كيلو لحمة للعيال اللي جالهم أنيميا". أن يكتب التَّاريخ الآتي: وضرب الجوع مصر في فترة حكم طاغية عسكري اسمه السِّيسي، كان أمير الجيوش عندما انقلب على خليفة المسلمين واستولى على عرشه، فضنَّ لحم الضَّأن، وغار لحم الجاموس والأبقار، وفشي داء يُقال له الأنيميا ُيهلك الأقوياء قبل الضُّعفاء، والشَّباب قبل الشُّيوخ، والرِّجال قبل النِّساء، فلمَّا نفد كلُّ مأكول، حتَّى الخس والجرجير والعاقول، اضطر أهل مصر لمشاركة الحيوانات صناديق القمامة، والتهموا كلَّ ما فيها، فعضَّت الكلاب النَّاس، وأكل النَّاس الكلاب، واختفت الدَّواب، حتَّى الحشرات أكلوها، ولمَّا لم يجدوا ما يحدّ من غائلة جوعهم من كائنات حيَّة، أو ميتة، سفُّوا التُّراب سفًّا، وقيل إنَّ أحدهم دفع في حفنة تراب خمسين دولارًا أمريكيًّا.

وهكذا تضاف إلى التَّاريخ المصري مجاعة جديدة تُعرف بالمجاعة السِّيساوية!

لننظر إلى كلِّ ما حولنا قبل أن يصير تاريخًا، هل رأينا قائد الأسطول البحري السَّادس الأمريكي أسيرًا لدى الجيش المصري؟! هل عايشنا هذه المجاعة الدُّراماتيكية المصوَّرة بلاقطة سوداء كالح لونها تسوء القارئين؟

ليس نقصان منسوب النِّيل وحده هو السَّبب في "أفورة" هذه المجاعات المريعة التي نقرأ عنها تأريخًا، ولا حتَّى نقصان منسوب القناعة والأمانة عند أصحاب رؤوس الأموال، وإنَّما أيضًا نقصان منسوب الضَّمير عند المؤرِّخين إيَّاهم.

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة