كنت أطالع، في غير اندهاش، الكثير من
ردود أفعال القرَّاء حول الموضوع التَّاريخي الذي اعتمدته ضرواية "أرض
الإله"، للكاتب المصري "أحمد مراد"؛ تلك الرُّدود التي عبَّرت عن
انزعاج أصحابها ممَّا اعتبروه تغييرًا في حقائق تاريخيَّة سيؤدِّي إلى ما لا يُحمد
عقباه مستقبلًا، وقد شيَّدوا تخوُّفاتهم على أسس من رؤى تعتبر الرِّواية، كصنف
أدبي، أحد أغزر منابع المعرفة في هذا العصر.
لم أندهش، إذ كيف أندهش وأنا أعيش في
زمن الغرائب، والعجائب، والأفهام المغلوطة، كما لم أعش زمنًا من قبل؟ حتَّى صار
العاديُّ، لا الغريب، هو مبعث الإدهاش! فبعض الآراء، التي انضمَّت إلى قافلة
الاعتراض على تفكيك التَّاريخ، بالتَّناول الرِّوائي، وإعادة بنائه حسب تصوُّر
الكاتب، كانت لروائيِّين أيضًا! وكأنَّ هؤلاء لم يفهموا يومًا أنَّ شريط الحمض النَّووي
للجنس الرِّوائي لم يختلف عن مثله في الأجناس الكتابيَّة المعرفيَّة الأخرى إلَّا
بتوافر عدد كبير من الجينات الخاصَّة بالقدرة على التَّفكيك داخله، واستعمال
الخيال إلى أقصى مدى في إعادة البناء، بشكل مغاير عمَّا عرفه الواقع، للمساعدة بقوَّة
على فهم الواقع.
إنَّ منطق الرُّؤى، والأحلام، لا يخضع
لشروط الصَّحو واليقظة، لهذا السَّبب يصبح من السَّذاجة البلهاء محاكمة المنامات،
بالضَّبط كما لو أنَّنا اتَّهمنا عملًا أدبيًّا بالعبث في التَّاريخ، أو حتَّى في
العقائد.
عجيبة العجائب، أنَّه في الوقت الذي
دحض العقلاء عن رواية "أرض الإله" ما نُسب إليها من عبث في التَّاريخ،
أصرَّ كاتبها، الذي طالب قرَّاءه من قبل بالتَّعامل مع روايته أدبيًّا، لا تاريخيًّا،
على التَّصريح بكلام كبير، وضخم، وفخم، من قبيل: "أرض الإله تدفع الازدراء عن
التَّاريخ المصري"، وما شابه من تصريحات، مثل اعتبار فرعون اسم علم، لا لقب
للحاكم المصري، لأنَّ فرعون جاء رمزًا للاستبداد والطُّغيان في الكتب المقدَّسة؛
وهي تصريحات لا أعرف إن كان "مراد" يدرك إلى أىِّ مدى تضعه في وجه مدفع
الحقيقة التَّاريخية، لا الخيال الأدبيِّ، أم لا؟! وكيف أنَّ تصريحاته تلك تُجبر
روايته على الرُّضوخ للمقاييس العلمية الخاصَّة بالشَّأن التَّاريخي رغم أنفها.
وهنا يصبح من حقِّ المطَّلع على هذه
التَّصريحات، لا الرِّواية، التَّساؤل عمَّن أشاع في عقل "مراد" أنَّ
التَّاريخ المصري القديم، الذي يقف أمامه العالم إجلالًا، يعاني من ازدراء ما؟!
ومن أدخل في ذهنه أنَّ تعدُّد الآلهة، في الزَّمن القديم، يضع التَّاريخ المصري في
خانة الازدراء فيحاول، بهتانا وزورا، إظهار كهنة المعابد المصريَّة، داخل روايته،
كرجال دين يوحِّدون الله التَّوحيد الذي نعرفه اليوم؟ هل تعدُّد الآلهة في حضارة
اليونان، والرُّومان، وآشور، تسبَّب في ازدرائها يومًا ما؟!
ثمَّ؛ معلوم أنَّ ما ورد من أفكار، في
"أرض الإله"، ليست وليدة تأمُّلات "مراد" الشَّخصية في التَّاريخ،
وإنَّما قرأها في كتب ما، سطرها باحثون ما، وأعجب بها، فقرر اقتباسها، وطرحها داخل
رواية؛ ولأنَّ هذه الأفكار مغايرة للرَّاسخ في أذهان النَّاس، ليست ملكه، كان عليه
الإشارة، بوضوح، للكتب التي أوردت هذه الأفكار، حتَّى لا يستحوز حقًّا فكريًّا ليس
له؛ كان لهذا الأمر أولويَّة تفوق، بالتَّأكيد، الإشارة إلى اسم مصمِّمة ملابس
موديل الغلاف، في الصَّفحة الأخيرة، واسم موديل الغلاف، و و، ما أضفى على القارئ
إحساسًا بأنَّه إزاء فيلم، له تتر، لا رواية رصينة!
لندع كل هذه الملحوظات السَّابقة جانبًا،
ونتكلَّم عن هذه الرِّواية قليلًا كبناء أدبيٍّ؛ لكن قبل محاولة وزنها، لتقدير
قيمتها الأدبيَّة في سوق الأدب، علينا الانتباه إلى تلك الحقيقة القائلة بأنَّه من
المعيب، للغاية، كتابة ثلاثة سطور عن موضوع يمكن كتابته في سطر واحد.
هذا مهمٌّ جدًّا.
إن كنتَ قرأت "أرض الإله"،
حتَّى نهايتها، فضعها بين يديك، قلِّبها بأناة، تأمَّلها جيِّدًا؛ ماذا تلاحظ؟
أنَّها رواية واحدة ومع ذلك قابلة للتَّفكيك
إلى ثلاث روايات؛ الأولى: بطلها "هوارد كارتر"، مكتشف مقبرة "توت
عنخ آمون"، وهي أقصرها جميعًا، جاءت غلافًا للرِّوايتين الأُخريين، كمفتتح،
في أوَّل الكتاب، من بضع صفحات، و"فينالة"، آخر الكتاب، مكوَّنة من ثلاث
صفحات. الرِّواية الثَّانية: بطلها "كاي"، كاهن معبد "سمنُّود"،
وهي الرِّواية التي يمكن اعتبارها الهيكل العظمي لـ"أرض الإله"، أو
العمود الفقري، أو محور الارتكاز، أقصد الرِّواية المُتخيَّلة من بنات أفكار
الكاتب، التي تتمتَّع بمساحات واسعة قابلة للتَّنسيق، والتَّعمير الرِّوائي، كأفضل
ما يكون، إن استطاع الكاتب القيام بهذا الأمر. أمَّا الرِّواية الثَّالثة فبطلها
النَّبي "موسى"، نبيُّ اليهود الذي حكت الكتب المقدَّسة قصَّته الشَّهيرة.
تبدأ الرِّواية، "أرض
الإله"، في عصر حديث نسبيًّا، أيَّام الاحتلال الإنجليزي، حيث يدخل
"هوارد كارتر" مكتب أحد مديري الآثار ثائرًا، يطالبه بإجراء حكوميٍّ
لصالحه، مهدِّدًا بأنَّه لو لم يحصل على ما يريد سيكشف للعالم كله ما جاء بالوثائق
التي عثر عليها في مقبرة "توت عنخ آمون"؛ هنا سيشم القارئ رائحة
"محمود سالم" في مغامراته المسلسلة الشَّهيرة بـ"الشَّياطين
الـ13". ومن غير داع فنيٍّ ترك "مراد"، فجأة، حدوتة وزمن "كارتر"
ليعود إلى مئتين وخمسين عامًا قبل الميلاد، وجريمة قتل الكاهن الأعظم لمعبد "سمنُّود"،
لتهبّ على القارئ روائح بارفانات "دان براون" بقوَّة، حيث جرائم القتل الغامضة
داخل الكنائس والمتاحف والأماكن المثيرة للخيال، وبنفس الوصفة الدانبراونية، فالكاهن،
وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يكتب بدمائه أرقامًا ملغزة، إذا تمَّ حلُّ شفرتها ستؤدِّي
إلى حل اللغز الرَّهيب، ثمَّ مطاردات على نمط الأفلام الأمريكيَّة، إذ المتفرِّج يرى
الخنجر يخترق قلب البطل وهو يتهاوى في كتلة لهب ناتجة عن انفجار قنبلة نووية،
ويحترق أمام عينيه، ومع ذلك يظهر، بعد قليل، في المشاهد التَّالية، ليسند ناطحة
سحاب بمنتهى العنفوان ويمنعها من الانهيار!
لن يظل الأمر "دان براونيا"
طويلًا، بل سيتحوَّل "عزازيليًّا" ليشم القارئ رائحة "يوسف
زيدان"، وأجواء سكندرية قديمة، و"كاي" الكاهن مع الجميلة المقهورة،
وقصَّة الحب المحرَّمة بنفس التَّناول العتيق إيَّاه، وإضمامات البردي، أو تلك
اللفائف الحاوية للتَّعديل التَّاريخي الذي سينقذ به "مراد" التَّاريخ
المصريَّ القديم من الازدراء! والذي كان المسيو "هوارد كارتر" قد لوَّح
بكشفه في أوَّل الكتاب، ليشم القارئ هنا رائحة "خمايسينيَّة"، ومحاولة
تقليب الأفكار بشكل صادم، كما في "منافي الرَّب" و"انحراف
حاد"، لكن أي تقليب في الأفكار، وأي تنوير، والرِّواية تنتصر لفكرة تخليص
الحضارة المصريَّة القديمة من فكرة تعدُّد الأديان، باعتبارها رجس من عمل الشَّيطان
يجب تبرئة التَّاريخ الفرعوني منها لصالح التَّوحيد كما يفهمه المتديِّن المتحفِّظ،
وعندما حاول، في بعض المواضع النَّادرة من روايته، فعل ذلك فعله بخوف وسرعة، فبدا
متناقضًا للغاية، حيث ينتصر طوال الرِّواية للتَّوحيد الموسوي، بينما يعارض بعضه
أحيانًا! فأيُّ تنوير يمكن لروائي خائف، متردِّد، أن يُقدِّمه؟! ثمَّ؛ أين حالة
"أحمد مراد" ذاتها؟ لقد تاهت بين حالات كل الكُتَّاب السَّابق ذكرهم!
كانت الرِّواية الثَّالثة، رواية النَّبي
"موسى"، التي تدور قبل ألفين وخمسمائة سنة من الميلاد، هي أضعف روايات
"أرض الإله"، رغم أنَّها طويلة جدًّا، جاءت كلاسيكيَّة، كأنَّها مسرحيَّة
عتيقة، أساء "مراد" عرضها للمنتهى، فالمفترض أنَّها ترجمة برديَّات
قديمة قام بها "كاي"، بطل الرِّواية الثَّانية، سيندهش القارئ من موضوع
اللفائف برمَّته، فلفائف تحكي قصَّة "موسى" مع الفرعون، يكتبها كبير
كهنة، لا بد وأن تخرج رصينة، ليست محمَّلة بأيَّة حوارات، ولا سخريَّات، ولا كلمات
نابية؛ ستكون لغتها إخباريَّة على أحسن تقدير، تحكي بحياديَّة حتَّى وإن كانت
تنتصر لأيديولوجيَّة ما، لا تنغمس في تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ لكن لفائف
"مراد" تحكي التَّفاصيل الدَّقيقة بصياغة مهلهلة، وكأنَّها رواية رديئة
يكتبها أحد روائيِّي "الفيسبوك" كثيفي الانتشار هذه الأيام. ثمَّ كيف
أمكن لـ"كاي" حمل كل هذه الإضمامات، التي تحوي التَّاريخ القديم، ويتنقَّل
بها هاربًا في خفَّة، على نسق الأفلام الأمريكيَّة، وكأنَّ هذه اللفائف
"سيديهايه" عصريَّة، أو شريحة "ميموري"؟! كما لا أفهم كيف
لمترجم، "كاي"، يستعمل قلمًا من البوص، بحبر من رماد، على ورق بردي خشن،
التَّمكن من ترجمة عشرات اللفائف كل ليلة؟!
وقد كان يمكن اختصار هذه الرِّوايات الثَّلاثة في رواية واحدة، هي رواية
"كاي"، التي كانت مؤهَّلة بالفعل للقيام بذاتها كرواية رائعة، لو أنَّ
"مراد" انتبه لهذا الأمر، ولم يهتم بنفخ، ومط، سطوره لتفرض "أرض
الإله" سطوة شكليَّة أيضًا، بعد أن فرضت سطوتها الإعلاميَّة بجدارة!
وعلى أساس كُوِّن من قراءتي لرواية
"الفيل الأزرق"، و"أرض الإله"، والأخيرة هي خامس رواياته،
وبعد تجربة "1919"، فإنَّ على "أحمد مراد" إدراك إمكانياته
الحقيقيَّة الكامنة في كتابة الرِّوايات التشويقية الخفيفة قبل فوات الأوان، تلك
التي يلجأ إليها القرَّاء لنسيان الأمور الجادَّة التي تصدِّع رؤوسهم، من أجل قضاء
أوقات ممتعة يرفِّهون فيها عن أنفسهم، أمَّا القضايا الصَّعبة كالتَّنوير، والتَّصحيح،
وتفكيك التَّاريح، وقلب المعدول، وعدل المقلوب، وهز الثَّوابت، والتعرُّض لضرب النَّار،
فإنَّها أمور يتصدَّى لها روائيُّون آخرون، يمتلكون عتاد المواجهة إبداعيَّا،
ومستعدُّون لدفع التَّكاليف الباهظة دون "ملاوعة من بعيد لبعيد".
وأخيرًا، همسة في أذن
"مراد": أحمد، على أحدنا الاهتمام بتسلية النَّاس، إنَّه عمل غاية في
الأهميَّة فعلًا، يثمُّنه القرَّاء، ويدفعون من أجله بسخاء، أنت تفعله بجدارة،
فاستمر في ما تجيده، فقديمًا قالت الجدَّات: على قد لحافك مد رجليك.

إرسال تعليق