سنة 2008 شاهدت هذا الفيلم سرًّا، في بيت أختي. كانت مندهشة جدًّا، حتَّى إنَّها، في كل مرَّة تقدِّم لي مشروب ضيافة، أثناء متابعتي لأحداثه، تبتسم خفية، ألحظ تبسُّمها بطرف عيني. معها حق تستعجب! كيف لا تفعل وهي ترى أخاها، الغارق في السلفيَّة حتَّى أذنيه، أبو لحية طويلة، وجلباب قصير، و"زبيبة" في قورته، منغمسًا بالكليَّة في مشاهدة فيلم "تايتانيك"؟!
مهما حاول السَّلفي، في مجتمعاتنا المعاصرة، الانغلاق
على سلفيَّته لن يتمكَّن من فعل ذلك بكفاءة قصوى، فقوَّة ضغط الحاضر عادة تتخطَّى
المقاييس الآمنة لتشرخ عقول الجميع بقسوة، والسَّلفي مهما حاول الملائكيَّة يبقى
عنصرًا إنسانيًّا، لن يفلت، يتشقَّق بدوره.
"تايتانيك" فيلم عاصف، يتناول قصَّة ليست
معتادة؛ سفينة عملاقة صُمِّمت ونُفِّذت لتحدِّي البحار، والمحيطات، فتغرق في أوَّل
رحلة بشرخ تافه سبَّبه بروز جليديّ هش!
زيَّن لي شيطاني مشاهدة الفيلم بحجَّة إيمانيَّة، ساقها
نحوي بصوت وجدانيٍّ خاشع: يقولون إنَّها تمثيليَّة تصوِّر نهاية إحدى قصص التَّكبر
الإنساني؟ التمس منها العظة يا أخي المؤمن، كي ترى أنَّ الله أكبر من كل ترَّهات
المتغطرسين!
اتفقت مع أختي، المغرمة بمشاهدة أفلام قناة MBC2، على إحاطتي علمًا بتوقيت إعادة عرض الفيلم. وقد حدث. أخذت عليها العهود، والمواثيق المضمونة، بألَّا يعلم أحد من الأهل والأقارب، أو النَّاس أجمعين، عن فعلتي الشنعاء شيئًا، جلست أمام "التِّليفزيون" الملعون، وبدأت المشاهدة.
استخدم "جيمس كاميرون" الكاميرا، وبعض التِّقنيات الحاسوبيَّة الحديثة، ليقدِّم لنا إبهارًا دام لأكثر من ثلاث ساعات، بينما استخدمت "أسماء هاشم" اللغة، وأسلوبًا هادئًا بسيطًا، لتقدِّم لنا حكاية مقروءة، في ما يقارب المائتي صفحة، من الشَّدو الإنساني الشَّكاء، والشَّكاك، تتغنَّى به في بيئة جنوبيَّة أسوانيَّة، تتماس مع البيئة النُّوبية، لولا أن لا نهر في "صخب القصر المهجور" يخفِّف وطأة الصَّحراء، بينما الأدب النُّوبي شغوف بصحراء يشقّها النِّيل غزلًا، أو طغيانًا!
مجتمعان على سطح السَّفينة، "الأثرياء" المستمتعون بالوفرة، و"الفقراء" المحاولون انتزاع متعهم الصَّغيرة من بين مخالب إرهاقهم اليومي، لم يختلط الأمر على جيمس كاميرون، بل استخدم الإقناع في إخراجه بحرفيَّة ممتازة، لأجدني أُصدِّق قصَّة الحب، غير المبرَّرة بقوَّة، مع كينونتها محورًا رئيسًا، ووحيدًا، شُدَّت إليه كل وقائع الغرق المهولة، ليعكس من خلالها الأجواء المتمايزة ما بين حياة الطَّبقة الأعلى في "تايتانيك" وحياة الطَّبقة الأدنى، شممت هذا التَّمايز، رغم أنِّي أجلس في مواجهة شاشة زجاجيَّة جامدة!
بعد أن كان قصر "كريم" باشا تحفة معماريَّة تسر النَّاظرين، وآية سلطويَّة من آيات القوَّة والتَّمكين، وإذ بدأ كل ذلك يحول، فإنَّ "أسماء" صاغت أيام الانهيار باقتدار، لأرى "تايتانيك" في أوقات بؤسها، و"جيمس كاميرون" يتريَّث كخالق جامد، لا يعبأ بزمن ولا مشاعر، أمام انهيار الأسطورة البحريَّة، وهزيمة الإنسان المتحدِّي لـ"بوسيدون"، يلتقط بكاميرته الرِّحلة الأخيرة نحو الزَّوال، وإلى الفناء. "كريم" باشا يسقط بمصرع ولده الوحيد، وفشله في محاولة مد جذور جديدة كي تضرب في المستقبل لتربط وجوده بالأبد، و"صفية"، سيدة القصر، تزوي، تتحوَّل من امرأة مهيمنة يتمنَّى النَّاس رؤيتها ولو للحظة خاطفة، إلى عجوز مبتذلة، تجلس خلف السور الحديدي للقصر تستجدي العابرين لحظات ونس!
الرِّواية التي لا تعزف موسيقاها مستثيرة حاسَّة السَّمع
لدى القارئ رواية معيبة.
عندما انتهيت من قراءة الرِّواية الأولى لـ"أسماء هاشم"، "المؤشِّر عند نقطة الصِّفر"، انتفض عقلي، فقد جاءت نهايتها كإحدى النِّهايات الأجمل لما كُتب من روايات، إذ هيَّجت إحدى الأفكار الماكرة نحو كيفيَّات تسجيل التَّاريخ، تعرَّضت لأمر إنساني جلل بتفسير طفولي كامل البراءة!
وعلى كل، كم سفينة غرقت هرستها طواحين النِّسيان؟ كم قصر مشيَّد أفل بأفول ساكنيه؟ غير أنَّ "جيمس كاميرون"، و"أسماء هاشم"، عنصران من عناصر إبداعيَّة تواصل تحدِّي الآلهة، تنفخ من أرواحها في الذِّكرى فإذا بها تسعى حيَّة، كأنَّها لم تمت أو ترحل من قبل!

إرسال تعليق