U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

أنا ابن الشِّعر


 
أرى السَّردَ بناية لو لم يكن لها أساس من الشِّعر لما أمكنها التَّطاول في سماء الإبداع.

وأرى أنَّ سرَّ أسرار السَّرد هو كونه أحد صور نظم الشِّعر، حيث يمارس الرِّوائي، أو القاصّ، بعضًا ممَّا يمارسه قارض الشِّعر بخصوص الكلمة، إذ يقلِّبها في وجدانه، يعرضها على المعنى المُراد، مستكشفًا إن كان بمقدورها حمله، وتوصيله كما ينبغي، أم أنَّ طاقتها لا تناسبه فيستجلب غيرها.

إذا وجد الكلمة حمَّالة فإن مشكلة أخرى ستواجه السَّارد البديع شبيهة بتلك التي تواجه الشَّاعر عند اختيار كلمة القافية؛ فالشَّاعر يبحث عن رنَّة الموسيقى في قافية القصيد العامودي، يبحث عنها في شطرات القصيد الحر، يبحث عنها في معانى قصيد النَّثر؛ كأنَّنا إن وضعنا تعريفًا للشِّعر فلن يخرج عن كونه: معان تستنفرها موسيقى الكلمة. أو: معان تراقص موسيقى الكلمة. أو: أي شيء يواكب موسيقى الكلمة.

المهمّ في الشِّعر رنين الموسيقى. وعلى هذا ينتقى الشَّاعر كلماته.

السَّارد أسلوب، الأسلوب رصّ كلمات متجاورة، كلما تلاحمت كلمات الرِّواية، أو القصَّة القصيرة، دون رنين موسيقي كان الأسلوب أحكم.

المهمّ في السَّرد ألَّا يُحدث أوَّلُ حرف من الكلمة المنتقاة أي احتكاك بآخر حرف من الكلمة السَّابقة، ولا أن يُحدث آخر حرف منها احتكاكا بأول حرف من الكلمة اللاحقة، لو حدث  الاحتكاك صار السَّطر الرِّوائي، أو القصصي، مصدرًا للعديد من الأصوات الشَّاذة. وعلى هذا ينتقي السَّارد كلماته.

انتقاء الكلام بدقَّة، وحرفية، لصالح بناء النَّص صنعة الشَّاعر، والسَّارد.

قبل اكتمال العام الرَّابع عشر من عمري انتهيت من حبّ أربع بنات، "عزة" في السَّنة الأولى من المرحلة التَّعليمية الابتدائيَّة. "ألفت" في السَّنة الثَّالثة. "إيمان" في الرَّابعة. "أمل" في السَّادسة. كنت إذا رأيت الواحدة منهن يعتريني خجل مريع، يدفع بي نحو الابتعاد إلى أقصى مكان بعيدًا عنها، فإذا خرجت من المدرسة نسيت حبِّي العظيم! شعور طفولي غير قابل للاشتعال، لذلك لم يضطرم قلبي بالإوار الحارق الذي استعر عند رؤيتي لـ"ابتسام" وأنا طالب في الصَّف الثالث الثَّانوي العسكري؛ إنها في مثل عمري، ناضجة، مهيَّأة للحب، تجمعنا حصَّة درس الرِّياضيات الخصوصي فأحبُّها، يفرِّقنا الشَّارع فأحبُّها أكثر، أعود إلى البيت فأموت في دباديب حبِّها.

أتلقَّط من "الرَّاديو" أغاني "عبدالحليم حافظ"، أتلقَّط من "التليفزيون" أفلام "عبدالحليم حافظ"، و"إنِّي أغرق أغرق أغرق"، في بحر الحب، و"لو أنِّي أعلم خاتمتي ما كنت بدأت، ما كنت بدأت، ما كنت بدأت". أصنع بدموعي بحيرة! أنا أعشقها ولا أعرف إن كانت تشعر بذلك، أخرج في قلب الليل أُحوِّم حول بيتها، رأيتها مرَّة تقف في "البلكونة"، ربما أراها مرَّة أخرى، أُطوِّف بقصر أميرتي، كل عشر تطوافات أراها مرَّة خاطفة! عندما تراني تسارع بالاختفاء مغلقة باب الشُّرفة خلفها.

كيف الخلاص من مكابدة الاحتراق بالشَّوق؟ كيف يفلت العاشق من تأثيرات العدميَّة التي قد تهدمه هدمًا نتيجة عدم تجاوب محبوبه؟ كيف للآلام أن تُفرَّغ قبل تحوُّلها إلى تفجير يبعثر الرُّوح شذرات؟

في الشِّعر منجاة.

انهمكت أكتب شعرًا، عشرات القصائد العاموديَّة ضمَّنتها غرامي وعذابي، دوَّنتها في "كشكول" كبير، منها ما يبلغ الثَّمانين بيتًا! ظلَّ أمر هذا "الكشكول" سرا لا يعرفه أحد، عندما انتهت أولى قصص حبِّي المؤثِّرة، قصَّة البنت "ابتسام"، كتبت أوَّل قصَّة قصيرة، "الإنسان والشَّمعة"، التي أفشيت سرَّها فورًا بعرضها على معلِّم مادَّة اللغة العربيَّة.

لا أتذكَّر أيّ عنوان لأيّ قصيدة من قصائد الحب التي كتبتها لـ"ابتسام"، وفي "ابتسام"!

عندما سألني الأستاذ "محمود منصور"، رئيس نادي أدب "الأقصر" منذ ما يقارب الثَّلاثين عامًا، وأنا أجلس وحيدًا في حديقة "أبو الحجَّاج"، عمَّا إن كنت أمارس أي كتابة، أجبته بأنَّني أكتب القصَّة! ولم أكن قد كتبت غير قصَّتين مقابل أكثر من ثلاثين قصيدة شعر!

في الشِّعر منجاة طالما أنَّك في عهدة حب.

الحب لوحة لا تعبِّر عنها بدقَّة غير حالة شعر. أمَّا السَّرد فإنَّه ملاذ المقتولين بالهجر، طريق لممارسة الفضفضة بالحكي عن الذي كان، والذي جرى.

إذا كان قلب الشَّاعر يرفرف في سماوات ذات طباق من حبٍّ وعشقٍ وغرامٍ، وإذا كان قلب السَّارد يرتحل في صحراء ذات فجاج من هجرٍ وغدرٍ وأوجاعٍ، فأصل الأثنين امرأة تلعب ببراعة على أوتار أنسانيَّتهما، تستنطقها أحلى موسيقى، فيرقص الإبداع.

 

         

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة