حكت لي أمِّي، نقلًا عن جدَّتي، إنَّ امرأة لم يكن يرضيها قليلُ زوجها ولا يعجبها كثيرُه، ساخطة عليه في كلِّ الأحوال، غير مهتمَّة بمطعمه فلا يشبع المسكين من ثمرةِ شقاه وكدِّه؛ فلمَّا فاض به الكيل، بعد سنين من عشرتها السَّيئة، فضفض لصديقه عن حياته البائسة، وكان الأخير خبيرًا بسياسة النِّساء، فقدَّم له خطَّة لحل مشكلته، مفادها: تطليقها ليتزوَّجها بدلًا منه!
قال له الصَّديق بنبرة ساخرة: إنت راجل طيِّب، واللي زي
مراتك دي محتاجة تربية من أوِّل وجديد عشان تتعلِّم ازَّاي تسمع كلام جوزها وتبوس
جزمته.
ثم وعده بأنَّه، فور تعلُّمها هذه الخصال، سيُنهي
المهمَّة لتعود إلى عصمته زوجة طيِّعة، ذلول.
تقول الحكاية الشَّعبية إنَّ الزَّوج، قليل الحيلة،
وافق.
ليلة الدُّخلة، خطت العروس إلى غرفة نومها فرأت قطَّة
تنام في السَّرير، قطَّبت جبينها و"زَغَرت" لزوجها الجديد، وقالت بعجرفة
المتسلِّط: قطَّة في فراشي!
نهر العريس، مروِّض المتعجرفات، القطَّة كي تترك الفراش
فلم تحرِّك ساكنًا، أخرج مطواة من سيَّالة جلبابه، قبض على رقبة القطَّة، ذبحها
أمام ناظري العروس، التي انزلقت عجرفتها من ثنيَّات جبهتها ليتسلَّقها الهلع؛
وبينما الرُّعب يرقص في عينيها قال الرَّجل مبتسمًا ابتسامة جليديَّة: أصلي ما
بحبش اقول الكلمة مرِّتين.
ثم أردف يأمرها: اطلعي السَّطح يا عروسة هاتي لنا
بطِّيخة ناكلها.
قبل أن تفكِّر في غرابة الطَّلب، "بطِّيخة على سطح
بيت في ليلة دخلة شتويَّة!"، هتفت بحنجرة متحشرجة: حاضر.
قطعت أمِّي الحكاية لتعلِّق بالآتي: زين الرِّجال سيدنا
محمَّد قال إن المَرَة مِنِّنا اتخلقت من ضلع عِوِج.
جرت الهانم نحو السُّلَّم، الأجواء صقيع، جلدها يرتعش،
فتَّشت السَّطح فلم تجد أي بطيخ! ولا حبَّة واحدة!
عادت بركبتين متخبِّطتين، صورة رأس القطَّة الطَّائر
تُربك دقَّات قلبها، قالت بصوت ضائع إنَّها لم تجد أي بطِّيخ على السَّطح، فنظر
إليها نظرة ناتئة كنصل المطواة الغارق في الدِّماء، وجزَّ على ضروسه قائلًا: قلت
ما بحبِّش أكرِّر كلمتي مرِّتين.
دارت على عقبيها بأسرع ما يكون وجرت تصعد درجات
السُّلَّم.
قال أبي إنَّ رجل العقود الزَّمنية الماضية أصليٌّ، ورجل
الحاضر عِيرة؛ الأصلي همُّه يضع الهيبة في قلب زوجته، النِّساء يعشقن الرَّجل
الهيبة؛ العِيرة "هيَّاس"، لسانه يقطُر مسخرة، كل همّه
"يتسهوَك" بكلام الحب، كلام الحب يليق بالحريم، أمَّا الرِّجال فإنَّهم
يقومون بأعمال الحب. وقال إنَّ المرأة تلعب بالرَّجل الذي لا تهابه وإن أحبَّته
حتَّى تكرهه، فإن كرهته حوَّلته إلى "شُخشيخة".
عندما تحملني الظُّروف إلى الجلوس على مقاهي وسط البلد،
في القاهرة، أرى الشَّباب الـ"كيوت"، أصحاب الشعور المنسابة على رسلها،
أو في ضفائر، يبرقشون جلودهم بالوشوم الغامضة، يتكلمون بميوعة، يجالسون فتيات
مسترجلات، يُدخِّن الشِّيش والسَّجائر، يرقعن الضِّحكة المدوِّية "ولا أجدعها
فتوَّة في أجعصها حارة"؛ أهمس لنفسي: عليه العوض ومنه العوض! هل يصلح الذَّكر
المهتم اهتماما بالغا بضفائر شعره، وتزيين جلده، لإنشاء بيت حقيقي؟ أقصد هل يصلح
لقيادة امرأة كي تُنشيء له بيتًا حقيقيًّا؟! ربما مثل هذا لا يصلح لأكثر من إنشاء
بيت شعر، يهمس به في أذن بنت تحلم بعشٍ، معلق على غصن حب، يشاركها فيه ملكٌ كريم
لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينجب عيالًا، ولا يمارس حياة طبيعيَّة مشحونة بالمهمَّات
والضَّجر؛ إذا تزوَّج "أبو ضفائر" من "العائشة في الوهم"
حتمًا سينهيان قصَّتهما بالطَّلاق!
عدم جريان دم الحياة في عروق العلاقات العاطفيَّة في هذا
العصر، أيًّا كان نوعها، سببه ما يطلقون عليه "المساواة بين الرَّجل
والمرأة"؛ قرَّر الـ"كيوت" أن يُصدِّق المقولة فصيَّر قلبه مساويًا
لقلبها، ولسانه مساويًا للسانها، حتَّى أعمال الحب المخصوصة بالرَّجل حملت المرأة
أعباء القيام بنصفها! تزهق المرأة من الرَّجل "الطَّري"، قد يعجبها في
"البدء" لكنَّها تلطم صدغيها بكفَّيها عند "المنتهى". الرَّجل
الحقيقي هو الرَّجل المسيطر "الحمش"، الذي "يشخط وينطر" وقت
لزوم "الشَّخط والنَّطر" ثم يُصالح بليونة، يعز قدر وليفته، يمنحها كلمة
الحب كقطرة مطر الصَّيف العزيز، لكنَّها تستقبله بفرحة أرض ظمآنة، وإذا جدَّ الجد،
وباهى الرِّجال بزوجاتهن توَّجها ست
السِّتات.
قلبت الزوجة الخاضعة للتَّرويض السَّطح رأسًا على عقب،
ولا بطِّيخة واحدة، بكت، لكنها عادت إليه، وقفت أمامه غير قادرة على النطق، لكنها
همست: البطِّيخة كبيرة ومش قادرة أشيلها.
قال: بلاها بطِّيخ الليلة دي، تعال نام في ريحي يا قمر.
النِّساء في
نجوعنا يحكين هذه الحكايات، يستنكرن تجبُّر المرأة على زوجها، ينتصرن له، الواحدة
منهن تتيه برجلها الحازم، إذا أرادت تهييج الغيظ في قلب غريمة فاخرتها بأنَّها
زوجة رجل لا يمكنها الكلام بعد كلامه، ولا الشُّورى بعد شورته.
المرأة تنصح ابنها، المقبل على الزَّواج، بضرورة ذبح
القطَّة لعروسه قبل الدُّخول بها: إوع يا ولدي تقولَّها كلام ناعم الليلة دي، إوع،
هاتركبك حمار وتدلدل رجليها، أنا مَرَة وعارفه طبع الحريم، اضربها قبل، وبعدين خد
حلالك.
والحق أنَّ كلام جدَّاتنا منفرٌّ بغيض، مثل مبيد
الحشرات، ستكره رائحته المسترجلات المأفونات، التَّائهات في أودية المساواة
المهلكة، الضَّالات في فيافي تحدِّي فكرة قوامة الرِّجال.
لكن المبيد، رغم رائحته الكريهة، ينقذنا فعلًا من
الحشرات!
كلام جدَّاتنا ليس خاليًا من الحقيقة؛ التَّجارب
الإنسانيَّة التي نعايشها، يوميًّا، تؤكِّد على إنَّه لم يسارع أحدهم، وهو لم يزل
بعد في أوَّل العلاقة العاطفيَّة، إلى التَّعبير عن انبهاره بحبيبة قلبه، وكيف
أنَّها أحيته بعد موات، وأنها نور عينيه في الظُّلمات، و"نخاشيش
مراخينه" في بساتين الزُّهور، و و و.... إلا و رأى النِّهاية السَّوداء لهذه العلاقة
رأي العين؛ فراق بعد حياة مُعذَّبة!
استمتعت الزَّوجة برجولة زوجها "الحِمِش"،
شعرت بأنَّها تواءمت مع نفسها كأنثى لا تكتمل إلَّا لإذا اندمجت برجل قوي، يمكنه
قيادة سفينتها بحكمة ورشاد عن اشتداد العواصف، وعند هدوء النَّوات يُبهج قلبها
بجمال الإبحار وسيولته؛ أحبَّته فأحبَّت الرُّكون إليه، والسُّكون معه، والطَّاعة
له، ونبذت الافتراء عليه.
جاء وقت تطليقها كي تعود إلى عصمة زوجها القديم. أتصوَّر
أنَّها رفضت الطلاق تمامًا، وأنَّها رجته ألَّا يفعل، وأنَّه احتار بين إنفاذ وعده
لصديقه، وبين "الطَّرمخة" من أجل الاحتفاظ بزوجة باهرة الجمال صارت طيبة
العشرة. وإنَّه "طرمخ" بالتأكيد!
في فيلم "ابن حميدو"، ظل "عبدالفتَّاح
القصري" زوجًا طيِّبًا طيِّعًا لزوجة مفترية، لا يعجبها منه العجب، رغم
انصياعه الكامل لها، وما إن صفعها، قرب نهاية الفيلم، رفضًا لتسلِّطها، حتَّى
أطلقت زغرودة طويلة من فرط فرحتها بـ"الحمشنة" المفاجئة التي أبداها
زوجها!
الحكاية الشَّعبية رفضت تصوُّري لنهايتها. قالت أميِّ
إنَّ المرأة عادت، حسب الخطَّة إلى زوجها القديم، بعد انتهاء هيصة الفرح، ساق
العريس زوجته إلى غرفة النَّوم، فرأت قطَّة تنام في الفراش، "زغرت" في
عيني زوجها وقالت بعجرفة المتسلِّط: قطَّة في فراشي؟!
نهر الرَّجل القطَّة فلم تحرِّك ساكنًا، أخرج مطواة من
جيبه وذبح القطَّة، رأت المرأة المنظر فغرقت في دوَّامة من الضَّحك السَّاخر،
وقالت له: والَّنبي يا دلُّوعة أمَّك لو دبحت أسد ما انا مصدَّقاك، دا انا عاجناك
وخابزاك.
ثم شخطت فيه شخطة مهولة: اطلع السطح هات لنا بطيخة
ناكلها، وإيَّاك ترجع تقولِّي البطِّيخة كبيرة ومش قادر تشيلها!

إرسال تعليق