U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

ديني ودين سمعان

 







 

تنقلت بين أعمال ووظائف عديدة، منها إدارة محل في مدينة الأقصر لبيع الأغذية المجمدة (ثلاجة).

كنت سلفيا.. لحية مرسلة، جلباب قصير، ومحافظة متناهية على صلاة الجماعة في المسجد.

في الظهيرة نغلق المحل، ونذهب للصلاة.

نرجع، نلاقي خيرا كثيرا؛ عشرات الزبائن في انتظارنا، بدون ضجر، بل بترحاب وسعة صدر، فنحن نهل عليهم قادمين من الصلاة.

وكان أجملهم ابتسامة زبون منتظم، مسئول عن مشتريات أحد الفنادق السياحية الثلاث نجوم، رضا رباني يملأ وجه أخينا هذا، فأشفقت عليه من مغبة التهاون في صلاة الجماعة، يجب أن يكون معنا في صلاة الظهر، لا هنا مع المنتظرين!

وكانت العادة جرت بيننا أن يجلس بجواري، على الكاشير، حتى يتم إعداد طلبه، فنويت أن آمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة؛ قلت له: يا أخي السماحة ما شاء الله منورة وشك؛ ما تسيبك من الوقفة قدام باب المحل وصلي الضهر معانا في الجامع.

ابتسم وقال: كنت أتمنى، لكن عندي مانع شرعي.

ضحكنا، وأفرطنا في الضحك، عيوننا دمعت، فأنا وهو نعلم ألا مانع شرعي عن الصلاة سوى الحيض، والرجل لا يحيض.

قلت: باكلمك بجد، إيه في الدنيا يمنعك عن صلاة الجماعة غير المرض والموت، ربنا يحفظك ويبارك في عمرك!

ضحك وقال: اللي مانعني يا سِيدي إني مسيحي.

مفاجأة!

مفاجأة غلسة؛ تكسف بجد.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: "اتقوا فراسة المؤمن". فأين فراستك يا عم أشرف يا مؤمن!

اسمه سمعان. حصلت بيننا محبة كبيرة، واستمرت لوقت طويل، حتى بعد انتقالي من السلفية إلى القاهرة، كلما زرت الأقصر لسبب من الأسباب أمر على سمعان في مكان عمله بالفندق، فيضيفني أفضل ضيافة، ثم نواصل الجهاد الإيماني فيما بيننا، يطرح أدلته على أن المسيحية هي الخلاص، وأطرح أدلتي على أن الإسلام هو الحل.

سمعان مِش مسيحي عادي في شعب الكنيسة، إنه جندي يعول عليه، مجاهد كنسي، داعية مسيحي، مُبشر، أو بحسب لغتي السلفية وقتها: مُنصر. و(مُبشِّر) من البشارة، و(مُنصِّر) من النصر، ولطالما أحب النبي، صلى الله عليه وسلم، هذه التسميات المتفائلة، حتى أنه  غير أسماء ناس وأماكن ذات مدلولات جهمة، إلى أسماء سمحة بشوشة.

وكانت حركة التنصير في الأقصر على ودنه، خصوصا وأنها مدينة ذات كثافة مسيحية عالية. حرب ناعمة لا تظهر في العلن، الخشونة من تحت لتحت، نشطت سلفية مسيحية لتجابه السلفية الإسلامية النشطة، ميني باصات تجوب الشوارع عصر كل يوم تجمع أطفال المسيحيين إلى الكنيسة، وصلوات، وتعاليم، وإعداد لإيمان مسيحي راسخ، وفي الشوارع زرافات من أطفال المسلمين يذهبون إلى المساجد لحفظ القرآن، وتعلم الشعائر، من أجل إيمان إسلامي راسخ. فضائيات إسلامية، وفضائيات مسيحية، كاميرات وميكروفونات موضوعاتها: من أسلم، ومن نصرن!

بينما على بعد آلاف الأميال، ربما غربا، ربما شمالا، رُسمت مخططات تقسيم مصر إلى خمس دويلات، إحداها دويلة مسيحية، وفتيل إشعال المخطط ينتظر شرارة شاردة، أو موجهة. الاستقطاب الحاد هو القداحة التي ستولد الشرارة يوما ما، وسيتم العمل على تحويل الشرارة إلى نار جهنم، بحيث يحق للمجتمع الدولي المطالبة بدويلة للمسيحيين في مصر، أو منطقة حكم ذاتي.

ويتحقق النموذج السوداني.

أما الأصل، فالعداوة بين المسلمين والمسيحيين ـ في مصر ـ مُتوهَّمة.

صُبَّ في دماغ المسلم أن المسيحي عدو، يلِف بدماغه حوله يبحث عن هذا العدو، فلا يجد، المسيحيون حوله ما بين جار، أو زبون، أو صاحب خدمة، وصُبَّ في دماغ المسيحي أن المسلم عدوه، وهكذا. المشاكسات بينهما نتيجة حتمية للحياة في مكان مشترك، تقع بين مسلمين ومسلمين، حتى القتل والاعتداء على البيوت والكنائس، يقع أفتك منهما بين المسلمين.

وأوقع ما يؤكد اطمئنان الإسلام للمسيحية اطمئنانا تاما هو إجازة زواج المسلم بمسيحية، هذه المسيحية ستكون أم أولاده، وسيأتمنها عليهم، وعلى دينهم الإسلامي، عندما يغيب بأسفار طويلة، تجارية، أو جهادية.

وفي الإسلام عيسى هو المسيح ابن مريم، أو المسيح ابن مريم هو عيسى، وهو ذاته من يؤمن به المسيحيون، غير أنهم يؤمنون به إلها خالقا للكون، والإسلام يرفض هذا الإيمان، فالإله لا يتأنسن، ليس لعدم قدرته على ذلك، وإنما تنزيها له عن التضام والتصاغر، خاصة وأنه عندما فعل (بحسب الإيمان المسيحي) لم يجد من البشر إلا الإهانة، وقلة القيمة، والسفالة، والانحطاط، ما ترتب عليه حصول مشكلة كبرى: البشر قتلوه صلبا!

ثم ترتبت على تلك المشكلة مشكلة أكبر، أعجزت الفهم الإنساني: هذا الآب متقلب الحال! غضب على البشرية، فأغرقها جمعاء، وأغرق كل المخلوقات، بذنوب لم تبلغ عشر معشار جريمة إهانة ابنه وتعذيبه حتى الموت! مع ذلك تلقى الآب الواقعة المفجعة برضا، بل أكرم الجنس البشري المجرم بأن اعتبر الجريمة تكفيرا عن خطية آدم! كيف لجريمة قتل أن تكون تكفيرا وغفرانا!

أهز رأسي مثل حمار تنرفزه ذبابة، وأحزق قائلا:

ـ مش فاهم يا سمعان! عقلي مش قابلها. حتى الفنتازيا لها حدود قبول ورفض.

ـ بص، هو موضوع صعب عليك تفهمه.

إذا بلغ بمحاورك أن يقول: الموضوع أصعب من أن تفهمه؛ اعلم أنه هو نفسه لا يفهمه.

بالأخير انتهت الإنسانية إلى إقرار إله مسيحي لا يمنح خلاصه إلا للمؤمنين به فقط! ومن لا يؤمن ابن البطة السوداء، يُلقى به إلى أرض البكاء والندم!

هكذا، وعلى عكس ما يشاع، لم يمت المسيح على الصليب فداء للبشرية كلها، بل فداء لمن يعترف به فقط.

اختلافات عقائدية عسيرة الهضم، مع ذلك لم تمنع العرب من حب المسيحية، وإجلال رهبانها، والتعايش معهم بسلام؛ ومن منهيات النبي، صلى الله عليه وسلم، لجيوشه ألا يزعجوا راهبا في صومعته. والمأثور الإسلامي زاخر بالبشارات المحمدية أُطلقت على لسان رهبان استخرجوها من أناجيلهم. ثم أوصى النبي مسلمي كل مكان وزمان بالبر إليهم، حتى أن الله، عز وجل، لم يأمر بالبر في قرآنه الكريم إلا للوالدين ثم للمسيحيين، لأن منهم قسسيسين ورهبانا، وأنهم قوم لا يستكبرون.  

الذين قالوا: إنا نصارى.

و(النصارى) في السلفية الإسلامية إكرام وإعزاز، أي: الذين نصروا المسيح. أما (المسيحية) فانتماء لشخص وتبعية له؛ لذلك يرفض السلفي أن يوصف المسلمون بالـ(محمديين)، بل هم (مسلمون)، لأنهم أسلموا وجوههم لله.

أما بالنسبة لي، فالمسيح يمثل بعدا آخر.

هو أحد أعظم مفاتيح العلم المودعة في القرآن الكريم، الرسالة المخبوءة ذات الشفرة، وأظن أنني فككت الشفرة، وفهمت الرسالة، وعلى هذا الأساس كتبت روايتي "ضارب الطبل": الإنسان ماض في طريق العلم بعزم، ولن ينتهي قبل ممارسة الخلق، وإحياء الموتى. المسيح هو الإنسان الذي يسعى لامتلاك قدرات إلهية.

كلام مِش على هوى المسلمين، ولا على هوى المسيحيين، لكنه كلام قابل لأن تثبت المعامل في دروب العلم صحته.

وبُكره، يا سمعان، الإنسانية تقعد على الحيطة، وتسمع الزيطة.

تعليقات
19 تعليقًا
إرسال تعليق
  1. الله ❤️

    ردحذف
  2. الطاهر الطيب16 سبتمبر 2022 في 1:21 م

    مقال ممتع ومثير للأهتمام وللبحث أستاذ وفعليا نحن محتاجين لأمثالك وأمثال سمعان كثيراً في هذا العالم

    ردحذف
    الردود
    1. شهادة نعتز بها حبيبي .. فعلا .. نحتاج إلى مساحات رحبة من التسامح .. في وقت كل شيء يحض على التنافس والكره.

      حذف
  3. منشور رائع وماتع لابعد حد ... عدا اخر فقرة ، هل برايك سيخلق الانسان شيئا ؟ والقران يقول ان البشر لن يخلق ذبابة
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)

    ردحذف
    الردود
    1. أولا : شكرا لاهتمامك بالقراءة والتعليق .. ثانيا: طبعا لن يستطيع الإنسان خلق ذبابة لو أنه سيخلقها من العدم .. كما ان سيدنا المسيح (في عقيدتنا الإسلامية) لم يخلق شيئا من عدم وما كان له ذلك .. لكنه خلق من مادة أوجدها الله بالفعل .. وهكذا الإنسان مستقبلا يخلق مما خلق الله أولا .. ثم ربنا أمرنا بالتامل في مخلوقاته .. تأمل كمان إلى ما صنع الإنسان من أمور أشبه بالإعجازية .. لتعرف أنه بالفعل في طريقه إلى الخلق (المشروط). والله أعلى وأعلم.

      حذف
  4. رائع وجميل

    ردحذف
  5. "المسيح هو الإنسان الذي يسعى لامتلاك قدرات إلهية"
    عذرا لي تعليق علي تلك الجمله فالقرآن واضح جدا
    { وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ }
    [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٤٩] وبإذن الله أيضا سخر الله لسليمان الريح والجن والطير وكل هذا بإذن الله
    المقال في مجمله رائع وأراك كاتبا ذكيا تريد إحداث التوازن الشديد لإرضاء كل الأطراف.

    ردحذف
    الردود
    1. المسيح الذي أقصده في المقتطف بأول سطر من تعليقك ليس المسيح الشخص ولكن المسيح الرمز .. وسيدنا المسيح عليه السلام مارس فعلا سماه الله الخلق .. وأوضح الفقهاء أنه خلق محدود مشروط .. ليس مثل الخلق الإلهي المطلق .. فالمسيح خلق من الطين .. والطين مادة الخلق الأولى من الله .. فالمسيح لم يخلق من عدم .. وهكذا الإنسان مستقبلا .. سيخلق .. لكن ليس من عدم . الله وحده سبحانه وتعالى القادر على الخلق من عدم . والله أعلم. وشكرا جزيلا لاهتمامك.

      حذف
  6. المقال مدهش، عميق بوضوح، حكيم ببساطة، واقعى جدا فى تخيلاته، لاسقف له فى تنبؤاته، صادق فى تصوراته.

    ردحذف
    الردود
    1. شهادة أثلجت قلبي .. شكرا للطفك وذوقك.

      حذف
  7. الله عليك ياعم اشرف

    ردحذف
  8. الحقيقة أنا باسعد جدا لما القارئ ينتبه لجمالية ما في مقالي .. أنت التفت إلى جمالية "يعد انتقالي من السلفية إلى القاهرة" .. فأشكرك .. المخطط موضوع .. والتنفيذ جار على قدم وساق .. وأكتر حد بينفذ المخطط مش المتدينين من الجهتين .. لأ .. الحكومة الرشيدة بتاعتنا .. الحكومة لازم تحط على كل كنيسة حراسة .. من إيه؟ .. رسالة بتوصل بها للمسيحي إن المسلم عدوك ولو شلنا الحراسة هايحرق كنيستك .. فيخلى المسيحي دايما في حالة فزع وعدم اطمئنان للمسلم .. طيب حتى المسيحيين مش راضيين بوجود الحراسة .. وهما مش معتبرينها حراسة .. أسقف كل كنيسة فاهم إن الحراسة في الحقيقة رقابة على الكنيسة .. الحكومة مش بتنظر في حقوق المسيحيين المدنية .. نوادي كرة القدم الخالية من اللاعيبة المسيحيين .. قصة الطفل شنودة اللي اتلقى في كنيسة مع ذلك صمموا يخلوه مسلم .. سلوكيات الحكومة هي ما تدفع باتجاه الانفجار .. كمان الأدباء والمفكرين اللي شغالين على شيطة الإسلاميين في مقابل ملأكة (ملايكة يعني) المسيحيين .. ده بدوره بيعمل حالة محاددة بين الفريقين . ولا حل إلا من جهة مثقفين يستوعبون الطرفين بمحبة حقيقية .. المثقف من النوعية دي نادر ندرة الزئبق الأحمر . هو بيضة الديك. وشكرا لمداخلتك القيمة.

    ردحذف
  9. نفع الله بك

    ردحذف
  10. موضوع ممتاز ومثير ومثمر تحياتي لروائع حروفك

    ردحذف

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة