U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

الفَرَس ليس حُرًّا


 


وكان طبيعيًا أن تقوم الحرب بين نجعنا ونجعهم، فلم يكن طيبًا بالنسبة لنا أن تدوس أقدامهم على حقولنا، ولا أن تجرى مياههم في مسام طيننا، إنهم احتلونا لزمن، وكان طبيعيًا أن تقوم الحرب، وقتها أَمَر العمدة بِقَرْعِ الطبول بعد زوال شمس الغروب، واستمر القَرْعُ حتى ظهور شمس الشروق، وكان قرع الطبول يَرُجُّ صمت الليل، ولم تَنَمِ النخيل ولا الزروع، واهتاجت أعصاب الريح فعصفت، وطيور البراري طارت فى الهواء العاتي وتخبطت بجنون، وفى البيوت القلقانة كان الرجال يَسِنُّون شفرات الطوارى والبُلَط وأسنان المناجل، وكانوا ينظفون مواسير البنادق، ويملأون خزائنها بالرصاص.

 

فى هذه الليلة أرسل العمدة ثلاثة من رجاله الى ثلاثة من رعاياه، وكل رسول طلب من المرسل إليه أن يبدأ العمل الجليل، وكل مرسل اليه قال: "من أجل النجع حاضر".

فذهب الأول ومر على كل البيوت، وأخذ منها كل البهائم، جاموس وبقر وجمال، حتى القطط والكلاب، وجمعها كلها خارج النجع فى الناحية التي سيبدأ منها الزحف.

أما الثاني فإنه وقف فى الساحة الواسعة التي أمام مسجد النجع، ووضع على جانبي فمه راحتي يديه، وأطلق صياحا مثل عواء الذئب، ولم يمر وقت طويل حتى كانت أسراب الطيور تملأ السماء المعتمة، وتحط على البيوت، وتتعلق بأي بروز، لقد كان شكل مئذنة المسجد المارقة في السماء مذهلا وهي مغطاة تماما بأجساد الطيورالتي ترفرف أجنحتها في مواجهة عصف الريح، مئات الآلاف من الأجنحة تضرب الهواء فتحدث صوتا مهيبا! وخلال هذا كانت الطبول تقرع، وصداها المتماوج مع الهواء يرتد مثل نبض قلب مارد عملاق جالس على سن جبل الغروب، وقوارب صغيرة مملوءة بالبشر تعبر النهر من ضفته البعيدة إلى ضفاف نجعنا، وضفافنا وقفت عليها أعداد لا تحصى من ناسنا الذين يسكنون النجوع الأخرى، وكان الرجل الثالث يخطب فيهم وهو يزعق.

 

وعندما جاء الصباح، وخرج قرص الشمس البرتقالي كله من خلف سن جبل الشروق، بدأ الزحف، كان العمدة راكبًا فرسًا، كان هو الوحيد من بين كل الناس الذى يركب فرسًا ولا يسير على قدميه، وكان الفرس هو الوحيد من بين الحيوانات الذى ليس حُرَّا، كان جيش الناس والبهائم يسير حثيثًا على الأرض بينما تظلله أسراب الطيور، غربان، وبوم، وهداهد، وحمام، وآلاف الأشعة اللامعة تبرق وهى تنطلق من الشفرات المسنونة إلى السماء.

ولم تكن الشمس قد وضعت قدميها بعد على أول درب الضحى عندما قامت الحرب فعلاً، ولم تكن الحرب سهلة، إن نجعهم كان قد استعد أيضًا لما سمع قرع طبولنا، وعلا واختلط صوت ارتطام الطوارى برنين التقاء أسنَّة المناجل، وعلا واختلط زعيق الدَّاعي إلى الحرب بأنين المجاريح وحشرجات القتلى، والبهائم جرت في كل مكان وهى ترفس وتنطح وتغرس حوافرها ومخالبها في بطون الواقعين على الأرض من الناس.

لم تكن الحرب سهلة.

إن طائر الإوز الذى استطاعوا أن يدربوه على الطيران والحرب كان قادراً على قتل عشرة عصافير من عصافيرنا بضربة جناح واحدة، وكان الغبار زعابيب زعابيب، لكن كنا نتقدم، وكل شبر من أرضنا يعود لنا وتدوسه أقدامنا نسمعه يزغرد، وسلكت الشمس درب الضحى، ووصلت إلى قلب السماء، واستراحت قليلاً تحت شجرة النور، ثم واصلت طريقها إلى سن جبل الغروب، وكان نصفها لم يزل ساطعًا عندما انهزم نجعهم تماما، إنهم أعطونا ظهورهم وفرُّوا، وركضنا خلفهم، وفوقهم طيورنا تنقر رؤوسهم، وعبرنا شريط السكة الحديد الذي هو الحد الفاصل بين أرضنا وأرضهم، وانطلقنا نحو بيوتهم، لقد كان صياح حريمهم مؤلمًا وهن يهرولن إلى خارج البيوت التي حطمنا بواباتها واجتحناها، وخرجنا منها ونحن نحمل أطقم الشراب النحاسية، والأطقم الفضية، والأطقم الصيني، وحملنا الأَسِرَّة وكراسي الخيزران، لقد نهبناهم تمامًا، حتى ملابسهم لم نتركها، وكم كان مشهدنا مهيبًا ونحن عائدون، الطبول تقرع قرع النصر، والمزامير البلدي تصدح، والطيور في السماء تتصايح، والبهائم اختلطت أصواتها العالية بتكبيراتنا، كان يومًا عظيمًا ومبهجًا، رغم أن هناك "ناس" ماتوا مِنِّا، حوالي أربعة أنفار، لكن الذي ضايق كل أهل النجع هو إصابة العمدة في عاتقه إصابة شديدة، وفقد الفرس الذي كان يركبه!

 

وكان طبيعيًا أن يموت العمدة بسبب إصابته الشديدة في عاتقه.

ولم يختلف الناس كثيرا على العمدة الجديد، فهو واحد من الثلاثة الذين قادوا أركان الحرب، وبالتحديد كان هو الذي قاد البهائم، وقعد الرجل على الكرسي الفخم فى الدوَّار، وأمر مجموعة أوامر كانت كلها صالحة، لكن الأمر الذي نال استحسان أهل نجعنا، هو بناء مقبرة فخيمة لعمدتنا الذي قاد الحرب ومات بسببها.

وعلى عجل بُنِيَت المقبرة، وكانت فعلاً مقبرة فخيمة من الآجر المحروق، تعلو لتأخذ شكل قبة مثل قُبَب الأولياء المَيِّتِين، وغُرِسَت حولها أشجار جميز وكافور عالية، وتحاكى الناس بهذا الصنيع، وراحوا للعمدة ليشكروه على وفائه للعمدة القائد، وقالوا له إنهم يعرفون كيف كان يقود البهائم فى يوم النصر بحكمة الثعبان، وقوة الأسد، ومكر الثعلب. وقالوا له: "إن فَرَسَنَا مفقود". فقال لهم "أعرف. أعرف".

وفي يوم طلعت شمسنا فَمَا وجدنا العمدة واقفًا فى "برندة" الدوَّار كعادته كل صباح، وإنما وجدناه جثة وحريمه يصرخن عليه.

وعندما وضعناه مكفنًا على الخشبة، وخرجنا به إلى الجبانة، أحسسنا أنه عندما نعود من الدفن لابد من تنصيب عمدة جديداً، ولم يختلف الناس كثيراً عليه، لقد كان هو أيضًا أحد الثلاثة الذين قادوا جيشنا في يوم الحرب المجيدة، وبالتحديد كان هو الذي قاد الطيور.

وأَمَر الرجل أوامر كان أغلبها صالحًا، لكن الأمر الذي نال رضا أهل النجع هو بناء مقبرة للعمدة الذي قاد البهائم.

وبُنِيَت المقبرة على عجل، وكانت مقبرة رائعة من الطوب الأحمر والأسمنت، ودهنت بالزيت الذي لونه لون الزرع، وأُلحق بها غرفة للزوَّار، ليأكلوا فيها ويشربوا الشاي والقهوة، كما مُهِّد لها مدخل طويل وُضِعَت على جانبيه أصص الزهور الملونة.

وتحاكى الناس بهذا الصنيع، وراحوا للعمدة الثاني يشكرونه على وفائه للعمدة الذي قاد البهائم، وقالوا له: "طيورك كانت أول من نقرت بمناقيرها أبواب المجد، وأول من هشمت بأجنحتها أسوار الذل، لكن الفرس ما زال مفقوداً!". وقال لهم العمدة: "أعرف".

وفي يوم طلع القمر البدر فما وجدنا العمدة في ردهة الاستقبال مع زواره يتدفأ على وهج الْبَصِّ الملتهب في المجمرة، وإنما وجدناه جثة ساقعة وعياله عليه يبكون.

وكان موكب دفنه الذي سار في نصف الليل مزلزلاً للقلوب، آلاف الكلوبَّات ترفعها الأيادي لتضئ الطَّريق، وظلال النخيل والأشجار ضخمة تقع على وجه الحقول، وكَشْح الأقدام للأرض يثير الغبار، وحفيف خَبْط قماش "الجلاليب" بعظام السيقان المهرولة يعلو.

كان الموكب مزلزلاً للقلوب حقًا، لكنَّا كُنَّا نفكر فيمن يكون العمدة الجديد، ولم نختلف كثيراً عليه، لقد كان ثالث الثلاثة، هو الذي قاد البشر.

وفى الدوَّار قعد الرجل على الكرسي الوثير، وأَمَر مجموعة أوامر كان منها ما هو صالح، لكن الأمر الذي نال به محبة الناس في نجعنا، هو بناء مقبرة تليق بالعمدة السابق قائد الطيور، وبالفعل بُنِيَت المقبرة، وكانت حسنة، وأهم ما ميَّزها هو بناء مسجد جوارها له مئذنة مُكْتَنِزة.

وتحاكى الناس بصنيع العمدة الجديد، وراحوا له وشكروه على الوفاء، وقالو له: "حسن قيادتك للبشر فى يوم الحرب نصرتنا يا عمدة، لكن فَرَسَنَا مفقود". فقال لهم العمدة: "وماذا أفعل؟ دعوكم من الفرس، إنَّ قطعة خبز تأكلونها الآن أفضل من الفرس، إنَّ قطعة قماش مُهْتَرِئة تدارون بها عوراتكم أفضل من الفرس". لكن جماعات من ناسنا وأهلنا لم ترض بكلام العمدة، وأخذوا يزعقون في حواري النجع وحقوله يطالبون بالبحث عن الفرس، وبدأ هؤلاء يعملون المشاكل، وتحرَّشوا بخفراء العمدة حتى جرى بينهم دم، والعمدة ارتبك، لكنه أَمَر مجموعة أوامر، أهمها أن يجرى الخفراء دوما وراء هؤلاء الذين عَصَوا ويقبضون عليهم، والتهب نجعنا، وفى ليلة مظلمة لم يكن فيها قمر ولا نجمة، سمعنا صوت أعيرة نارية تُصَفِّر، ثم صوت صراخ نسوة قادم من الدوار الكبير، وعندما جَريْنا إلى هناك، وجدنا العمدة جثة مُثقَّبة يتفجَّر منها الدم، عيناه مفتوحتان تنظران إلى السماء نظرة حيرانة، كان منظره مثيراً للحزن، وكل الناس بكوا عليه، ولم يشأوا أن يدفنوه دفنة عادية وهو الذي مات ميتة غير عادية، لذلك دعوا إلى قرع الطبول، وكان قرعًا جنائزيًا يوقف الشعر، دقة عميقة ثم بعد زمن تتبعها دقة عميقة أخرى، لم يسمع أحد في هذه الليلة وشوشات النخيل، والقوارب الصغيرة عبرت النهر قادمة من الضفة البعيدة مشحونة بالناس، وازدحمت أرض نجعنا، وفي طلعة الشمس سار موكب الجنازة إلى مقبرة العُمَد، وبعد الدفن أحسسنا أنه لابد من عمدة، وأحسسنا أن الناس هذه المرة سيختلفون على العمدة الجديد بعد رحيل كل من قادوا أركان الحرب المجيدة، لكن الناس لم يختلفوا، فبعد أن عادوا من المقبرة، وجدوا رجلاً من أهلنا يجلس على الكرسي في الدوَّار، وحوله عشرون رجلاً يعلقون البنادق على أكتافهم، وزعق فيهم هذا الرجل وقال إنه العمدة، وأَمَر مجموعة أوامر، أولها أن يذهبوا من أمام وجهه إلى حيث الحقول ليرعوا الزرع، وثانيها أن يسهروا في الليل، فربما يسمعون صهيل الفرس المفقود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كُتبت قصص مجموعة "الفَرَس ليس حُرا" بين عامي 1995 و2002 الميلاديين.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة