بما أني أعيش وحدي في "القاهرة"، لأن عائلتي الصغيرة فضَّلت البقاء في أعماق صعيد "مصر"، فليس أمامي، كي أسد جوعي، لمَّا يشتد، إلا اللجوء للمطاعم، لآكل ما أعرف صنفه، ولا أعرف كيف أُعد، وكان هذا يقلقنى بعض الشيء، لكن، وبعد التجارب العديدة، صرت أتخير وجبات معينة من مطاعم محددة، كانت منها وجبة مفضلة، آخذها كل أسبوع مرة، من مكان محترم جدا، "مطبخيا" وتاريخيا!
وجبة سمك "ماكريل" مشوي، من محل لشواء
الأسماك، يقع فى حي "الجمالية" من "القاهرة القديمة".
وفي يوم "الجمعة" من كل أسبوع، هذا اليوم الذي
أحرص على أن أجعله يوما فاطميا، أصلي في أحد المساجد العتيقة، المرصوصة على طول
شارع "المعز"، ثم أذهب إلى مقهى صغير في حارة "السنَّانين"،
لأشرب كوبا من الشاي، ثم أمضي بعدها، تقودني معدتي، إلى هذا المشوَى، لأشتري وجبتي
ساخنة.
المشي، في هذه المنطقة، يحقق لروائي مثلى متعة كبيرة،
مثل تلك التي تتحقق لقرصان يجوب البحار، متهيئا للحظة يقع فيها على كنز الخريطة.
"الجمالية"، وشارع "المعز"، بحر
حكايات، والأشطر يصيد، وعلى عينيك أن تنتبها، طوال الوقت، لبقايا التاريخ المجيد
الذي عاشته دولة الخلافة الإسلامية في هذه الحاضرة، فالإنسان المصري، في تلك الأيام
القديمة، كان يمشي فى هذه الشوارع متباهيا بمكانة دولته، معتدا بها، تماما كما
يمشى الآن الأمريكي في شوارع "مانهاتن" مثلا، أو الفرنسى في
"الشانزليزيه"، وعليك أن تشم بأنفك رائحة الفخر التي تفوح من تلك
العمائر الضخمة، مساجد، ووكالات، وبيوت أمراء مماليك، وعثمانلية، وحتى بيوت
التجار، وموظفي الدولة العاديين، كما أن على أذنيك أن تتابع لطائف، وطرائف، ما
يجري بين الناس، فيكاد ألا يكون هنا غرباء، ولكن ستجد، بالتأكيد، اغترابا ضرب
بأطنابه بين الناس، اغترابا سببه تسارع رهيب للمبادئ، والقيم، نحو الدنو، فصار
الصغير لا يهتم لكبير، ولا الكبير يأتلف مع من لا يظهر له الاحترام، والطبائع
المبتذلة التي تصطنعها شاشات السينما، والتليفزيون، شكلت موضة أخلاق، عبثية، صبغت
هذه الأيام بصبغتها الكالحة.
صليت الجمعة في جامع "الحاكم بأمر الله"، آخر
شارع "المعز"، وقصدت مقهاي الصغير في حارة "السَّنَّانين"،
وطلبت الشاي، وقررت هذه المرة أن أذهب إلى شوَّاء السمك من منفذ هذه الحارة، الذى
ينفتح على شارع "التمبكشية"، لأشتري وجبة غدائي المعتادة.
ولم أمش طويلا حتى طالعت عيناي هذا المبنى المهيب، عمارة
ضخمة، مشيدة على الطراز المملوكي؛ فها هي المشربيات العالية البارزة، والمقرنصات
المتداخلة، وبوابته الخشبية العتيقة.
مبنى قديم جدا، ورغم قدمه احتفظ بكامل بهائه وروائه،
ليجذب المبنى كامل انتباهى، ويثير فضولي، فنظرت من بوابته الواسعة، المفتوحة إلى
داخله، لأرى فسحاية واسعة، مكشوفة للسماء، تدور حولها ما يشبه الحوانيت، التي
تعلوها طبقة أخرى من غرف مطلة على طرقة ممتدة يحيطها درابزين خشبي، ثم طبقتان
أخريان برزت منهما مشربيات اصطفت بتناسق بديع.
هذا الشكل المعماري لا يتفق إلا مع وكالة مملوكية، فسألت
حارس المبنى عن ماهية هذه العمارة، فأجابني بما توقعت، فسألته عن اسمها، وأنا أظن
أنه سيذكر لي اسما مملوكيا فخما، أو عثمانيا مهيبا، من تلك الأسماء التي وردت في
تاريخ "الجبرتى"، أو في بدائع "ابن إياس"، فإذا به يخبرني
بأنها لرجل يقال له "بازرعة"! اندهشت طبعا، فلم أسمع، أو أقرأ، من قبل
هذا الاسم العجيب، "بازرعة"، ولما رأى دهشتي، قال: تاجر يمني اشتراها
قديما من ورثتها.
واستدرك: تعال يا أستاذ يوم "الأحد"، أو
"الإثنين"، وستجد من المهندسين والموظفين بالداخل من يجيبك عن كل
الأسئلة التي في رأسك.
مهندسون،
وموظفون!؟
لا يجب أن يكون داخل هذا المبنى التاريخي مهندسون، أو
موظفون، وإنما من الممكن أن يكون به مرشدون سياحيون مثلا، بدا التعجب على وجهي،
فقال وهو يبتسم: "مصر" بلد العجائب.
قلت له: هذا معلم أثرى تقف الآن لحراسته، تناوله الأدباء
فى رواياتهم وأشعارهم، وكتب عنه المؤرخون والباحثون، هل قرأت شيئا من كل هذه
الكتب؟
كان جهاز "اللاسلكي"، الذي في يده، يصدر
"شخشخة"، وأصوات آدميين غير واضحة، ابتسم وقال: لم أقرأ أي كتاب،
المعايش لا تمنح الفرصة كي نمارس هذا الترف، لكني أعرف أن "نجيب
محفوظ" كتب كثيرا عن هذه الأماكن.
ومضيت إلى شوّاء السمك، وأخذت "الماكريل"
المشوي، ومشيت في شوارع "الجمالية" أملأ صدري بعبق التاريخ.
في يوم "الإثنين" عدت إلى وكالة
"بازرعة"، ودخلت من بوابتها الضخمة إلى ساحتها بعد أن دفعت رسم الدخول.
لم أكن مقتنعا باسم "بازرعة" هذا، وكنت أتشوق
لمعرفة اسمها الحقيقي، لابد أن هذه الوكالة، لأمير مملوكي، أو عثماني، من هو؟
كنت أحتاج إلى معلومات مبدئية تساعدني على فهم ما أراه،
ودلني أحدهم إلى باب من أبواب هذه الحواصل المرصوصة حول الصحن الواسع، قال: ستجد
هناك مكتبا تابعا للمجلس الأعلى للآثار، سيزودك بالمعلومات التي تريدها.
إذن.. بالفعل هناك موظفون لهم مكاتب في الغرف الأثرية!
دخلت المكتب، الذي بالأصل كان "حاصل" لتخزين
البضائع، منذ ما يزيد على مائتى عام!
الحاصل ـ أو المكتب الحكومي الآن ـ ضيق نسبيا، سقفه مقوس
إلى أعلى، لا تزيد مساحته عن ثمانية عشرة مترا مربعا، يخلو من أي جماليات أو
زخرفة، على غير عادة القدماء في البناء والتشييد، بل إن ترميما جرى أصابه بالقبح،
فكل الجدران، والسقف، مطلية بطبقة من الأسمنت، وفقط. هل كانت هناك زخارف طمسها هذا
الترميم الجائر، أم أن القدماء تعاملوا بواقعية مع مكان ليس أكثر من حاصل لتخزين
البضائع؟ ولم يكن في أذهانهم أن هذه الحواصل ستتحول، بعد مئات السنين، إلى مكاتب
حكومية يلزمها بعض الزينة!
طلبت من السيدة، التي تجلس خلف مكتب متهالك من الصاج
الكالح لونه، بينما مروحة كهربائية موضوعة على الأرض تدور يمينا وشمالا وهي تئز
تعبا ومرضا، معلومات عن المكان، وكأنها وقعت في حرج، إذ أنها قالت، فيما يشبه
الارتباك: ليس لدينا معلومات كافية هنا، لكن يمكنك أن تجد الكثير منها في مكتب
البحوث الأثرية الملحق بجامع "القاضى عبد الباسط"، أو فى
"القلعة".
قلت لها: "القلعة" في حي "السيدة
عيشة"، بعيدة، سأذهب إلى جامع "القاضى عبد الباسط"، لكن اعطني
معلوماتك غير الكافية الآن، لتفيدني، ولو قليلا، في جولتي الحالية داخل المكان.
صورت لي، مشكورة، ورقة وحيدة، انتهت المسطور فيها بجملة
غير مكتملة، تؤكد أن هناك أوراقا أخرى يجب أن تتبع هذه الورقة، لكنها غير موجودة!
فعلا، الورقة منزوعة من بحث ما، إذ أنها تحمل، في ترتيب
الصفحات، الرقم 373، كُتب في أوسطها، من أعلى، "وكالة بازرعة"، ثم تاريخ
بنائها، الذي حُدد بـ1162 الهجري، المقابل للعام الميلادى 1749، ثم رقم تسجيل
الأثر، وكان (398)، جاءت فيها معلومات
موجزة جدا، لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها بالكاد تسد الرمق:
"الموقع: تقع هذه الوكالة بشارع
"التمبكشية" المتفرع من شارع "الجمالية"، ويحدها من الجنوب
الشرقي مدرسة جمال الدين الأستادار، ومن الشمال الغربي بقايا وكالة "عباس
أغا"، ومن الشمال الشرقى شارع "التمبكشية"، وتقع على خريطة الآثار
الإسلامية رقم 1 بالمربع 4 ح (خريطة 7)".
وعن تاريخ الإنشاء: "ورد بفهرس الآثار الإسلامية
أنها ترجع إلى القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، ويرجع أصل البناء
إلى ما قبل ذلك بكثير، فهي ترجع إلى سنة 811 هجرية، المواكبة للعام الميلادي 1408،
أما البناء القائم الآن على أرض الوكالة، فيرجع إلى التاريخ المذكور أعلاه".
ثم تناولت الورقة معلومات عن وصف لموقع وكالة
"بازرعة" قديما: "كان موضع هذه الوكالة في الدولة الفاطمية أحد
أبواب القصر الشرقي الكبير، وهو المعروف باسم "باب الريح"، وكان بابا
مربعا يسلك فيه من دهليز مستطيل مظلم إلى حيث المدرسة "السابقية"، وعرف
في الدولة الأيوبية بـ"باب قصر ابن الشيخ"، وظل على حاله إلى أن هدمه
الأمير "جمال الدين الأستادار" سنة 811 هجرية، الموازية للعام الميلادي
1408، وبنى في مكان الدهليز المذكور القيسارية الكبيرة ذات الحوانيت والسقيفة
والأبواب الجديدة..".. وتنتهي الورقة.
تحيرت أكثر، فالورقة لم تقدم لي معلومات إضافية مهمة،
سوى أن أصل هذه الوكالة يعود إلى أكثر من مائتي عام بكثير، إلى ستمائة عام تقريبا،
لكنها لم تدلني على اسم صاحبها الأصلي، منشئها الأساسي، هذا الذى كان يتابع بناءها
بقلب شغوف، ويصبر على طول الأيام منتظرا لحظة الاكتمال، التي يبرق بها وهج
السعادة، وهو يسمع اسمه متنقلا بين الناس كرجل عظيم أنشأ وكالة تجارية فخمة.
خرجت من الحاصل ذي الباب الضيق المنخفض، الذي كادت رأسي
تخبط أعلاه، فانتبهت فجأة إلى ملحوظة مهمة، فسألت نفسي: كيف يمكن أن يكون مثل هذا
المكان مخزنا للبضائع؟! المخازن يجب أن تكون ذات أبواب واسعة، وعالية، تسمح بدخول
الحمَّالين، والعمال، وهم يحملون البضائع على أكتافهم، من غير أن يتسبب ضيق
الأبواب في تعطيل العمل، كما أن المخازن، أو الحواصل، يجب أن تكون ذات مساحات
مفتوحة، لها منافذ تهوية، في حين أن ضلعا واحدا فقط من هذه الوكالة كانت لحواصله
نوافذ صغيرة!
ووثبت في خاطري فكرة مدهشة: ربما لم يكن هذا البناء
وكالة تجارية، ربما كان شيئا آخر أشبه بالفندق، مكان لاستقبال الغرباء، أو وكالة
فعلا، ولكن لبيع المتعة وشرائها! فضيق الحواصل لا يصلح إلا لمسافر عابر، أو
لعاشقين يمكن لهما أن يعتبرانه عشا جميلا.
وضحكت من نفسي، وقلت: مهما حاول التاريخ أن يزور
الوقائع، فلن يمكنه تزوير حالة لمبنى واقع حقيقة على الأرض، هذه وكالة، ظل الناس
على امتداد مئات السنين بالتواتر يسمونها "الوكالة"، والوكالة مكان
للتجارة.
وقالت نفسي بخبث: لم نختلف، ألم أقل لك، منذ قليل، أنها
من الممكن أن تكون وكالة لبيع المتعة وشرائها!؟
قلت لها، منتصرا لتاريخ مشرف أحبه أن يبقى لهذه الوكالة
العظيمة: الذي تتحدثين عنه كان الناس يصفونه بـ"الماخور"، وليس
"وكالة".
وسمعتها تهمس بصوت يتخفض: لكن ألا ترى الحواصل!؟ إنها
ضيقة جدا!
حتى أصل إلى
جامع "القاضي عبد الباسط" الأثري، كان عليّ أن أمشي شارع
"التومبكشية" القصير، ثم أقطع شارع "المعز"، لأدخل في شارع
يؤدي إلى شارع أضيق، لكنه مشهور جدا، وهو شارع "سكة برجوان"، هو في
الواقع أضيق من أن يكون شارع، الأنسب أن نطلق عليه اسمه بوصفه القديم الملحق به،
سكة "برجوان"، أو حارة "برجوان"، هذه السكة تتلوى بين بيوت
قديمة قائمة، وبيوت قديمة سقطت وما زال هدمها في مكانه، يشير إلى أي مدى يعبث
المصريون بعمائرهم التاريخية، الحارة الأثرية مملوءة بمحلات لبيع الطيور الحية،
والمذبوحة، وبورش تنتج بعض قطع الأدوات الصحية المعمولة من الصاج، وبمطاعم الأكل
الرخيص، الفول، والطعمية، والكشرى، والكرشة، والممبار، وعندما مر أمامي بائع العرق
سوس، في ملابسه المزركشة، ولعب بالصاجات النحاسية، وانطلق رنينها يرقص الحارة،
أحسست بأني، وأنا الذي أعيش في القرن الواحد والعشرين، لم أبتعد كثيرا عن القرن
الخامس عشر، كل ما كان من حرف في ذاك القرن البعيد، لا تزال باقية، اختلفت
الملابس، اختلفت أشكال بعض العمائر؛ أصوات التليفزيونات في المقاهي، والراديوهات
في المطاعم، هى التى تصنع الفرق الكبير، ورغم تغير طبيعة الإنسان المصري، إلا أن
مناوشاته المرحة مع جيرانه، ومعاركه الصغيرة التي لا تؤثر على بقاء العلاقات قوية
ومتينة، ظلت أخلاقا تميز مصري الحارة حتى الآن.
في "سكة برجوان"، صادفتنى امرأة تقف أمام رجل
يبيع جبنا قريشا، وزبدا، وبيضا بلديا، وملوخية جافة، صوتها يعلو فجأة، مشحونا بكل
نبرات الاعتراض: كيلو الملوخية الناشفة بـ 60 جنيه! ليه!؟ ها تدينى عليه جوز
أرانب!؟
وتركت التاجر متذمرة، الذي ابتسم وهو يقول: واحنا ذنبنا
إيه بس يا ست!؟ هي جاية غالية من مكانها!
في أي دولة، من دول الخلافة التي مرت على
"القاهرة"، جرى هذا الحوار، السابق، بنفس صيغته؟ وكم مرة؟ أكيد في كل
الدول، ومرات كثيرة، فالإنسان المصري، الذي يعيش في هذه الأماكن العتيقة، ارتحل
عبر الزمن الطويل حاملا روح المكان، ولم يتخل عن حمله أبدا، وحمل معه بضائعه
القديمة، ومن بينها الملوخية الجافة.
والسيدات، المصريات، بارعات في التسوق، إن لم يعجبهن
السعر ولم يشترين، لابد من أن يبعن كلمتين ساخرتين للتاجر، مقابل بسمة منه، أو
ضحكة، يعرفن أنها لا تظهر على شفتيه عن طيب نفس، وإنما يدارى بها خجله من بضاعته
الغالية التي ستركد.
في مكتب للمجلس الأعلى للآثار، في حرم جامع "القاضي
عبد الباسط" الأثري! تكلمت مع موظفات عديدات عن بغيتي، معلومات وفيرة عن
وكالة "بازرعة"، فقامت إحداهن إلى إحدى الخزانات المتهالكة، وأخرجت ملفا
مشحونا بالأوراق، وبعد تقليب، في هذه الأوراق، استمر لدقائق، أخرجت ثلاث ورقات،
مكتوبة بخط يد أنيقة، ومجموعة إلى بعضها بدبوس، مدت لي يدها يهذه الأوراق، فأخذتها
وأنا مندهش، قلت : فقط هذه هي كل المعلومات الموجودة لديكم؟!
قالت إحداهن: ستجد في هذه الأوراق بعض المعلومات، كما
ستجد فيها أسماء مراجع مهمة، هذه المراجع ستجدها في مكتبة جامعة
"القاهرة"، ولابد من أن تأخذ ترخيصا بدخول هذه المكتبة من مكتب ....
حكاية طويلة للحصول على معلومات عن مكان واحد، لماذا لا
يضعون، في كل مكان أثري، "كشك" بسيط يحوي كل ما كتب من معلومات عنه؟
يمكنهم لو نفذوا هذه الفكرة أن يربحوا ماديا منها، يمكنهم أن يبيعوا نسخا من الكتب
التي تناولت هذا المكان لرواده من السائحين، والباحثين الأكاديميين أيضا.
المهم، صورت الورقات الثلاث، وأخذت أقرأها، وكانت فيها
كل ما أحب معرفته عن المكان، طبعا مفاجأة!
تناولت الورقات الثلاث موقع الوكالة، فأضافت لي معلومة
جميلة، إن شارع "التمبكشية" لم يكن يحمل هذا الإسم، الذي يدل على أنه
كان مركزا مهما لتجارة "التمباك"، ولكن حتى وقت قريب كان يحمل اسما
فخما، الشارع "السلطاني".
منحتنى الورقات معلومات قيمة عن مادة البناء، وأن
الطابقين الأرضي، والأول، قد شيدا من المداميك الحجرية الكبيرة، المتساوية
الأبعاد، أما المداميك الثلاثة العلوية فقد بنيت بالآجر، وكانت الحكمة، أن
المداميك السفلية هي مداميك الأساس، ولابد أن تكون أقوى.
أنا الآن في فناء الوكالة، وبكل أحاسيسي أسبح في وسع
التاريخ الإسلامي المهيب، هذا التاريخ الذي استطاع أن يهبنا أبنية، وعمائر، تمتاز
بكل هذه الأبهة والجمال، فعلا، مساحة الوكالة، بالتخمين، تقترب مما ذكرته معلومات
الأوراق الثلاث، مستطيل مكشوف مساحته 25 مترا في 11 مترا، ترتفع الأبنية من حوله
حتى 14 مترا، هذا الفناء كان مكانا لربط الجمال، والنوق، والحمير، والبغال، التي
تحمل البضائع الواردة، والصادرة، إلى ومن الوكالة، المفروض أن يكون كذلك، وإن كان
كذلك بالفعل، فأين الحوض الكبير الذي كان من عادة الأجداد بناؤه لسقي الدواب؟ نظرت
حولي أبحث عنه، لكني لم أجد له أثرا!
إذن، ربما تفكيري في أن هذا المبنى كان فندقا هو التفكير
الصحيح!
صعدت سلما خشبيا إلى الطابق الأول، بصحبة أحد رجال
الأمن، كنت قد طلبت منه أن أرى أماكن السكن ذات المشربيات، وكانت هذه مغلقة
بالأقفال، فلما عرف الرجل أني سأكتب عن الوكالة تطوع لصحبتي، قال: هذه السلالم لم
تكن خشبية، كانت صخرية، لكن عند الترميم وجدوا أن الخشب سيكلفهم أقل!
الحواصل أيضا تدور حول الطابق الأول، هذا ما تقوله
معلومات الورقات الثلاث، لكن صاحبي قال: الغرف أشبه بمكاتب هذه الأيام، كانت تتم
فيها صفقات البيع والشراء.
كلام صاحبي، رجل الأمن، أوجه من كلام الورقات!
ـ تعتقد أن هذه وكالة تجارية فعلا؟
ـ نعم، كان "بازرعة" يبيع فيها الصابون،
والعطور، هذا مكتوب على اللافتة الارشادية التي عند بوابة المدخل، سمعت أنه كان
يبيع فيها البن اليمني أيضا.
ما تصورته في ذهني، من احتمالية أن يكون هذا المبنى
فندقا وليس وكالة، خطأً، فالحواصل، التي تصورتها غرفا للنزلاء، لا تصلح مطلقا
للمعيشة، لأنها تفتقد لأهم عنصر حياتى، دورة المياه!
وليس معنى أن أماكن السكن، في الطابقين الثاني والثالث،
كانت صالحة لممارسة حياة معيشية متكاملة، نظرا لوجود دورة مياه، ومطبخ صغير، في كل
وحدة سكنية، أن هذه الوكالة كانت فندقا، وإلا ما الداعي لوجود حواصل ضيقة في مدار
طابقين كاملين؟!
كانت المعلومة التى قدمتها الأوراق الثلاثة صحيحة بشكل
مؤكد، فالتجارة تتم في الحواصل، والتجار، الذين يفدون من مختلف بلدان العالم، كانوا
يستريحون أياما في هذه الوحدات السكنية حتى يحين ميعاد المغادرة.
لم يكن ممكنا أبدا أن أترك هذه الوحدات السكنية دون
العيش قليلا في تاريخها العتيق، ربما في هذه الوحدة، التي أقف فيها متأملا
مشربيتها الطالة على الفناء الواسع للوكالة، ثمة تاجر من تجار العصور الوسطى،
أوروبى من "اليونان"، أو من بلاد "الغال"، كان يجلس هنا وقد
راعته الحضارة العربية الإسلامية المتوهجة، التي أمكنها أن تكون قادرة على إقامة
مراكز عملاقة تستطيع توفير كل سبل الراحة للتجار الوافدين من مختلف بقاع الأرض،
وتتعامل مع كل الجنسيات من غير تفرقة، فمنحته مكانا للإقامة المريحة دون النظر إلى
العقيدة، أو الجنس.
من المؤكد أنه في هذه الوحدات السكنية، تخفف تجار، عاشوا
قديما، من ملابسهم، وناموا على فرشهم يحلمون بمكاسب، ويخافون الخسائر، ويحملون هم
السفر بسفن تلعب بها أمواج البحار الهائجة، وربما نام أحدهم غير مهموم بكل هذا،
بقدر ما اهتم بأمر قلبه الذى يدق اشتياقا للقاء محبوبة ودعها منذ أيام طويلة،
ووعدها بعودة رابحة تعينه على لم الشمل.
ابتهج قلبي كثيرا بهذه المعلومة التي وردت في الورقات
الثلاث، والتي تؤكد أن مؤسس هذه الوكالة هو أمير مملوكى اسمه "حسن كتخدا"،
وكان وقتها ملقبا بـ"الكيخيا"، وأن هذه الوكالة، لوقت طويل، كانت تتمتع
باسم تاريخى مهيب وجميل، وكالة "الكيخيا"، قبل أن يميل بها الزمان فتسمى
بوكالة "التمبكشية"، لتحول التجارة فى الشارع الذى تقع فيه إلى تجارة
"التمباك"، وهو نوع من الدخان المعسل، قبل أن يسميها مالكها الأخير
باسمه اليمني العجيب "بازرعة".
ولم يكن الأمير "حسن كتخدا" من هؤلاء الأمراء
الهمل، وإنما ورد ذكره فى "عجائب الآثار" الذي خطه "الجبرتي"،
كان سياسيا محنكا، ومحاربا أصيلا، وواحدا من هؤلاء المماليك الذين ضجت بهم فترة
مهمة من تاريخ "مصر"، ثم إنه كان من هؤلاء الذين يفهمون ما للروحانيات
من تأثير في نفوس العامة والدهماء، فقام بتوسعة المشهد الحسيني بعد أن اشترى،
بماله الخاص، عدة أماكن محيطة به ليضيفها إليه، ثم لم يكتف بذلك، وإنما "صنع
له تابوتا من أبنوس مطعما بالصدف، ومضببا بالفضة، وجعل عليه سترا من الحرير
المزركش بالمخيش"، ثم... لما تمموا صناعته، وضعه على قفص من جريد، وحمله
أربعة رجال، وعلى جوانبه أربعة عساكر من الفضة مطليات بالذهب، ومشت أمامه طائفة
"الرفاعية" بطبولهم وأعلامهم، وبين أيديهم مباخر الفضة، وبخور العود
والعنبر، وقماقم ماء الورد يرشون منها على الناس، وساروا بهذه الهيئة حتى وصلوا
المشهد، ووضعوا ذلك الستر على المقام"
وقفت أنظر من فجوات إحدى المشربيات إلى فناء
"الوكالة"، وراحت عيناى تسبحان ضد تيار الزمن، تعودان إلى الوراء،
فتريان أستار المشهد الحسيني وهي تخرج من هنا، وسط تكبير وتهليل الصوفية، وتوزيع
كاسات الشربات الأحمر على الحضور الجم، من الأهالي، والمساكين، والأطفال، ربما
كانت تعلو زغاريد النساء أيضا، بينما عيونهن تتراقص بالفرحة من خلف براقعهن
الشفافة، والأمير "حسن كتخدا" فوق صهوة فرس عربى أصيل غرقان في زهوه بما
يجرى، وهو يتقبل بامتنان قبلات الغلابة على يديه.
لابد وأن أستار المشهد الحسينى كانت تخرج من هذه
"الوكالة"، وإلا فمن أين وردت فكرة خروج أستار "الكعبة"، مع
كل موسم حج، على رأس مالكها الجديد، التاجر اليمني "بازرعة"؟
نعم، لقد بلغت هذه "الوكالة" نهاية الشرف
العلي، لكون كسوة "الكعبة" المشرفة تخرج منها كل عام، مع بداية موسم
الحج، وهذا دليل على فحش ثراء "بازرعة" هذا، ولم لا، وهو أول من أدخل
تجارة البن اليمنى إلى "مصر" المحروسة أيامها!
إذن، ومن هذا الفناء أيضا، كان المشهد المهيب لخروج
الكسوة الشريفة، لابد وأن مشائخ الأزهر، وكبار رجال الطرق الصوفية، وقضاة المذاهب
الأربعة، وكثير من الأمراء المماليكية كانوا يحتشدون في هذا الفناء، ولابد أن هذا
اليوم يكون جللا، وأن "بازرعة" يطوف عليهم مرحبا بهم بسمت التجار، فرحان
بشدة، لكونه استطاع، وهو الغريب عن هذه البلاد، أن يكون له هذا التمكين المكين.
يتكلم تاريخ "الجبرتى" عن الأمير "حسن
كتخدا"، فيقول: "ومات الأمير "حسن كتخدا عزبان الجلفي"، وكان
إنسانا خيرا له بر، ومعروف، وصدقات، وإحسان للفقراء، توفي يوم الأربعاء تاسع شوال
سنة 1124، وخرجوا بجنازته من بيته بمشهد عظيم حافل، وصُلي عليه في سبيل المؤمن
بالرميلة، واجتمع بمشهده زيادة عن عشرة آلاف إنسان، وكان حسن الاعتقاد، محسنا
للفقراء والمساكين، رحمه الله".
صوت رجل الأمن، دليلي، شدني من سرحتي التاريخية: هل تحب
رؤية شيء آخر؟
كنت قد رأيت كل شيء، فشكرته.
بينما أغادر "الوكالة" وقعت عيناي على لوحة
رخامية، ثبتت على الجدار، بجوار البوابة الخشبية الضخمة، لوحة تخبر عن أن هذه
الوكالة قد تم تجديدها في زمن "حسنى مبارك" رئيس "مصر"،
الأسبق، ووزير ثقافتها، الأسبق، "فاروق حسني"، ومحافظ
"القاهرة"، الأسبق، "عبد الرحيم شحاته".
رأيت هذه اليافطة فهاجت كوامني، وعجبت من الزمن
الدوَّار، كنت قد بدأت أسأل نفسى عن سبب تنكر التاريخ لنهاية حياة
"بازرعة"، وعدم احتفائه بها، وكنت قد وصلت لإجابة أراحتني: التاريخ لا
يحتفي بالتجار الودعاء، بقدر ما يحتفى بالمحاربين الجسورين، حتى إنه يمكنه أن يسبغ
عليهم، بمنتهى الكرم، صفات الصالحين المصلحين، في حين أن من يصنعون الحياة يموتون
مجهولين.
كان الجوع قد بلغ مني مبلغه، فأوليت ظهري لوكالة
"بازرعة"، ووليت وجهي شطر شوَّاء السمك.

إرسال تعليق