لا أعرف أَيَّ رواية عَربيَّة هي الأشهر على الإطلاق، هل "أولاد حارتنا"، أم "الخبز الحافي"، أم "وليمة لأعشاب البحر"، أم "عزازيل"، أم غيرها من روايات ارتقت سُلَّم الشُّهرة حتَّى أعلى طابق منها؟ لكنِّي أعرف أنَّ "عمارة يعقوبيان" هي واحدة من هذه الرِّوايات الأشهر عَربيًّا، تُرجمت إلى اللغات الأَجنبيَّة لعِدَّة لغات، ولعدد طبعات، كما لم تُترجم أو تُطبع رواية من قبل، هذا فضلًا عن كونها حَقَّقت مبيعات ضخمة داخل مصر والوطن العربي ربما لم يُحقِّقها سواها. ما يعني أنَّها راقت جِدًّا لكلا القارئين: العربي والأجنبي.
ولأنِّي كنت قد قرأت لعلاء الأسواني، كاتب هذه الرِّواية، روايتيه: "شيكاجو"، ثم "نادي السَّيارات". على التَّرتيب، فلم أجد فيهما هذه العناصر التي تُمتع قارئ الرِّوايات المثالي، من فكرة راقية، أو لغة أَدبيَّة، أو أسلوب رشيق مُميِّز لكاتبه، أو أي تجديد أَدبيٍّ على أي مستوى، بل وجدت أفكارًا عَاديَّة، طُحنت دهسًا لفرط مَطروقيَّتها، ولغة ركيكة، وأسلوبًا إِخباريًّا قد يليق بالمقالة الصَّحافيَّة، وارتدادًا أَدبيًّا ينحدر إلى مستوى إرهاصات الكتابات الرِوائيَّة الأولى؛ لكل ما سبق ذكره من مثالب لم أضع "عمارة يعقوبيان" في خُطَّتي القِرائيَّة، معتبرًا أنَّ الضَّجَّة التي أحاطت بها، والنَّتائج التي حَقَّقتها، ليست سوى انعكاسًا لواقع أَدبيٍّ وثَقافيٍّ رديء دائمًا ما يحتفي بالأدنى، لا الأرقى.
بينما أنا على موقفي السَّلبي من "العمارة" لاحظت على الفيسبوك، أنَّه بين الحين والحين، تصدر إشارات عن بعض ساكني هذا العالم الافتراضي تُشير إلى أنَّ هذه الرِّواية عَبقريَّة، بل وصل الأمر بأحدهم أن وضعها في قائمة رآها أهم الرِّوايات التي صدرت باللغة العَربيَّة، مُعتبرًا أنَّها كسرت حدود اللغة، وأنَّها قَدَّمت سردًا جديدًا قاد ثورة ضد السَّرد القديم المهتم بالصِّياغة والمفردات، وأنَّها كشفت عن عوالم مُجتمعيَّة جديدة بجرأة لم تستطعها أَيُّ رواية أخرى. فكان لا بُدَّ من تغيير موقفي، فبعض أصحاب وجهة النَّظر هذه معتبر عندي، لأنَّهم قُرَّاء مُميَّزون بالأساس، كما لا تربطهم علاقات ما بشخص هذا الكاتب تحيد بهم إلى المُصانعة، فلا هم نُقَّاد أَكاديميُّون قد ينحون لسبب ما نحو مجاملة علاء الأسواني، ولا هم كُتَّاب من أصدقائه فتقودهم الصَّداقة لإبداء آراء حَميميَّة غير منضبطة، ولا مَوضوعيَّة.
أمسكت بـ"عمارة يعقوبيان"، وما أن شرعت في قراءتها حتَّى انهمكت فيها انهماكًا لأجدني، على طولها، انهيتها في وقت وجيز!
استُهلَّت الرِّواية بمشهد لطيف يظهر فيه العجوز زكي بك الدُّسوقي قاطعًا ممر بهلر، الذي يصل بين شارعي قصر النِّيل وطلعت حرب في وسط القاهرة، مُحيِّيًا العديد من عمال ومُوظَّفي محلَّات هذه المنطقة، الذين يشاغبونه ببضعة أسئلة في الشُّؤون الجِنسيَّة يجيبهم عنها بظرف وخِفَّة دم مُستغلًّا خبرته الطَّويلة مع نساء لا حصر لهن ولا عد، من مختلف الطَّبقات، يتبادل مع هؤلاء العُمَّال الضَّحكات والإيحاءات ذات المغزى الفاضح قبل مواصلة سيره إلى مكتبه الكائن في العمارة التي تَسمَّت هذه الرِّواية باسمها.
ماذا يعمل زكي الدُّسوقي في مكتبه وهو ليس إِلَّا واحدًا من أبناء الباشاوات الإِقطاعيِّين العاطلين عن العمل بعد ثورة الضُّباط الأحرار في 1952؟ فضلًا عن تجاوزه للخامسة والسِّتين من سني عمره؟
لا يعمل شيئًا غير الاستمرار في ممارسة نزواته الجِنسيَّة بمساعدة خادمه أبسخرون، المسيحي الذي يعاني من فقد أحد ساقيه فيستغل عجزه لمعالجة فقر حياته بمكر وخبث شديدين، يُجهِّز أبسخرون سَيِّده بحقن التراي بي، وكؤوس الويسكي، وكل ما يلزم لدفع الطَّاقة في عروقه التي استهلكها الزمن. عادة لا تمر هذه النَّزوات على ما يرام، فكثيرًا ما يَتعرَّض البك للنَّصب والاحتيال من نساء الطَّبقات الدَّنيئة، حتَّى إنَّه ذات نزوة تسرق إحداهنَّ خاتمًا ثمينًا كانت أخته دولت هانم، التي تقيم معه في شَقَّة ورثاها عن أبيهما، قد استودعته إِيَّاه ليقوم بإصلاح عطب طرأ عليه، فتثور ثائرة هذه الأخت، الطَّامعة بالأساس في ممتلكات أخيها غير المُتزوِّج، مبتور الذُّريَّة، لتجعل ضياع هذا الخاتم سببًا وجيهًا كي تطرده من الشَّقَّة، وترفع ضِدَّه العديد من قضايا الحجر الصِّحي، ما يضطره للإقامة بشكل دائم في مكتبه بعمارة يعقوبيان، حيث يَتجرَّع وحيدًا مرارة الغدر الأخوي.
لم يكن غدر الأخت، فضلًا عن غدر بنات الليل، هما نوعا الغدر اللذان عرضا لزكي بك الدُّسوقي وانتهى الأمر، بل عرض لغدر الخدم أيضًا! فخادمه أبسخرون شقيق حميم لطامع آخر اسمه ملاك، الذي يمتهن تفصيل الملابس، ويَتمتَّع بروح طامحة حتَّى النِّهاية، يَتمكَّن بسببها من حيازة غرفة فوق سطح العمارة العامر بخمسين غرفة تشغلها أسر الطَّبقات الفقيرة، بَوَّابين وعُمَّال حِرفيِّين وما شابه، قبل أن يطمع في الاستيلاء على شَقِّة زكي بك، ليعد خُطَّة تُحقِّق غرضه، مستخدمًا بثينة بنت السَّطح، التي أهدر فقرها كرامتها، لتَتنقَّل بين العديد من الأعمال التي تُواجه فيها سخافت أصحابها ومديريها السَّفلة، لتضطر أخيرًا إلى التَّعامل مع طلال، صاحب محل ملابس شهير في شارع طلعت حرب، بطريقة وسط تحافظ بها على عملها وشرفها في آن، حيث تسمح له بإفراغ شهوته على ملابسها في أحد مخازن مَحلَّاته دون لمس بكارتها مقابل عشرة جنيهات لكل مَرَّة! يدفعها هذا الواقع الأليم إلى هجر قِصَّة حُبِّها العفيف إلى الأبد، ثُمَّ توافق على تنفيذ خُطَّة ملاك التَّوسُّعية.
يُقدِّم أبسخرون بثينة لزكي بك الدُّسوقي على أنَّها فتاة تبحث عن عمل، مستغلًا ضعف الأخير أمام الجمال الأنثوي، الذي يدعوها فعلًا للعمل في مكتبه، لتبدأ قِصَّة استلطاف حقيقي بينه وبثينة التي تكتشف على مَرِّ الأَيَّام مواطن الطِّيبة والنُّبل في هذا العجوز المتصابي لتلوم نفسها كونه يعاملها بحب واحترام كبيرين بينما تكن له الخيانة والغدر، فالأسطى ملاك لا يكف عن سؤالها بخصوص مدى تَقدُّمها في تنفيذ الخُطَّة، وعَمَّا إن كان قد حان ميعاد حصولها على توقيع زكي الدُّسوقي على عقد إيجار الشَّقة خلسة! لتحصل على ثمن الخيانة الضَّخم، خمسة آلاف من الجنيهات ذات القيمة التِّسعينيَّة القَويَّة!
على الجانب الآخر يواجه الشَّاب طه الشَّاذلي، ساكن سطح يعقوبيان وحبيب بثينة المهجور، مشاكل نَفسيَّة كبيرة، إذ تَسبَّب عدم القبول به دارسًا في كُلِّية الشُّرطة، لمُجرَّد أنَّه ابن حارس عقار، في نقمته على المجتمع، ما جعله يسقط فريسة سهلة لجماعات العنف الأصولي الإِسلاميَّة، فيتم اعتقاله وتعذيبه درجة إهدار رجولته، لتَتولَّد لديه رغبة مسعورة في الانتقام من سَجَّانيه مُهدري رجولته، يستغل قادة الجماعة هذه الرَّغبه فيُجهِّزونه بالتَّدريب العسكري داخل معسكر بصحراء طره قبل أن يَزجُّوا به لتنفيذ عملية إِرهابيَّة ضد ضابط أمن الدَّولة المسؤول عن تعذيبه.
تَتمدَّد شبكة العلاقات الشَّاذة بين الفقراء والأثرياء في إطار عمارة يعقوبيان، يصطاد الأستاذ حاتم، رئيس تحرير إحدى الصُّحف التي تصدر في مصر باللغة الفِرنسيَّة، المُجنَّد عبدربه ليستغل حاجته المَادِّية وعنفوانه الجسدي لإشباع شذوذه الجنسي كـ"كوديانا" سلبي يعشق عبده كـ"برغل ناشف" إيجابي. في نفس الوقت يقوم الحاج محمَّد عزَّام، أحد كبار أثرياء شارع طلعت حرب، باصطياد الأرملة السَّكندرية سعاد، اصطيادًا شَرعيًّا، إذ يَتزوَّجها على سُنَّة الله ورسوله، وإن جاءت شروطه مخالفة لسُنَّة الله ورسوله؛ حيث استغل حاجتها المَاديَّة والمَعنويَّة ليشترط عليها سِرِّية الزَّواج حفاظًا على وضعه الأسري، كما رفض أن تصطحب طفلها للعيش معها في القاهرة، ثُمَّ أخيرًا حَذَّرها من فكرة الإنجاب، وأن أي مخالفة لأي شرط من شروطه سيكون ثمنها الانفصال.
تتسع شبكة العلاقات الشَّاذة فتنفلت من إطار عمارة يعقوبيان لتصبح سحابة سوداء ثقيلة تُغيِّم على سماء مصر كُلِّها، فالقهر ليس لصيقًا بالفقراء فقط، بل حتَّى الأغنياء يعانونه من خلال ممارسات سلطة نظام حاكم مُستبد وغاشم، يفرض إتاوته على طبقة رجال الأعمال! فالحاج محمَّد عزَّام يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشَّعب، ولم يكن ممكنًا نجاحه لو لم يقم برشوة الرَّأس الكبيرة المُستقرِّة عضوًا عن الحزب الوطني داخل المجلس لثلاثين عامًا متواصلة، كمال الفولي، ثُمَّ بفضل نجاحه في الحصول على عُضويَّة البرلمان تَتوسَّع أعمال عزَّام الاِستثماريَّة حتَّى ينجح في الحصول على توكيل إحدى الشَّركات اليَابانيَّة الكبرى لصناعة السَّيارات، ما سيدر عليه أرباحًا سَنويَّة تُقدَّر بمئات الملايين أجرت لعاب "الرُّجل الكبير"، ربما هو رأس السُّلطة في مصر وقتها أو أحد نجليه، ليَتدخَّل كمال الفولي آمرًا عزَّام بضرورة دفع نسبة الرُّبع دون قيد أو شرط، فالرَّجل الكبير يعرف كل وساخات محمَّد عزَّام التي مارسها أتناء مشوار الارتقاء من ماسح أحذية حتَّى عُضويَّة مجلس الشَّعب، وإن لم يدفع فعليه تَحمُّل النَّتائج الوخيمة. لم تخبرنا الرِّواية إن كان عَزَّام قد دفع أم لا! وماذا كانت النَّتيجة، فقط انتهت قصته بمشهد "مَافياويٍّ"، نسبة لعصابات المافيا، حيث الرَّجل الكبير، الغامض، يخاطب عَزَّام البرلماني ذي الأصل الدَّنيء من خلف حجاب، عبر شبكة اتصال إِلكترونيٍّ، من حيث يَرى ولا يُرى، مُهدِّدًا إِيَّاه في حالة عدم الدَّفع بكشف كل المستور.
أهدرت سعاد شرطًا من شروط عَزَّام، حيث أخبرته بحملها في شهرين، ما أَدَّى به لبذل محاولات سِلميَّة معها كي تتنازل عن حملها بعَمليَّة إجهاض أجازها صديقه الشَّيخ السَّمان، الذي لا يتَورَّع عن قبول رشاوي عَزَّام له في صورة تَبرُّعات لأعمال الخير، إِلَّا أنَّ سعاد تَتمسَّك بحملها الذي سيمنحها قيمتها الإِنسانيَّة كزوجة شَرعيَّة مُعلنة، ما يضطر عَزَّام إلى اللجوء للطُّرق القذرة، فيرسل لها، في شَقَّتها بالعمارة، من يجهضها عنوة قبل تطليقها، ثُمَّ تنتهي قِصَّة سعاد عند هذا الحد.
ينجح طه الشَّاذلي في الانتقام من ضابط أمن الدَّولة، الذي كان قد أشرف على إهدار رجولته داخل معتقلات التَّعذيب، لكن بمقابل باهظ للغاية، حياته نفسها، فقد كان أحد ضحايا هذه العَمليَّة الإِرهابيَّة.
يشعر عبده بأنَّ علاقة اللواط مع الأستاذ حاتم علاقة آثمة، فيحاول قطعها عِدَّة مَرَّات لكنَّه يفشل بسبب إغراءات الأخير المَادِّية له، لكن عندما يموت طفله الصَّغير يتَأكَّد من أنَّه قد تَعرَّض لسخط الله وغضبه، فيجمع "عزاله" من غرفة السَّطح، ويفر بزوجته إلى أحد أحياء الجيزة، حيث يختفي هناك؛ يصاب حاتم بحالة من الضِّيق الشَّديد، فتوفير "برغل ناشف" آمن ومُشبع لـ"كوديانا" مثله ليس بالأمر المُيسَّر، لكنَّه لا يفقد الأمل في العثور على عبده، لا يتَوقَّف عن البحث حتَّى يصل إليه فعلًا، وبنفس الإغراءات المَاديَّة يتمكَّن من استرجاعه مُؤقَّتًا، واعدًا إِيَّاه بأنَّه سوف يتركه لشأنه بعد إمتاعه لمَرَّة أخيرة؛ بعد انتهاء الممارسة الشَّاذَّة يشرع عبده في الرَّحيل طِبقًا للاتِّفاق، ما يدفع حاتم إلى تهديد عبده بحرمانه من كل ما كان قد وعده به كمكافأة مقابل هذه المَرَّة الأخيرة، ترتفع وتيرة المُشادَّة بينهما، يتم تبادل الإهانات، يتَفجَّر الغضب في قلب عبده فيضرب حاتم بعنف حتَّى يُزهق روحه.
عندما لم تُحقِّق بثينة رغبة ملاك في الاستيلاء على الشَّقة، انتصارًا لتقدير زكي بك الدُّسوقي لها وشعورها بمَحبَّته الصَّافية، يتواطأ مع دولت هانم في تدبير مصيبة لهذين العاشقين الغريبين، لتضبطهما شرطة الآداب في وضع مُخلٍّ داخل المكتب، فتقتادهما إلى الحبس للعرض على النِّيابة، يتَدخَّل أحد أصدقاء زكي بك الدُّسوقي لإنهاء الأمر بهدوء، ليأتي المشهد الأخير من رواية "عمارة يعقوبيان" سعيدًا ومبهجًا، حيث قاعة أفراح في أحد الفنادق الفخمة، والعريس العجوز زكي بك الدُّسوقي، والعروسة الشَّابة بثينة، والمعازيم معظمهم من فقراء سطح العمارة، وأغنية للمطربة الفِرنسيَّة إيديث بياف تُغنِّيها كريستين، صديقة زكي بك الأُوروبيَّة.
باستثناء بعض الشَّخصيَّات الهَامشيَّة، وحكاياتها الصَّغيرة، مثل الشَّيخ شاكر، والشَّيخ بلال، الأُصوليَّان المُتشدِّدان، ورضوى المُنتقبة سَيِّدة المعسكر الجهادي، والسَّائق والموظف المنقول إِداريًّا من المنصورة ساكنا سطح العمارة، فهذه هي كل الشَّخصيَّات الرَّئيسة التي دارت حول أحوالها أحداث هذه الرِّواية، صانعة أجوائها، حاملة رسالتها.
انتهت الرِّواية لأجدني أخرج من أحداث فيلم اجتماعيٍّ، وَاقعيٍّ، شَيِّق للغاية، فالقِصَّة محبوكة دُراميًّا، وإن كانت سَطحيَّة لا تغوص إلى أي عمق؛ غلبت المَشهديَّةُ السَّردَ، ليسطو التَّشويق التَّخييلي على كُلِّ عناصر الرِّواية، ما سلبها كُلَّ خصائصها كمسرودة يجب أن تكون ذات قيمة مُكتسبة من ذاتها المنشأة أدَبيًّا، فالرواية الأصيلة يكون التَّشويق فيها أحد نواتج السَّرد، لا عمدته. سيهرول قارئ "عمارة يعقوبيان" خلف الحدث، سيدهشه وجود فقراء على سطوح هذه البنايات الأُوروبيَّة الفخمة، المُصطفَّة في منطقة راقية لا يمكن تَخيُّل سكنى النَّاس الـ"بيئة" لها! كما سيندهش لتناولها علاقة شاذة بين رجلين، وتصويرها لتَقصُّعات "الكوديانا"، وكَيفيَّات تقديمه إغراءات جِنسيَّة لـ"برغل ناشف!". سينبهر لاقترابه كثيرًا جِدًّا من عالم الفاسدين سِياسيًّا، حتَّى إنَّه سيستبدل تَلقائيًّا اسم كمال الفولي بكمال الشَّاذلي البرلماني الأشهر، والرَّجل الكبير بعلاء مبارك، والحاج عَزَّام برجل أعمال، لا يحضرني اسمه، كان قد مات قهرًا بسبب طمع علاء مبارك في أرباح أعماله من توكيلات السَّيَّارات، متابعة هذه العوالم مُشوِّقة للغاية، لكن... تنتهي متعة التَّشويق فور انتهاء قراءة "عمارة يعقوبيان"، ليتساءل القارئ الثَّقيل عن تلك المتعة التي تبقى ولا تزول، سمة الكتابات الرِّوائيَّة العظيمة، المتعة التي يبقى القارئ مُستلذًّا باستحلابها عَقليًّا ووُجدانيًّا لفترة طويلة بعد تركه الرِّواية، المتعة النَّاجمة عن تَفجُّر قناعات جديدة تدفعه لاتخاذ قرارات جريئة بالشُّروع في تغيير مفاهيمه وذاته بعد انتهاء القراءة؟ لتكون الإجابة: لا شيء من هذه المتع وُجِد في "عمارة يعقوبيان"، ولو على مدى مقطع واحد صغير! فصياغاتها مرتبكة على الدَّوام، كأنَّ كاتبها لم يزل بعد يتَهجَّى ألف باء الكتابة القَصصيَّة، فضلًا عن الرِّوائيَّة، ولنقرأ هذه الأسطر التَّالية كدلالة مُؤكِّدة، منقولة كما دُوِّنت بالضَّبط في طبعة مدبولي: "يجيء الرجل ليلة الخميس رائق المزاج من تأثير الحشيش ويطلب زوجته أولا يكون واجبها حينئذ لأن تلبي نداءه بعد أن تستحم وتتزين وتتعطر؟! أولا تعطيها هذه الساعات القصيرة من السعادة دليلا على أن حياتها البائسة موفقة على نحو ما برغم كل شيء؟!". ثم هذا السطر: "حتى وقد استيقظت لتوها من النوم كان يحب أن ينظر إليها وآثار النعاس على وجهها تجعلها أشبه بطفلة وديعة مستسلمة". لم أنتق هذه الأسطر انتقاءًا، ولو أن جهدي يَتَّسع لكتابة كل سطور الرِّواية استعراضًا لركاكة صياغاتها لفعلت. ثُمَّ جاء أسلوبه الخَبريُّ الجاف ليَصبّ مزيدًا من زيت الرَّكاكة فتَتفجَّر رداءة الكتابة تَسلسليًّا، ها هي أسطر أخرى نُدلِّل بها على ما نراه ليَتأكَّد المُتشكِّك، ننقلها كما طُبعت بالضَّبط: " أما طه الشاذلي فكان يدرك أن مصيره سوف يتحدد اليوم إلى الأبد فبعد ساعات قليلة يتقدم إلى كشف الهيئة في كلية الشرطة، الحاجز الأخير في سباق الأمل الطويل، كان يحلم منذ الطفولة بأن يكون ضابط شرطة ومن أجل تحقيق الحلم بذل كل ما لديه". و: "انكب على الاستذكار في الثانوية العامة حتى حصل على مجموع 89 % أدبي بدون دروس خصوصية (باستثناء بعض مجموعات التقوية في المدرسة التي كان أبوه يوفر ثمنها بالكاد). وانضم في العطلة الصيفية إلى مركز شباب عابدين (بمصاريف عشرة جنيهات شهريا) وصبر على تمرينات كمال الأجسام الشاقة حتى يكتسب القوام الرياضي الذي يؤهله لاختبارات اللياقة في كلية الشرطة ومن أجل تحقيق الحلم تودد طه إلى ضباط الشرطة في المنطقة". كما يخطئ علاء الأسواني في استخدام الضَّمائر: "ظلت وسط البلد ـ لمائة عام على الأقل ـ المركز التجاري والاجتماعي للقاهرة حيث تقع أكبر البنوك". يجب أن يكتب: "ظَلَّ"، لأن "وسط البلد" مُذكَّر. كما يجب أن يكتب: "يقع"، لنفس السَّبب. أيضًا كتب: "لقد شيدت النخبة القديمة في مصر وسط البلد لتكون الحي الأوروبي للقاهرة". و: "ظلت وسط البلد حتى مطلع الستينات محتفظة بطابعها الأوروبي". و: "فبدأت وسط البلد تفقد أهميتها". و: "لم يتبق في وسط البلد كلها". ما سبق يُمثِّل بعضًا من أخطاء الصِّياغة واللغة، لكن الأخطاء في "عمارة يعقوبيان" لا تَتوقَّف عند هذين الصِّنفين، إذ ضرب صنف ثالث ضربًا مهلكًا في بناء الرِّواية، عندما فاضت الأخطاء عن أغصانها وفروعها إلى جذعها وجذورها، ليقع الكاتب في جُبِّ طرح التَّبريرات التي تتجاوز حَدَّ السَّذاجة التَّعبيريَّة إلى البلاهة، أثناء رسمه لبعض شَخصيَّات روايته، أو بنائه بعض أحدائها؛ لنضرب مثالًا: الكاتب حاول إقناع القارئ بأنَّ زكي بك الدُّسوقي شخص غير عادي، فكتب الآتي: "باختصار يبدو زكي الدسوقي أسطوريا على نحو ما، مما يجعل حضوره مشوقا وغير حقيقي تماما (كأنه قد يختفي في أي لحظة أو كأنه ممثل يؤدي دورا ومن المفهوم أنه بعدما يفرغ سوف ينزع عنه ملابس التمثيل ويرتدي ثيابه الأصلية)"! مثال آخر حاول فيه الكاتب منح بطله زكي الدُّسوقي عمقًا، ليجعله صاحب فلسفة خَاصَّة تجاه النِّساء، فكتب: "والمرأة بالنسبة إليه ليست شهوة تشتعل حينا ويتم إشباعها فتخبو وإنما عالم كامل من الغواية التي تتجدد في صور لا نهائية لتنوعها الفتان: الصدور العامرة المكتنزة بحلماتها النافرة كحبات العنب اللذيذ، المؤخرات الطرية اللدنة المترجرجة وكأنها تترقب اقتحامه المباغت العارم من الخلف..."! والأمثلة في هذا تطول بينما ورقة المقالة تقصر في حين لدينا مزيد من الأخطاء المطلوب إثباتها، منها الحوار داخل هذه الرِّواية، فقد اختلط فصيح العَربيَّة بعَامِّيتها عند تخاطبات بعض أبطالها فيما بينهم، مثلًا: في محاورة بين محمَّد عَزَّام وزوجته الثَّانية سعاد: تقول له: "احك لي عما يضايقك يا حاج". ثم في نفس المحاورة تقول: "يا ألف نهار أبيض يا حاج، أزغرد والا أعمل إيه؟". ثم في المحاورة بين عبده "البرغل الناشف" والأستاذ حاتم "الكوديانا"، بعد إعلان الأَوَّل تَخوُّفاته من تَعرُّضه للحبس من قبل رؤسائه الضُّباط، يقول حاتم لعبده: "خذ.. ابعثهم لزوجتك وابنك.. ولك علي أي حاجة يطلبوها أعملها لك.. وبكره أقابل اللواء قريبي ونكلم الضابط عليك.. بس وحياتي عندك...". وهكذا الكثير، مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ الكاتب أجرى الحوار بين المُتطرِّفين الإِسلاميِّين فصيحًا، مع أنَّهم لا يستخدمون الفصحى في محاوراتهم اليَوميَّة إِلَّا لمامًا! فإذا ما تركنا أخطاء التَّخاطب ستقابلنا أخطاء الرَّصد، وهي من أشد الأخطاء خطورة على الفَنِّ الرِّوائي، لأنَّها إذا ارتُكبت أفقدت الحبكة موضوعيتها، وقطعت الوصل التَّخيُّلي فورًا؛ وقد كان الكاتب قَدَّم وصفًا تَفصيليًّا للحجرة من حجرات سطح عمارة يعقوبيان الخمسين، فمساحة الواحدة منها لا تزيد عن مترين مُربَّعين، منشأة بصفائح الحديد، لا يستطيع ساكنها فرد طوله على تمامه مع ذلك احتاج عبده لسَيَّارة نقل كبيرة كي "يلم عزاله" منها قبل رحيله عن العمارة! بل إنَّ من هذه الغرف ما احتمل إلحاق دورة مياه بها! ذكر أيضًا أنَّ الطَّالبات المنتقبات زغردن حمية في مسجد السَّلفيِّين لخطبة الشَّيخ شاكر الحَماسيَّة، هذا غير زغاريد النِّسوة في المعسكر الجهادي أثناء زفاف طه الشَّاذلي برضوى، وهذا تعبير عن الفرح لا يمكن أن يصدر عن البنات أو السَّيِّدات اليَمينيَّات، السَّلفيَّات بالذَّات، وقد تَعلَّمن من أحاديث النَّبي أن ينتهين عن صوتين هما من أصوات الشَّيطان: الصُّراخ عند وقوع مصيبة، أو الزَّغاريد في أوقات الأفراح. بل استرجاع عند الأولى، وتهليل وتكبير في الثَّانية.
فإن كانت عمارة يعقوبيان بهذه الهشاشة الإِبداعيَّة، خالية من أَيِّ دسم أَدبيٍّ، فما الذي جعلها تَتبوَّأ مكانة عليا تسويقًا في مصر؟
لمحاولة الإجابة علينا العودة بالزَّمن إلى الماضي القريب، سِتِّينيَّات القرن المنصرم، عندما اعتمد الفَنُّ الرِّوائي الحداثة منهاجًا له، لتسعى الرِّواية المِصريَّة نحو التَّخلُّص تمامًا من فكرة التَّقليديَّة التي سيطرت على كتابات السَّابقين من الكُتَّاب، أمثال إحسان عبدالقُدُّوس ويوسف السِّباعي ومحُمَّد عبدالحليم عبدالله ويحيى حِقِّي ونجيب محفوظ، وغيرهم من مجايليهم، تَمَّ نسف البناء الرِّوائي الذي يعتمد البداية والذُّروة والنِّهاية كهندسة لبناء الرِّواية، بالتَّالي تَوقَّفت الحكاية داخلها عن التَّصاعد دُراميًّا بشكل سهل، تَشذَّرت الرِّواية لتصير أقرب إلى تقاطعات وتشابكات ذِهنيَّة مُربكة، تَحوَّلت عند البعض للوحات من الفَنِّ التَّشكيلي غير مفهومة، تنسيقاتها وألوانها روعة، لكنَّها على الإجمال تُشعر المُتأمِّل فيها بالغباء إزاء تعقيداتها؛ ثم توالت الأجيال ما بعد السِّتينيَّة مدفوعة برغبة عارمة في التَّميز بتحقيق كتابة أكثر تَطوُّرا، لتسقط في شراك ما سُمِّي بما بعد الحداثة، فتُستغلَق أعمالهم أكثر وأكثر، وتبتعد عن الواقع الاجتماعي والفكري للقارئ العربي أكثر وأكثر، مع ذلك كان الفَنُّ الرِّوائي هو الأقدر على البقاء أَدبيًّا، فقد سبق للشِّعر، ديوان العرب، أن خنقه انبهار الشُّعراء بالتَّرجمات ليُحوِّلوه من طبيعته العَربيَّة إلى طبيعة غَربيَّة لا يستسيغها القارئ الشَّرقيُّ؛ في هذا المشهد الأدبي المُترنِّح بدعاوى الحداثة وما بعدها، والتَّطوُّر الفَنِّي، غير المُتَّكئَين على عُمُد من هُويَّتنا ظهرت "عمارة يعقوبيان"، مكتوبة بلغة ضحلة، لكنَّها مفهومة، تتناول مواضيع مستهلكة، لكنَّها نفس المواضيع التي لا تزال تَمسّ القارئ العَربيَّ، غير ما اعتُبر جرأة في الكشف عن مواضيع كانت غامضة وقت صدور هذه الرِّواية، فلم تكن الشَّبكة العَنكبوتيَّة فرشت حبائلها على كل هذا الاتِّساع، ولا كانت المَعلوماتيِّة فرضت سطوتها بمثل هذه الأدوات سهلة الحصول عليها، سهلة الاستعمال،، فكان طَبيعيًّا أن يلفت انتباه القارئ وجود طبقة تعيش حياة الفقر كاملة في منطقة راقية! كان مدهشًا له الكشف عن مفردات علاقة شَاذَّة بين رجلين، أن يرى أحداثًا تجري في معسكرات الإِرهابيِّين، أن يتابع فساد نظام مبارك في أعلى مستوياته، ثُمَّ يفرح بنهاية سعيدة للرِّواية وإن كانت نهاية ذات دلالة مشينة اجْتماعيًّا وسِياسيًّا، حتَّى لو جاء ذلك على حساب فَنيَّات السَّرد الأصيلة، التي لا تكون الرِّواية رواية أصيلة إِلَّا باستعمالها. أي: أخيرًا وجد القارئ المِصريُّ حكاية سهلة البلع، سهلة الهضم، سهلة ما يتبع البلع والهضم، لا تهم إذن جودة المُكوِّنات أو صَلاحيَّتها طالما كان المأكول شَهيًّا!
أمَّا القارئ الغربي فلا أُظنُّه، وقت صدور هذه الرِّواية، كان يعرف شيئًا عن كتابة علاء الأسواني، فكيف تَعرَّف عليها وأقبل على شراء ترجمتها ليستغرق في قراءتها؟
ربما الضَّجيج الذي صاحب صدور هذه الرِّواية داخل مصر لفت نظر هذا المترجم فانتبه لقراءتها، كان يمكنه قراءتها قبا أن يدعها لما سواها، لكنَّه وجد، إضافة لضجيجها، إغراءًا آخر يَحضُّه حَضًّا على ترجمتها، إغراءًا فَنيًّا؛ إنِّها رواية لا تعتمد جَماليَّات اللغة وسيلة أَدبيَّة، فهي مُجرَّد جمل إِخباريَّة مُتراصَّة بالتَّتابع لا أكثر ولا أقل، ليس هناك أي أساليب إِبداعيَّة، لا شيء يُجهد المترجم أثناء نقلها إلى لغته. ولأنَّ القارئ الغَربيَّ قارئ واع لم يكن المُهمُّ لديه متابعة لغة رواية مترجمة عن لغة أخرى، خَاصَّة وإن كان المترجم حصيفًا فأضاف عليها من نكهة لغته ما يُشبع نهم هذا القارئ، فإنَّه سيَتتبَّع الحكاية، ليجد عوالم مغايرة عن عوالمه، بيئة مختلفة، تَصرُّفات حواضر بِدائيَّة، أهذه هي مصر العراقة من الدَّاخل؟!
مع كل هذه المثالب لا يمكن وصف هذه الرِّواية بالهمل، أو غير ذات شأن، بالعكس، لقد كانت شديدة الخطورة، لأنَّها المسرودة الفيصل بين زمنين رُوائيِّين: زمن الرِّواية الجميل قبل "عمارة يعقوبيان"، وزمنها القبيح بعد "عمارة يعقوبيان". إذ كُتب على شاكلتها العديد من الرِّوايات المستنسخة منها، يسعى كُتَّابها الرَّديئين لتحقيق نفس المكاسب التي حَقَّقتها هذه الرِّواية الرَّديئة، من تسويق وترجمة وتَحوُّل إلى السِّينما والشُّهرة، ثُمَّ تصاعدت قُوَّة الانهيار الرِّوائي إلى الحَدِّ الذي أمكن معه الآن اعتبار "عمارة يعقوبيان" رواية معقولة!
لكن، وإن جاءت "عمارة يعقوبيان" معتمة تمامًا فَنيًّا إِلَّا أنَّ بقعًا مضيئة أنارت بعضًا من مناطق طرحها، عندما جاءت متسامحة مع إِنسانيَّة البشر، لم تُوجِّه أَيَّ إدانة لأي شذوذ، سواء كان جِنسيًّا أو فِكريًّا، تَقبَّلت الجميع، وهذا خليق برواية ثقيلة، وكاتب مَوضوعيٍّ، لولا كل ما ذكرناه من آفات قاتلة سَرديًّا. وفي الحين الذي التمست "يعقوبيان" الأعذار للكل وَجَّهت، منذ خمسة عشر عامًا، لومًا وتقريعًا واضحين للثَّورات التي يقودها العسكريون، هؤلاء الذين سبق لهم إزاحة فساد الإِقطاعيِّين، بحركة الضُّباط الأحرار في 23 يولية 1952، ليصنعوا فسادهم الأشد استبدادًا. فقد طرد قادة العسكر الثَّوريِّين الباشوات من شقق العمارة الفخمة ليسكنوها بدلًا منهم!

إرسال تعليق