U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في كتاب "إصلاحي في جامعة الأزهر" لفرنسين كوستيه تارديه




كتبت الباحثة الفرنسية "فرنسين كوستيه تارديه"، مؤلفة هذا الكتاب موضوع ورقتنا، توصيفا مختصرا له، بأول سطرين من التصدير، قالت فيه: "هذا الكتاب هو الصورة المنقحة من رسالة الدكتوراة التي قٌدِّمت، وتمت مناقشتها، في العاشر من شهر مارس عام 2003 م، بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية". ومقر هذا المعهد "باريس"، عاصمة "فرنسا".

يقع الكتاب في 400 صفحة من القطع المتوسط، أحد إصدارات المركز القومي للترجمة، ومقره "الجيزة"، أحد أقاليم "القاهرة" الكبرى، عاصمة "مصر".
موضوع الكتاب شخصية مصرية ظلت لأربعة عقود ملء السمع والبصر مصريا وإقليميا وعالميا، صُفَّت في الصدارة بين أعلام "التنوير"، رغم أنها لشيخ أزهري.
الكتاب في قسمين، الأول في ثلاثة أبواب، والثاني في بابين، بترجمة جيدة للأستاذ "عاصم عبدربه حسين"، وعنوانه الرئيس: "إصلاحي في جامعة الأزهر"، وعنوانه الإرشادي: "أعمال محمد مصطفى المراغي وفكره".
هو إذن كتاب عن "محمد مصطفى المراغي"، شيخ الأزهر في بعض من عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، ولد في "المراغة" التابعة لأعمال بندر "طهطا" في قلب صعيد "مصر"، سنة 1881م، أي قبل الاحتلال الإنجليزي لـ"مصر" بسنة واحدة، لأب شيخ ورع، فنما وترعرع بمحبة الإسلام، فطنا، ذكيا، وسرعان ما التحق بالأزهر، المعهد التعليمي المرموق وقتها، ولفطنته وذكائه حصل على الشهادة العالمية وعمره بالكاد يتجاوز العشرين بثلاث سنوات، (أحدث أزهري سنا يحصل عليها)، ليعيّن قاضيا في "السودان"، (أحدث قاض سنا)، ثم يرقّي إلى كبير القضاة، (أحدث كبير قضاة سنا)، وستدور الأيام ليصبح شيخ الأزهر، (أحدث شيخ أزهر سنا)، في السابعة والأربعين من عمره.
وظل يشغل منصب كبير القضاة في "السودان" لخمس عشرة سنة تقريبا، قبل أن يعود إلى "مصر"، ليتنقل في عدة مناصب، منها رئيس المحكمة الإسلامية، ثم أخيرا ينتخب شيخا للأزهر في 1928م، (أو بحسب تعبير فرنسين كوستيه: عمادة الأزهر)، بعد منافسة شديدة مع الشيخ "الظواهري". كان "المراغي" يمثل التجديد والتنوير، فلم يرغب فيه الملك "فؤاد"، ورغب في تعيين "الظواهري"، ممثل الحرس القديم وصاحب الحظوة عند الملك.
لكن.
في قديم الزمان، لم يكن كل ما يتمناه الحاكم يدركه.
أختير "المراغي" رغم أنف الملك.
وعلى الرغم من عدم توافق الملك "فؤاد" مع الشيخ "المراغي"، إلا أن الأخير، حتى قبل توليته شيخا للأزهر، سعى بمنتهى الجد إلى إسباغ كسوة الخلافة ـ التي لفظتها "تركيا" الحديثة بإزالة "آل عثمان" ـ على الملك "فؤاد"، ليس حبا فيه، أو تزلفا له، ولكن بحسب ما أوضحت الباحثة، في غير موضع من كتابها، حبا في "مصر" وتعظيما لها، وإحساسه بأن "مصر"، دون غيرها من بلاد الإسلام، المؤهلة لذلك، ما يضفي على الخلافة القوة والمهابة، وكان قد اقترح على الإنجليز، في سبيل ذلك، العمل على إنشاء مملكة عربية تضم "مصر" و"العراق" و"سورية"، تقوم عليها الخلافة، وهو الاقتراح الذي لن يجد آذان إنجليزية صاغية.
ويمكننا تفهم سبب انصراف الإنجليز عن العمل على تحقيق هذا المطلب إذا طالعنا ما وثقه السير لامبسون في أحد تقاريره، قائلا : "إن الإنجليز كانوا يخشون أن يؤدي تدعيم الروابط التي تجمع البلاد الإسلامية، بصورة أو بأخرى، إلى تحالفها ضد إنجلترا وفرنسا، وإلى تحولها ناحية القوى المنافسة لهما".
رغم ذلك تمتع الشيخ "المراغي" بتقدير واحترام الإنجليز من حكام "مصر" وساستها، لأنه لم يمارس أيا من سياسات التظاهر أو الثورات ضد وجودهم، بل كثيرا ما حض الساسة الإنجليز على التدخل في شؤون بعض الحكومات المصرية، ووجهة نظره في ذلك أن الإنجليز لن يسمحوا للانشقاقات الناجمة عن النزاعات الحزبية بالحدوث. ثم لأن "المراغي" أفتى بعدم جواز الانضمام إلى جيش العثمانيين (قبل سقوطهم) المصطف مع جيوش المحور في أثناء الحرب العالمية الأولى، ما أكسبه أرضا واسعة لدى الإنجليز.
وعليه فقد قرر المندوب السامي البريطاني في "مصر"، "لورد لويد"، بخصوص المنافسة بين الشيخ "الظواهري" والشيخ "المراغي": "إن اختيارنا سيكون الشيخ المراغي بلا أي تردد، فرئيس المحكمة الإسلامية العليا حاليا ليبرالي ومستنير، يحظى بالاحترام عالميا، محب للإنجليز بوضوح، سوف يكون مرشحا مثاليا".
لا شك في أن محبة الإنجليز للمراغي وصمة عار على جبينه.
ولك ـ عزيزي القارئ ـ أن تعرف رأي الشيخ "المراغي" في علماء "الأزهر" قبل مائة عام تقريبا ـ سنة 1928م ـ لتندهش من أنه ليس بعيدا عن الرأي القائم فيهم الآن! حيث يكتب في أحد مقالاته: "خلال القرون الأخيرة استسلم علماء الدين إلى الكسل، معتقدين أن أحدا لا ينتظر منهم القيام بأي مجهود في مجال التفسير الشخصي، مغلقين بذلك أبواب الاجتهاد. لقد ركن العلماء إلى التقليد، وكرسوا أوقاتهم في دراسة كتب لا تمت إلى روح العلم بأي صلة، ابتعد العلماء عن الناس، وتجاهلوا الحياة، فتجاهلهم الناس، لم يظهروا أي اهتمام بطرق التفكير الجديدة ووسائل البحث العصري، لقد تجاهلوا المعارف التي ابتدعها الإنسان والمعتقدات ووجهات النظر الجديدة، ولذلك انفض الناس من حولهم وشعروا تجاههم بالنفور".
لقد لفت انتباه الأزاهرة إلى أن: "المجتمع قد تغير تغيرا عميقا". فليكن إذن: "على رجال الدين أن يتغيروا، حتى يستطيعوا الوفاء بكل احتياجاته. يجب على الأزهر أن يقدم للبلاد مدرسين وقضاة أكفاء، مرشدين ودعاة على دراية بمشاكل عصرهم، قادرين على تنقية المعتقدات الدينية، وتوضيح مبادئ الإسلام، يجب أن يكون الهدف من الإصلاحات هو تحرير العقول من قيود الامتثال للعرف السائد، والسماح بالاجتهاد".
أليست هي نفسها ذات المطالب المشهرة في وجه "الأزهر" الآن!؟
لكن إذا كانت هناك مسؤوليات على أعتاق شيوخ "الأزهر"، فـ"المراغي" يرى أن المهمة أكبر من أن توضع على أعتاق الأزاهرة وحدهم، بل على الدولة مسؤولياتها أيضا، وواجباتها تجاهه رجال "الأزهر": "تحسين تأهيلهم علميا، وإعطاؤهم المكانة الاجتماعية اللائقة"، لأن: "بدون الدعاة الذين يعرفون مشاكل عصرهم، ويمكنهم إرشاد المسلمين، فإنه يصير من الوهم أن نعتقد أننا سوف نستطيع أن نتصدى بفاعلية لتدهور وتردي العادات والعلاقات الاجتماعية".
وإذا كان "المراغي" يحض رجال الأزهر على فتح باب "الاجتهاد"، فإن منطلقاته ربما هي نفسها منطلقات المثقفين التنويريين المعاصرين حين يدعون إلى تجديد الخطاب الديني، فيقول: "إن هذه القواعد (يقصد القواعد الفقهية) لم توضع إلا لصالح البشر، ومن أجل تنظيم علاقاتهم المشتركة، وعليه فيجب أن تكون متوافقة مع أعرافهم، وأن تمتثل لحالات الضرورة، وتسعى إلى رفع الحرج عن الناس، وليس من المعقول أن تتحجر القواعد الشرعية التي وضعها الاجتهاد أمام الأوضاع الجديدة التي يفرزها عصرنا الحالي، وأمام العادات والأعراف المقرة التي يقتضيها زماننا. إن هذه القواعد الشرعية، في حقيقة الأمر، قابلة للتجديد وللتعديل أمام العرف العام والعرف الخاص".
ويؤكد على أن: "قواعد الفقه مرنة بما يكفي لتلبية كل حاجات البشر في كل زمان ومكان".
كما لا يضع شروطا معقدة لا بد من تحققها في العالم كي يجتهد، بل يكفيه المعرفة الجيدة باللغة العربية، والآيات من القرآن والأحاديث من السنة حول الموضوع المجتهد فيه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ.
بل وسيؤكد بمقالاته في جريدة "الأزهر" على حرية الرأي، وسيوضح الحالات التي يجب أن تحترم فيها هذه الحرية، وسيكتب: "إن اتهام شخص ما بعدم الإيمان (الكفر) هو اتهام خطير، ولا يجب أن يوجه بلا روية وتبصر، طالما كان المسلم مؤمنا بالقرآن، ولا ينكر شيئا مما جاء فيه، ولا مما هو مؤكد بالقطع فيما يتعلق بالرسول، فإنه يظل مسلما، ولا يملك أحد الحق في أن يعتبره غير مؤمن (كافر)؛ إن هذا المسلك يسمح، بالإضافة إلى أشياء أخرى، بالتواصل والحوار ويمنع ردود الفعل المعاكسة".
يتولى "محمد مصطفى المراغي" مشيخة "الأزهر"، فيشرع في إصلاحات فورية، منها وضع قانون الأزهر، الذي انتهى منه في التاسع من "أبريل" 1929م، وقدمه إلى الملك "فؤاد" ليحصل على موافقته، وفيه ميزانية تضمنت بنودها: "إرسال طلاب إلى الجامعات الأوروبية. إصدار مجلة خاصة بالأزهر. ترجمة بعض الكتب الأجنبية المتعلقة بالمواد التي يتم تدريسها بالأزهر إلى اللغة العربية. منح مكافأة لوضع كتب جديدة تخصص للطلاب. تعديل بعض الأوضاع الوظيفية والرواتب لكي تتوافق مع أوضاع ورواتب المدرسين التابعين لوزارة المعارف العمومية. تجهيز فصول دراسية جديدة. إنشاء عيادات طبية في المعاهد الدينية وتزويدها بالمعدات اللازمة وتعيين من يتولى مسؤوليتها من الأطباء".
وبدا أن "الأزهر" ينتعش، حتى أن "جرافتي سميث"، أحد كبار رجال الإدارة الإنجليز في "مصر"، كتب في تقرير له: "بالتدريج كانت فاعلية واحد من أقرب أصدقائي، الشيخ محمد مصطفى المراغي، قد سرت في العظام اليابسة، وجعلت من الأزهر شيئا حيا وهادفا ومثيرا بعد سيطرة الرقابة والتقليد. إنه يقتفي آثار محمد عبده، والأزهر الحالي هو صرحهما".
شهادة إنجليزية إضافية تصب في صالح الشيخ "المراغي": "أحد أقرب الأصدقاء للإنجليز!".
لكن؛ "فرنسين كوستيه" تكشف بكتابها عن أن "المراغي" سياسي داهية، فهو لا يصادق الإنجليز على وجه الحقيقة، بل يساير الأوضاع إذا لم يكن بد من مسايرتها، لكن إذا اختلفت الأوضاع مع اشتداد ساعده، وصيرورته شخصية نافذة تمتلك أدوات التأثير والتغيير، يتحول من صديق إلى مناضل، ما انبني عليه تحول نظرة الإنجليز إليه من صديق إلى "شبه عدو"، وسينزعون عنه ثقتهم فيه.
إذن، بدأ "المراغي" في مسح العار عن جبينه.
كيف حدث ذلك؟
أقول لك:
بسبب القضية الفلسطينية!
تذكر الباحثة أن السلطات البريطانية: "لم تجد أي صعوبة في أن تحصل من حكومة زيور باشا على الاعتراف بانتدابها في فلسطين والعراق، الذي تم بالترتيب في 1923 و24م، في الوثيقة المحررة بشأن هذا الموضوع في فبراير 1926م. لا تبدي الوزارة أي تحفظ على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، الحكومات المصرية المتعاقبة خلال العشرينيات لم تقدم مطلقا أي دعم رسمي لصالح القضية الفلسطينية، وكان شاغلها الأهم هو ألا تصير مصر مسرحا للتظاهرات المناهضة للصهيونية، وألا تجد نفسها متورطة في الصراع القائم. الأدهى أن بعض الزعماء والقادة السياسيين الذين يبدون اهتماما بما يجري في فلسطين انحازوا إلى جانب الصهاينة الذين يجسدون في نظرهم الحداثة وقيم الغرب التي يؤمنون بها".
أما وزارة "محمد محمود"، التي خلفت وزارة "زيور" باشا إثر الاضطرابات الشديدة التي قادها طلبة "الأزهر"، فإنها: "لا تتردد مطلقا في منع وقمع أي مظاهرة مناهضة لليهود والصهيونية، وتتبنى الصحافة بشكل عام أسلوب الحياد التام، مكتفية في معظم الأحوال بدعوة الطرفين إلى إيقاف هذه الفوضى ونبذ العنف والتوصل إلى اتفاق يتيح للطرفين أن يعيشا بسلام على أرض فلسطين".
وإزاء المواقف المتخاذلة لحكومتي "زيور" و"محمد محمود" ظهر موقف "الأزهر" من خلال شيخه "المراغي"، قبل شهر من تقديم استقالته بسبب تأخر توقيع الملك "فؤاد" على قانون "الأزهر"، وكان موقفا قويا، حيث: "كتب (المراغي) إلى المندوب السامي بيرسي لورين طالبا منه أن يبذل قصارى جهده من أجل إحلال السلام في الأماكن المقدسة. ويؤكد المراغي في رسالته أن أي احتكاك بين اليهود والمسلمين سيبدو، لا محالة، في نظر محركي النزاع وكأنه صراع ذو طبيعة دينية، وأن المسلمين على قناعة بأن الله سوف يكتب لهم النصر، تحقيقا لما وعد به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). ويردف المراغي أن المسلمين بدفاعهم عن الأماكن المقدسة إنما يعملون على حماية الإسلام وعلى منع اليهود من تحقيق حلمهم في إقامة مملكة إسرائيل، ويذكر المراغي مقاطع من القرآن، ومن أحاديث السنة النبوية، التي توضح أن اليهود هم أعداء المؤمنين، وخاصة الحديث الذي ورد في البخاري، والذي قيل فيه: ستحاربون اليهود، حتى إذا اختبأ واحد منهم خلف حجر، سوف يصيح الحجر يا عبدالله هناك يهودي خلفي تعال واقتله".
وبعكس حقبة عشرينيات القرن العشرين، التي لم تكن فيها لمصر هوية واضحة، حدث في الثلاثينيات أن صنعت "مصر" لنفسها هوية سياسية عربية: "وهكذا انتقلت من شعور بالتضامن المرتبط بالإسلام إلى تأكيد انتماء عربي مشترك".
وعليه، اختلفت ردود الفعل تجاه القضية الفلسطينية.
تقول الباحثة: "كانت ردود فعل الشعب المصري تجاه الإضراب الفلسطيني الكبير، عام 1936م، وتجاه الاضطرابات التي صاحبته، قد أظهرت هذا التطور بوضوح. دافعت الصحافة عن عرب فلسطين، ودعت الشعب إلى بذل كل ما يمكنه لإغاثتهم. كثير من الجماعات السياسية الدينية خاصة جمعية الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، قد جعلت دعم القضية الفلسطينية مرجعيتهم الأساسية". وبكل تأكيد: "لم يغب الأزهر عن حركة التضامن الواسعة تلك، وجه المراغي خطابا إلى مندوب فلسطين السامي، وأرسل الطلاب بعد اعتصام دام يومين إلى السلطات البريطانية هذه الرسالة: نحن نعترض بشدة على السياسة الرامية إلى تهويد فلسطين العربية، هذا الفعل يثير استنكار الـ400 مليون مسلم الذين يعيشون في هذا العالم من الشرق إلى الغرب، والذي جعل منهم خصوما للامبراطورية البريطانية، في الوقت الذي نسمع فيه من أفواه كبار الساسة الإنجليز عبارات المودة والوفاق".
هكذا أخذت نبرة شيخ "الأزهر" في الاحتداد تجاه "الإنجليز"، "أصدقاء الأمس!".
لكن نبرة أقوى احتدادا أطلقها الشيخ "المراغي" بخصوص ما ارتكبته إحدى لجان التبشير المسيحي، التي تتوافد على "مصر" بحماية ورعاية إنجليزية، من أخطاء فادحة، حيث مارست تبشيرها بأساليب ملتوية، وعنيفة أحيانا، نما بعضها إلى علم الصحافة، فثارت زوبعة هائلة، وكان الشيخ "المراغي" مثيرها الرئيس، فانتفض طلاب الأزهر بالمسيرات والمظاهرات، في حين وقف حزب "الوفد" لا على الحياد، وإنما على العكس، إذ شكل "المراغي" ما أطلق عليه "لجنة الدفاع عن الإسلام"، مهمتها العمل على حماية المسلمين ضد حملات التبشير المسيحي، فإذا برئيس الوزراء وقتها، "محمد شفيق"، يبلغ المندوب السامي البريطاني في "مصر" التأكيد على أن: "اجتماعات لجنة الدفاع عن الإسلام قد تم منعها، لأنها كانت تسهم في إزكاء العداوة بين المسلمين والمبشرين".
سيتضح لقارئ هذا الكتاب أن "الوفد" حزب سياسي بمرجعية مسيحية، حتى أن بعض الصحف، أشارت إلى أن أعضاء هذا الحزب من رجال الأعمال المسيحيين ينفقون المال لمحاربة "الإسلام". كما سيتضح، أيضا، أن إنشاء الميليشيات القتالية لم يكن نهجا قاصرا على "الإخوان المسلمون"، بل هذه الأخيرة اقتبست هذا النهج التنظيمي من حزب "الوفد"، الذي يدير ميليشيته الخاصة، اسمها "القمصان الزرقاء"، وعليه سمى "الإخوان" ميليشيتهم بـ"القمصان الخضراء".
كان الملك "فاروق" قد اعتلى العرش، سنه صغيرة، 16 سنة تقريبا، وكان ديِّنا، فتقرب إلى شيخ "الأزهر"، المؤسسة الدينية الموالية للملك على الدوام، وقد اغتنم "المراغي" هذه الفرصة، فصار أكثر الرجال النافذين تأثيرا على الملك الشاب، وخضع الملك لتعاليم الشيخ، حتى سمي بـ"الملك الصالح"، وليكون ظهيرا للشيخ في معركته ضد التبشيريين، وضد "الوفد"، خصوصا وأن "المراغي"، وبعد أن نسي مشروع "الخلافة" حبيس درج مكتبه، تذكره أخيرا، وأطلق سراحه آملا في جعل ملك "مصر"، "فاروق"، خليفة للمسلمين. وقد تشوق "فاروق" لهذا المنصب الديني، الذي سيجعله سلطانا على ربوع إسلامية كبيرة في هذا العالم.
احتدم الصراع بين العمم والطرابيش: عمم "الأزهر" وطرابيش "الوفد". ولم يكن ـ هذه المرة ـ طلبة "الأزهر" وحدهم في ما اعتبر معركة الانتصار للإسلام، لقد انضم إليهم طلاب "الجامعة المصرية". وبدا أن ساحة للفتنة الطائفية يتم إعدادها.
يحاول رئيس الوزراء "محمد محمود" السيطرة على الموقف، فيؤكد أمام وفد من كبار الشخصيات القبطية، قائلا: "في مصر ليس هناك مسلمون وأقباط، الكل مصريون، الكل إخوة يجمعهم رباط الوطن، إن هذه النغمة المتكررة يجب أن تختفي، لأنها تدعو إلى إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين، ومن جانبها سوف تبذل الحكومة قصارى جهدها لإيقاف تلك الدعاوى المسيئة".
ما أشبه الليلة بالبارحة!
ثم يعلن عن إجراء الانتخابات، فينتشر طلاب "الأزهر" في القرى والمدن، يوجهون الناس إلى عدم التصويت للوفد، لأن التصويت له يعني: التصويت ضد الإسلام.
التاريخ دوَّار؛ إنها "غزوة صناديق" جرت وقائعها في 1938م!
وكان طبيعيا أن يسقط "الوفد" سقوطا ذريعا، ومعه زعيمه "النحاس"، وأجبر الحزب على فك ميليشيته القتالية "القمصان الزرقاء".
في برقية لوزارة الخارجية الفرنسية، نشرت بمقال لمراسل إحدى الصحف الإنجليزية: "إن عميد الأزهر (المراغي) أحد المستشارين المقربين من الملك فاروق، والوحيد الذي يمتلك تأثيرا على جلالته. لقد سمحت لنفسي أن أقول إن الشيخ المراغي ينوي قيادة مصر نحو بعث للروح الدينية. لا يشك أحد أن مصر بكونها مركزا روحيا وسط الأمم الإسلامية يمكنها ان تشرع بنجاح في بعث الخلافة الإسلامية".
كما كتب أحد اليسوعيين المقيمين في "القاهرة"، يقول: "الشيخ المراغي ليس عميدا للأزهر فقط، إنه اليوم واحد من أكثر الرجال نفوذا في المملكة، (مرشد الملك)، لقد أشرنا منذ وقت قريب إلى هذا النفوذ. اليوم، ما زال هذا النفوذ يتنامى. إن مفتي مصر ليس سوى ظلا باهتا إلى جوار الشيخ المراغي، إنه يملك بين يديه قوة تفوق قوة القمصان الزرقاء: العشرة آلاف طالب المنتمين إلى جامعته. إنه ينظمهم ويحدثهم بما يكفي تماما ليستردوا وعيهم، إنه يثير فيهم الحماسة، إنهم روح مصر وروح الإسلام".
أما "فرنسين كوستيه"، مؤلفة الكتاب، فتقول متجنية: "في الحادي عشر من فبراير، (1938)، وبمناسبة عيد الأضحى، الذي وافق في ذلك العام عيد ميلاد الملك فاروق، ألقى المراغي خطابا هاجم فيه المسيحيين بعنف شديد للغاية".
والحقيقة، دون إجحاف، أن "المراغي" لم يهاجم مسيحيي "مصر" إجمالا، بل التبشيريين الممولين برعاية "الإنجليز"، أصحاب الخطط الدينية ذات الطابع الاستعماري، بالإضافة إلى السياسيين منهم في حزب "الوفد".
ها هو الشيخ "المراغي"، وبحسب ما أوردته المؤلفة على لسانه من خطابه المحتفل بعيد ميلاد الملك "فاروق"، يصف من يقصدهم قائلا: "هؤلاء الذين يريدون فصل الدين عن الحياة الاجتماعية هم في الحقيقة أعداء للإسلام، إنهم بارعون في تحريض الناس على اعتناق دينهم بقدر ما هم بارعون في السياسة، لقد ظلوا خلف الستار ودفعوا إلى الواجهة بتلاميذهم المسلمين، لقد سعوا إلى إقناعهم بمساعدة الشيطان وجنوده، همسوا في آذانهم وحرضوهم قائلين: هل ندلكم على شجرة الخلد وملك لا يفنى؟ كونوا أبطال الحضارة والمدافعين عن إصلاح أحوال الأمم، إلا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أكدتم أن الدين لا يتوافق مع الحضارة، وأن شرائعه تتناقض مع الإصلاحات الاجتماعية، وأن الأمم المتحضرة لا تحترم الأمم التي لا تزال مرتبطة بديانتها، أعلنوا كل هذا بلا خجل؛ هؤلاء الأشقياء ليسوا سوى مطايا ذليلة، مستعبدة ومروضة، وأصواتهم ليست سوى رجع صدى أصوات أسيادهم، الأمم، أو بالأحرى، الثعالب التي تنقض عليكم، إنهم يريدون الاستيلاء على ما تبقى من تراثكم، يريدون السيطرة عليكم، وإخضاعكم، ومحو الآثار الباقية من عظمة الإسلام، جلال العقيدة الإسلامية. إنكم تثقون في صداقتهم، تلقون إليهم بالمودة، ذاهبون في عكس ذلك إلى عكس ما نادى به كتاب الله، لقد استغلوا البعض منكم في القضاء على الآخرين، أهانوا بعضكم بلسان الآخرين منكم.....".
وي كأنه نفس كلام الدكتور "أحمد الطيب" شيخ الأزهر المعاصر!
وكأننا نلعب مع التاريخ لعبة: دوخيني يا "لمونة"!



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة