U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

صحيفة سوابق البرص

 


بيني وبين البرص ثأر شخصي، إذ أن أمي رأت الثعابين والعقارب والصراصير والفئران فلم يرعها شيء منها، انقضت عليها بكل شجاعة، وطاردتها حتى قتلتها، إلا البرص؛ ولم أر أمي ترقص في فرح، أو في غير فرح، لكنها رقصت دبكة عندما سقط برص في عبِّها وهي تعمل النظافة المنزلية المعتادة، فجأة شعرت بشيء لزج يلعب في صدرها، نظرت فيه ولم تكن تظن أنها سترى ما رأته، برص ينظر لها ببراءة وخوف، وكأنه يعتذر ويسترحمها: "والله ما قاصد أعمل كده"؛ خالطها فزع لا قِبل للغة بالتعبير عنه، فصرخت: " يا بَيْ يا بي يا بي"، وتنططت، وقلبت سوتيانها القماش المخيط يدويا، في محاولة منها لنفض البرص عن صدرها، ومن المؤكد أن البرص انقذف بعيدا، لكن أمي لم تصدق ولم تطمئن، فدخلت الحمام وخلعت كل ثيابها!

وولعي بقتل البرص ليس لدافع ثأري فقط، ولكن لشيء في جيناتي (أو في جينات البرص) يجعلني كلما رأيت برصا أرى كلمة ترعش بين حاجبيه: "اقتلني بالشبشب". فأجرى إلى أقرب شبشب نظيف، وأظل أصوب وأدقق التصويب، وأُنشِّن وأدقق التَّنشين، ثم أطلقه من قبضة يدي انطلاق المقذوف من المنجنيق، ومرة تصيب، ومرة تخيب، مرَّات يهرب، ومرات يلقى حتفه، مرات لا أجد منه إلا ذيله يتلوى ويترقص! وأكثر ما أدهشني في طفولتي ومراهقتي منظر ذيل البرص حيا بجوار البرص نفسه ميتا! في طفولتي لم يمكنني التفلسف إزاء هذا المشهد المبهر، لكن في مراهقتي تفلسفت، وفكرت في أن الناس أغبياء حين يحطون من قيمة الذيل، ويرفعون من قيمة الرأس، فكيف ذلك والذيل يعيش أطول، ها هو الرأس ميت، وها هو الذيل حي، الذيول إذن أفضل من الرؤوس! وبدأت أفكر جديا في أن أعمل بجد كي أكون ذيلا، تابعا، أطبل للرؤوس، أخدم المتنفذين، وأحلام السادة أوامر، فأنتفع بدمهم أحياء، أستفيد منهم، أحقق وجودا مميزا، فإذا ماتوا عشت، وعاشت دولة الذيول.

بيد أني تجاوزت المراهقة بفكرة استوت على نار تأملية هادئة: الحياة الحقيقية تعيشها الرؤوس، والرؤوس الميتة تسترق النظر بلحاظها إلى الذيول، وتسخر من عجزها عن فعل شيء غير الانتفاض والانتباض، وكأن كل رأس ميت يسخر من كل ذيل حي، إذا أنا مت لا قيمة لك مهما تنططت ورقصت.

ومهما ساعدني البرص على التفلسف فهو كائن لزج قميء، خلقه الله كي يكون للاشمئزاز دافع ومعنى حقيقيان، ثم أن له صحيفة سوابق إجرامية، ويكاد يكون الهامة الوحيدة التي لها مثل هذه الصحيفة غير المشرفة، رغم أن القائمة السوداء من المُفسَّقات تشمل كائنات غيره: الفأر والحية والغراب والحدأة، لكن ولا كائن من هؤلاء له صحيفة سوابق عامرة بالجرائم مثله. أولها حقد جده القديم على إبراهيم عليه السلام، وامتلاؤه بالغل تجاهه، درجة أنه ما إن رآه ألقي به في النار حتى حرص على بقائها متأججة، كلما خبت نفخ فيها.. وأتى في الصحيفة أن أصله امرأة يهودية غضب الله عليها فمسخها برصاية.. وفي الصحيفة أنه، وبينما يقوم العنكبوت بإخفاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، في غار ثور عن عيون مطاردينهما الكفار، أخذ البرص يهز رأسه ويغمز بعينيه لهم، بإيماءات متتابعة تجاه الغار، لكن الكفار الأغبياء لم يفهموا البرص.

وبعض تلكم الاتهامات ورد في صحيح البخاري، ورُدت بصحيح البخاري. فأحدهم قال إن النبي حض على قتل البرص، ومن يقتله بأول ضربة له حسنات أكثر مما يحصل عليها قاتله بالضربة الثانية، وهكذا، تقل الحسنات مع تعدد الضربات. ولهذا الحديث فقه جميل في إحسان القتل، "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"، وضربة أولى واحدة قاتلة لا تُعذِّب البرص أفضل من ضربات موجعات مُعذِّبات قبل قتله.

وقال الحديث إن النبي علل سبب قتل البرص انتقاما من غدره بسيدنا إبراهيم!

والحق أنها علة هزار، مِش جادة، وقد قالها الرسول (إذا كان قالها) من باب مخاطبة الناس بلغة يفهمونها قبل 1450عاما هجريا، ولذلك كان، صلى الله عليه وسلم، يوجه إلى مخاطبة الناس على قدر عقولهم؛ والبرص مؤذ ابن مؤذية، اعتاده الناس بين أوانيهم وأثاثهم، ومستعدون للتعايش معه رغم مخاطره القاتلة، ولم يكن من سبيل إلى قطع وجوده بينهم إلا بخطاب مقدس مفاده أن البرص حرق جد الأنبياء، وهذه كارثة فظيعة، إذ يمكن تحمل البرص لو أنه حرق ابنا من الأبناء، لكن كيف وقد حرق جد الأنبياء!

ورغم نشوب الحرب المقدسة ضده، على مدى مائة وخمسين قرنا من الزمان، لم ينهزم، فهو لم يزل لازقا في جدران بيوت المسلمين وأسقفها، ندر أن يخلو بيت منه؛ بل إن أحد أعظم وأوجع انكساراتي مُسلمًا يقع عندما أجلس في صحن مسجد منتظرا الصلاة، متمتما بدعوات وأذكار، وأرفع رأسي ابتهالا إلى الله، فأرى مجموعة أبراص بتهزر مع بعض في السقف والأركان العلوية! وأقسم بالله غير حانث أني رأيت برصا يغازل برصاية، يريد فعل الفاحشة بها فوق أعلى ثنية من المحراب! فتذكرت نائلة وأساف، فعلاها في بيت الله الحرام! (يبقا ما جاتش على البرص!).

مؤخرا حدث ما دفعني إلى تغيير نظرتي وعاطفتي تجاه البرص، فأشكك في النصوص المهترئة الحاطة من قيمته وقدره، درجة أن تنسب أصله وفصله لامرأة يهودية! أقول: كذب المهترؤون إذا كان الواقع يكذبهم، فها هو البرص يهاجم اليهود في عقر فلسطين المحتلة، يسمم عيشتهم، ويقرف حياتهم قرفا لا نهاية له، وكأنه يجاهد ليقول: أنا مِش يهودي، ولا انتمي لليهود، وكذب المهترؤون الذين لا هم لهم سوى تشويه سمعتي!

وأجمل ما في الموضوع هو أن برصنا المصري، لا برصا يحمل جنسية أخرى، من يقوم بمهمة تصحيح التزييف التاريخي، وتجديد الخطاب الديني؛ ليثبت ـ في لحظة فارقة من الزمن يهرول فيها كثير من المثقفين والأدباء المصريين نحو مستنقع التطبيع ليستمتعوا بوساخاته بعد افتقاد حواس الشم والذوق والكرامة ـ أن البرص المصري أشد مروءة ووطنية من هؤلاء بدرجة لا تقارن.

عفارم عليك يا مصري، يا أعظم الأبراص.

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة