U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

إبراهيم وزليخة


خرجت "زليخة" من شرنقة طفولتها إلى اكتمال أنوثتها بنتًا باذخة الجمال. كانت القرى المصريَّة، منذ أربعة عقود تقريبًا، جزرًا منعزلة عن المدنيَّة، لا كهرباء تسري في عروقها، لا وجود للتِّليفزيون وما شابهه من أجهزة التَّسالي، فكان الشَّباب إذا ما انتهوا من أعمال الحقل والزِّراعة، ورعي البهائم، يتجمَّعون زمرًا للتَّسامر تحت أشجار السَّنط وجدران المساجد في الرَّحبات الواسعة، أو للعب كرة القدم على حدود المقابر. أمَّا البنات فيتلهَّين بصناعة العرائس من فتات القطن وبواقي القماش والفضلات العالقة بفلَّاياتهن بعد تسريح شعورهن؛ تحتفظ "زليخة" بعرائسها في خزانة قُدَّت من الطِّين المخلوط بالقش، موضوعة في ركن من سطح البيت، في هذا الرُّكن تقف لتتنسَّم عبير الحقول، تملأ عينيها بأسراب الحمام الجبلي الحُر المتقلِّب في السَّماء، تسبح في أثير الشَّمس المضيء، ثم تلعب بعرائسها، تمارس دور الأم فتهدهدها، تزجرها، تحضنها، أحيانًا تصفع وجوهها بحنِّية تُعلِّمها الأدب!

من قرية بعيدة جاء مدفوعًا بالذي سمعه عن حُسْن "زليخة"؛ اسمه "إبراهيم"، جميل الصُّورة، العمامة على رأسه مزهَّرة ومحبوكة، الجلباب من صوف إنجليزي غالي الثَّمن ينسدل مفرودًا على طوله وعرضه؛ طلب يدها من أبيها، بعد أسابيع استحوز عليها ليستقلَّا القطار إلى "مصر" أم الدُّنيا، بين الأمتعة كرتونة محشوَّة بعرائسها. "إبراهيم" طموح، "القاهرة" مدينة الطَّامحين، إذ المتاجرة في ترابها تحقِّق مكاسب كبيرة! سكنا في حوش من ضاحية "عزبة النَّخل" بالأجرة الشَّهرية، وصار يسرح نهارًا في أنحاء المنطقة يحمل قفصًا على كتفه يبيع الطُّيور، ويسرح ليلًا في أنحاء "زليخة" يشتري المتعة.

"إبراهيم" طموح وغيَّار، يغير على امرأته من الهواء الطَّائر، غار عليها من عرائسها التي انتشرت في كل أركان الحوش، تُكلُّمها بهمس مليء بالحنان والميوعة، وتُكلِّمه بصوت منضبط حدّ الجفاف! كأنَّه لا يعرف بنات قرى الصَّعيد الجوَّاني! خجولات جدًّا، لدرجة لا تمكِّنهن من تطرية أصواتهن في حضرة رجال وإن كانوا أزواجهن! ولأنَّه في "مصر" أم الدُّنيا، بلد النِّساء الملبن، أصواتهن مزِّيكا تُرقِّص القلب، طالبها بالتَّخلص من الحنجرة الصَّعيدية والتَّحلى بأخرى قاهريَّة؛ "زليخة" تحب "إبراهيم"، حاولت ترضيته، لكن القضيَّة قضيَّة طبائع، لا حناجر، بقي صوتها يحن ويلين لعرائسها أكثر ممَّا يحن ويلين لـ"إبراهيم"، فظلَّ مزاجه مُعكَّرًا، أكثر العتاب، العتاب هيَّج الغضب؛ في ليلة عاتية الغضب ترك "إبراهيم" "زليخة" في الفراش وانفلت نصف عارٍ إلى خارج الغرفة كعفريت، جمع كلَّ العرائس في أحد أركان الحوش وأحرقها.


مذ تلك الليلة صارت مقلِّة في الكلام معه، أحرق عرائسها في بلاد الغربة، لم تعد مستبشرة، عندما يطالبها بحقِّه الذُّكوري تؤديه بجسد صامت؛ مع كل ذلك أنجبا ولدين وبنتًا، وكان قد تمكَّن من شراء قطعة أرض، ضرب حولها سورًا يؤكِّد ملكيَّته لها. الدُّنيا زهزهت، انسلَّ نورها إلى قلب "زليخة" رغمًا عنها فنسيت تدريجيًّا عرائسها المحروقة، واستبشرت، واصلت حبَّ "إبراهيم" على طريقة الأنثى الجنوبيَّة؛ تقف خلف رجلها في الحلوة والمرَّة، تربِّي عياله، تستر عرضه، تحفظ ماله، تداري على حاله، تفرد جسدها تحته دون تأوُّه أو غنج!

"إبراهيم" طموح، الطَّموح صبور، الصَّبور لحوح؛ رغم مرور السِّنين ظلَّ يطالبها بتغيير الحنجرة واستبدال الطَّبع كي تكون أنثى مشبعة؛ إنَّها حتَّى لا تقترب منه في العادي لتُقبِّله، لا تحن لحضن دافئ، وهو دوَّار بطيوره بين نساء "القاهرة"، إنَّهن يغنجن ويتمايسن في الأسواق، فكيف بهن في غرف النَّوم؟ قلبه يغتاظ جدًّا، ثم لا يفعل غير الغيظ، يكتم في نفسه، ولا يفكِّر في الخيانة؛ فـ"زليخة" حلوة، طيبة، أصيلة، بنت بلده، لكن "الحلو ما يكملش".

قال لها: اشتقت للصَّعيد يا "زليخة". سأسافر أقضي يومين هناك وأعود.

قالت له: أسافر معك.

قال: ومن يرعى الطُّيور أكل عيشنا؟

قالت: سافر وحدك.

قال: سآخذ الولدين أعرِّفهم على أهلهم وناسهم هناك.

قالت: لا تأخذهما، صغيران على السَّفر دون أمّهم.

قال: يتهيأ لك.

صياح الولدين فرحًا أنهى الكلام لصالح أبيهما.

في نهار الصَّعيد مشى "إبراهيم" بالولدين بين البيوت فرحانًا بإنجازه، صار رجلًا يملأ العين، طول بعرض وجيبه عامر، له بيت مِلك في "مصر"، وولدان نظيفان ينطقان باللهجة القاهريَّة مثل أولاد الذَّوات في "التِّليفزيون"!

في الليل نام الولدان في حجرة خارج بيت جدِّهما، وتسامر "إبراهيم" مع بعض الرِّفاق القدامى، وبينما يغالب ضحكه رأى أفق الشَّرق يتحوَّل لونه من الأسود إلى الأرجواني! ما زال الفجر بعيدًا، يستحيل الشُّروق الآن، لكن سرعان ما رأى لسان نار يتصاعد كأفعى مخترقًا السَّماء، كتم ضحكته، وعربد قلبه بالفزع، ساخت ركبتاه؛ بيت جدّ ولديه غاطس في الأفق الأرجواني المشتعل.

أُبرق لـ"زليخة" بضرورة السَّفر إلى الصَّعيد؛ قلب الأم حسَّاس، طوال رحلة القطار، التي امتدت لأكثر من ثماني ساعات، ظلَّت تُفكِّر في أيِّ مصيبة من الممكن أن تكون قد حاقت بأحد أعزًّائها؟ لكنَّها لم تفكِّر، ولو للحظة واحدة في أن ولديها، الإثنان، أكلتهما النِّيران!

تحطَّم قلب "زليخة" إثر حادثة احتراق ابنيها، آية التَّحطُّم أنَّها لم تصرخ، ولم تبكِ، بل وقفت مشدوهة، تنظر إلى بقايا الغرفة وقد سوَّدها الهباب، و"إبراهيم" داخلها يحرق عرائسها! وهما يستقلَّان قطار الحزن إلى "القاهرة"، يهتز جسداهما برتابة بائسة، خرجت "زليخة" من صمتها وهمست لـ"إبراهيم": أنت أحرقت عيالي أيضًا.

تحوَّلت إلى امرأة قبيحة، لا تخلع الملابس السَّوداء، لا تستحم، لا تسرِّح شعرها، يأتيها "إبراهيم" ليلًا في فراشها، مجبورًا بنزوات الاشتهاء الجنسي، فتعطيه جسدًا ميتًا، وقلبًا تفوح منه رائحة احتراق لحم الولدين، يؤدِّي الغرض، يخرج من الغرفة ملغَّمًا بالنَّكد، يدور في الشَّوارع بدرَّاجة تحمل قفص طيوره وروح مثقَّلة بالهم؛ سعادة الرَّجل ليست في الأموال، ولا في العيال، وإنَّما في زوجة بهيَّة تتأنَّق وتتألَّق، و"زليخة" كئيبة آخذة في الأسن والتَّعفُّن، غير أنَّه قرَّر الصَّبر إلى المنتهى.

استمرَّت تسيء لـ"إبراهيم" أكثر من عشرين سنة، تواصل الابتعاد، تغرق في سرحاتها الشَّاذة، تلبد في صمتها، تفزع أحيانا وهي تصرخ: النَّار. النَّار.

مع الوقت نست أنَّ زوجها رجل يجب منحه ولو القليل من الاهتمام، لكنَّه لم ينس تعنيفها، لا يمر يوم إلا ويزعق فيها، يلومها، يُبكِّتها؛ هل هناك امرأة تنسى أنوثتها لأكثر من عشرين سنة؟! لكنَّه لم يفكِّر في استبدالها بامرأة تُبهج قلبه، ولا حتَّى بالزَّواج عليها! "زليخة" معذورة، موت الضَّنا يذبح، فكيف إذا احترق؟

ـ "زليخة".. هل تُحبِّين زوجك؟

ـ كيف أحبُّه وهو السَّبب في موت ولديّ؟!

ـ إنَّهما ولداه كذلك، وحزين عليهما.

ـ حزين؟! أين؟ ذا كل همه شغل الليل، عديم الإحساس يريدني أتزيَّن له وأمتِّعه بعد كل الذي جرى!

ـ حقه، حرام عليكِ.

ـ يتزوَّج، أنا لن أمنعه.

ـ يبدو أنَّه يحبُّك ولا يرى غيرك.

ـ يحبّني؟ قبر يلمُّه، البارد.

منذ شهر جرت في "الجُبيرات"، إحدى القرى الكبيرة من مركز "طهطا" في محافظة "سوهاج"، وقائع نهاية رائعة لإحدى أعظم القصص الإنسانيَّة. إذ علت "سرينة" سيَّارة "تكريم الإنسان" مخترقة شوارع القرية قادمة من "القاهرة" تحمل جثمان "إبراهيم" متَّجهة إلى المقابر.

كانت "زليخة" قد وصلت بالقطار، دخلت بيت العائلة المكلومة بموت ابنها، الذي لم يتوقَّف طموحه رغم دنوّه من سبعينيَّات عمره، استقبلتها النِّسوة بالصُّراخ، استقبلتهن بالصَّمت قبل أن تدخل إحدى الغرف لتستريح قليلًا من عناء السَّفر.

لم يكن عناء رحلة القطار هو سبب إجهادها، ربما عناء رحلة الحياة، عاشت حياة طويلة في بؤس لم تعرف سببه! كان "إبراهيم" ابن الحياة، يريدها غنَّاجة، وكانت بنت بيئة الجفاف، تُقدِّم الخير ملفوفًا بالجمود، ربما لو أنَّها تخلَّت عن الحنجرة اليابسة لما احترقت عرائسها؛ هي من أحرقت العرائس في بلاد الغربة! لو فتَّشت قليلًا لربما اكتشفت أنَّها هي من أحرق الولدين! ظلَّت لأكثر من ثلاثين عامًا تحرق قلب الرَّجل "أبو جسم طول وعرض" حتَّى مات! 

فيم أخذت تُفكِّر أيضًا وهي ممدَّدة في فراشها؟ ربما في أن "إبراهيم"، مع كل أفعالها الرَّديئة لم يتزوَّج عليها، ظلَّ طوال كل هذه السِّنين عاقدًا الأمل في صحوة قلبها، لكن قلبها لم يفعل!

فليفعل الآن.

قبل غروب شمس نفس اليوم، حلَّقت أسراب غربان في سماء الجبَّانة مُتَّجهة إلى وكناتها بين جريد النَّخيل، أسراب قرادين تلمع ببريق الذَّهب تحلِّق في نفس السَّماء، الحفَّار يفتح باب نفس المقبرة، مرَّة ثانية، في نفس النَّهار، ليضع جثمان "زليخة" في العين المجاورة لجثمان "إبراهيم". 



 

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة